سوق العناقريب – الحلقة الأخيرة

سوق العناقريب
تلك الأيام
الحلقة الأخيرة
1-
وكان للهوى العذري مكانه في السوق، والذي يشعل جذوته، إطلالة صبايا حلة الجديد، عصر كل يوم، لجمع بقايا أعمال النجارة، لاستخدامها في إشعال نار الطبخ والعواسة بمنازلهن. ولا يمانع أصحاب الدكاكين في ذلك، باعتبار أن ذلك يساعد على نحوٍ ما في نظافة المحل. وكم من قصة عشق نشأت بين بعض الصبايا، وشباب السوق, لكنها كانت لا تتعدى النظرات، وبضع كلمات، لا تروى عطش القلب وتلهفه. ثم لا شيء أبعد من ذلك. كنا نكني بعضهم، باسم محبوبته المفترضة، ونداعبه به بعيداً عن آذان الكبار.
( العوض)، شاب في نهاية العقد الثاني من عمره, من أهل البادية, عمل معنا لفترة من الزمن بدكان العم سلمان, وقع في هوى إحدى الصبايا, وتمادى فيه, بصمت. لا هو باح لها بعشقه، ولا هي فطنت إلى أن ابتساماتها العفوية قد أحدثت شرخاً بفؤاده. كان كل همه اليومي، جمع أكبر كمية من بقايا النجارة، يقدمها لمحبوبته عربون عشق ومحبة,ثم يظل أغلب ليله ساهداً، يناجي طيفها العصي. حتى إذا ما سمع يوماً أنها في طريقها للزواج, مرض مرضاً شديداً حار فيه الكل. حتى أشار رجل من ذوي الخبرة والحكمة على ذويه أن يزوجوه, فعلوا, فشفى صاحبنا, ومن يومها ترك السوق إلى غير رجعة.
وبما أنه لا يوجد مجتمع كامل الأوصاف, وإن وُجِدَ مثل هذا المجتمع, فمن المؤكد أنه يشكو من علّةٍ ما في تكوينه, وخللاُ في تركيبته, لذا فإن سوق العناقريب كان فيه الصالح والطالح, إلا أن صالحه يُكْبِحُ جماح طالحه, فلا يبين, ومثال ذلك (حسين)، رجل في أواخر العقد الرابع من عمره, أعزب, ذابل العينين, شاحب الوجه, لا يتكلم مع أحد، ولا يكلمه أحد إلا نادرا، وفي نطاق العمل, هوايته وجنونه ( البصبصة), وأين ؟، في الأزقة التي تسكنها بائعات الهوى. يحافظ بدقة متناهية، على مشواره اليومي، عند الظهيرة، لتلك الأزقة. لا يفعل شيئاً سوى المرور على بيوت العاهرات بيتاً بيتا, يستمتع باستراق النظر من ثقب المفتاح لبائعات الهوى المضّجعات، نصف عاريات، في مثل ذلك الوقت. ثم يكر راجعاً إلى السوق، يفعل ذلك يومياً دون كللٍ أو ملل. الغريب في الأمر، أن جميع أهل السوق، يعرفون علته تلك، ولا يتكلمون, وهو يدري أنهم يعرفون، ولا يكترث لذلك كثيرا. رأيته مراراً يمارس هوايته تلك في (شارع بيتنا)، بعد أن تركت السوق, كان ينظر نحوي أحياناً، وهو يعرفني، إلا أنه يتجاهلني عمداً. .
وهنالك أيضا ( سعيد )، مدمن الخمر, بالرغم من أنه صانع ماهر، إلا أن إدمانه جعله زائراً دائماً للحراسات والسجون. فهو لا يخرج من السجن إلا ليعود إليه. حتى حين يأتي للسوق، فهو لا يفتأ يثير المشاكل، حتى ضاق به السوق فلفظه, لا أدري ماذا حلّ به بعدها, إذ لم يأتِ ذكره على لسان أحدٍ في السوق بتاتاً.

2-
أول أيامي بالسوق، كنت أعجب لحال عددٍ من الصبية الصغار بالسوق, ظننت أن لهم بيوتاً يأوون إليها بعد نهاية العمل اليومي. إلا أن ظني تبدل حزناً وإشفاقا وعطفاً عليهم، حين اكتشفت أن هؤلاء الصبية يعيشون مع آبائهم بالسوق بعيداً عن أمهاتهم.
ثم اتضح لي الأمر بعد حين. إذ درج بعض رجال السوق على إحضار الأبناء من مسقط رأسهم البعيد، حين يشبون عن الطوق. والمعروف أن أهل السوق معظمهم من منطقة المحمية وكبوشية وما جاورهما من القرى, وهم الذين أدخلوا صناعة العناقريب إلى المدينة. كان معظمهم في البداية، يتخذ من السوق مكاناً لعملهم وسكنهم وسكن الأبناء معهم, إلا قلة أحضروا أسرهم ليعيشوا معهم، ومن هؤلاء القلة، العم سلمان، وآخرون يعدون على أصابع اليد الواحدة.
ثم تبدل الحال، بعد أن ظهرت مخططات جديدة بالمدينة (أبو خمسة وغيرها), والتي أعرض الكثيرون من سكان المدينة عنها، متعللين بموقع تلك المخططات النائي، كما كانوا يقولون. إلا أن أهل السوق كانت لهم نظرة أخرى، أثبت الزمان صحتها مستقبلاً. اغتنموا الفرصة, وأخذوا نصيبهم من تلك المخططات, شيدوا فيها مساكنهم، غير عابئين بما كان يقال. ومن ثم أحضروا عائلاتهم, ولم يتبق من يتخذ السوق مسكناً، سوى العزّاب من الصنّاع0
كنت أشفق على هؤلاء الصبية، وأتخيل وضعي في مكانهم، بعيداً عن حنان الأم ورعايتها, فينفطر قلبي حزناً على حالهم. إلاّ أن آبائهم كانت لهم في ذلك حكمة، وبعد نظر، وقراءة سليمة للمستقبل, أتت أُكلَها لاحقا. ونقطة الارتكاز في رؤيتهم تلك، هي التعليم، ولاشيء غير التعليم. وبعكس أصحاب المهن الأخرى، الذين غالباً ما يهيئون أبنائهم لخلافتهم في المهنة, فإن أهل سوق العناقريب كان لهم رأي آخر، يحملهم لأبعد من ذلك, وكأنهم كانوا يتوقعون أن هذه المهنة ستندثر في مقبل الأيام, وأن الناس ستتجه وجهة أخرى.
قد يسمحون لأبنائهم بتعلم شيء من النجارة ومساعدتهم في بعض الأعمال, إلا أن التعليم المدرسي له الأولوية, ليس فقط التعليم بل التميز فيه, ولا عذر لأي منهم في أن يأتي ترتيبه خارج الخمسة الأوائل. ومازال تصرف العم مهدي مع ابنه ماثلاً أمام عيني حتى اللحظة, حين جاء ترتيب ابنه الثاني ولأول مرة، فينال جراء ذلك عقاباً قاسيا, أشفقت عليه حينها أن تزهق روحه بين يدي والده. كان صبياً مجتهداً، هادئاً، يحبه الجميع لدماثة خلقه، واحترامه للآخرين، إلا أن ذلك لم يشفع له حينها. وكانت تلك المرة الأخيرة التي يتأخر فيها ترتيبه. حتى تخرجه من الجامعة.
بالرغم من معاتبة أهل السوق للعم مهدي على تصرفه ذاك, إلا أنهم كانوا يبطنون سرورا, إذ أنها رسالة لأبنائهم بما ينتظرهم في حال تقاعسهم, ولو أن بعضهم يتسامح على مضض مع أبنائه، حتى المرتبة الخامسة كخط أحمر، لا يجب تجاوزه إلى ما دونه.
في نهاية العام يحتفي أهل السوق بالناجحين, ويكرّمونهم, ويتابعون مسيرتهم الدراسية باهتمام حتى نهاية مراحلهم التعليمية. ولا أعرف أياً من أولئك الصبية الذين عاصرتهم بالسوق، تخلف، واتخذ من نجارة العناقريب مهنة يعتاش منها.
وبما أني أصبحت داخل تلك الدائرة, كان لزاما عليّ ألاّ أتأخر عن الركب, وقد فعلت.

3-
حتّمت ظروف الدراسة والعمل ابتعادنا عن السوق, إلا أننا ظللنا نرتبط به من خلال الزيارات المتباعدة في العطلات, تلك الأيام التي يمتلئ فيه السوق بالصبية الذين شبوا وتعلموا وتوظفوا والذين مازالوا يدرسون.الطبيب، المهندس، الموظف الكبير، المدرس، الطالب الجامعي. تراهم يقتعدون البنابر، لا يتبجحون بعلمهم ولا بوظائفهم ولا بمكانتهم الاجتماعية, بل هم لما يدور من حديث ومناقشات بين الكبار, مُنْصِتون, لا يتكلمون إلا إذا سُئلوا.
شيئاً فشيئاً، أصبح السوق يخلو من الصناع المهرة, فالمهنة ما عادت كما في السابق. العائد منها أصبح شحيحاً، بتطور صناعة الأثاث المنزلي، و نشوء صناعة الأسرة الحديدية، ومحلات الموبيليا, وما عاد الناس يشترون العناقريب والبنابر إلا لماما. الذين لديهم عناقريب قديمة، احتفظوا بها بعيداً عن الأعين كذكرى لأيامٍ خلت. حتى الأخشاب التي كان يجلبها أهل البادية، أصبح الحصول عليها عسيراً، في ظل التطورات الاجتماعية، والسياسية، والحروب التي عمت أجزاء من المنطقة.
الكبار من أهل السوق, انسحبوا منه، إما بعامل السن والعجز، وإما بالعودة إلى مسقط الرأس، بعد أن كبر الأبناء وتعلموا وتوظفوا . واتجه شباب الصنّاع للوظائف الحكومية, والتحق بعضهم بالقوات النظامية, القوات المسلحة، الشرطة، السجون. وهجر آخرون المدينة إلى مدن أخرى. وجاءت الضربة القاضية، المتمثلة في التخطيط الجديد للأسواق، الذي أطاح بسوق العناقريب، إلى أقصى شرق المدينة، وشُيدت في مكانه البنايات الأسمنتية المتجهمة, متعددة الأدوار.
حين أسير أحياناً بجوار المكان الذي كان به سوق العناقريب, خاصة في الصباح الباكر, تعود بي الذاكرة إلى أيام مضت، أرى وقتها، بعين خيالي، مجموعة من الصناع يقتعدون المساحة المرشوشة أمام المقهى المقابل للسوق, يرتشفون أكواب الشاي، وصوت المقرئ الشيخ( عوض عمر )، يأتي صافياً قوياً مؤثرا, وهو يتلو آيات من القرآن الكريم، في افتتاح برامج الإذاعة السودانية. بعد انتهاء التلاوة، يدير صاحب المقهي، مؤشر المذياع، فيأتي الصوت الذي ينتظره الجميع:
– هنا لندن, هيئة الإذاعة البريطانية، نشرة أخبار السادسة صباحاً.
ويعم الصمت أرجاء المكان
يالها من أيام
انتهى
……………………………………..
الطيب محمود النور

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا سلام يا سلام ان في البيان لسحرا

    وان لسرد الطيب لطيبة وحلاوة وطلاوة

    شكرا لك ايها الوريف والاديب والاريب

    سؤالي هو هل للاستاذ الطيب مطبوعات

    او ديوان باسمه في المكتبات وهو في النية

    اصدار ديوان باسمه حتى تستفيد الاجيال القادمة

    من هذا التراث لمجتمع بدات تتهالك كل موروثاته

    انا قلت ديوان لان الطيب يذكرتي بابي الطيب المتنبي

    الذي بديوانه هز العالم.

    وبعدين يا الطيب استعجلت للنهاية ليه يا اخي

    وخليتنا في نصف المسافة عموما شكرا لك وسوف

    نتواصل معك عبر الايميل ان شاء الله شكرا مليار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..