
يحضرني في هذه المقالة ما قاله خبير العلاقات الأفريقية إدي توماس (إن مستقبل السودان الذي تقرره النخب _ قد يعمل علي إدامة سياسية الإقصاء). وبذلك ، لم أكن مخطئاً إن قلت أن عملية الإنتقال التي تعيشها البلاد ستذهب بنا أدراج الريح ، إن لم نُحسن إدارتها وتوجيه مساراتها عبر نسق من الرؤى والبرامج ، ولعلني هنا لا أقصد فشل ثورجة الفعل لصالح التحول، بل فعل بعض القوى المركزية عند تعاطيها مع المقترحات والتسويات التي تنتج مع أي فعل سياسي أو إجتماعي.
وهذا بالطبع لم يكن في صالح القوى المركزية، ومحاولاتها التي لم تنتهي بعد, تجاه مركزة الدولة بقطع الطريق أمام هذه التكوينات التي تتطلع إلي بناء دولة فيدرالية ، تناسب رؤيتها وتصوراتها ، التي تتطابق مع التكوين الأوّلي لهذه الدولة .
وبما أن السودان في الفترة التي سبقت ثورة ديسمبر 2018م ، شهد تفاعلاً غير مسبوق في العديد من القضايا التي كانت, ولا تزال محل خلاف كبير نتيجة لتعطل الحركة السياسية من خلال تبني النظام لأحادية في الطرح ، رغما عن المسرحيات التي تنشأ من وقت لأخر بإسم الشرعية الثورية عبر الإنقلابات وبسبب ديمقراطية النادي السياسي القديم الشكلية، التي لم تجد سنداً شعبياً لهشاشتها وضعف ائتلافاتها أنتجت حالة من الإحباط واليأس وسط القوى الصاعدة ، وعطلت حيويتها لينتج بديلاً عن ذلك حالة من الإنقسامات وتحالفات السلطة والمال التي عادت بالدولة إلي الوراء.
إن العجز البائن في الخطاب نحو بناء الدولة ، وتحقيق تطلعات وأمال الشعب في الإستفادة من مواردهم المحلية يظل سبباً رئيسياً وراء تعثر عملية الإنتقال والتحول ، ويعكس مدى عدم قدرة هذه القوى المركزية في إنتاج مشروع وطني يؤسس لإدارة هذه التناقضات الإجتماعية والثقافية ، وبالتالي التمكن من السيطرة علي الإنقسامات لصالح تطوير الولاءات المحلية بتأسيس تكوينات فيدرالية حقيقية نستطيع من خلالها مواجهة الأزمات العامة بصوره مباشرة ومفتوحة مع المواطن، خلافا لهذه التكوينات المشوهة.
في السودان لم تعد المسألة في أن نفاضل بين ما هو أصولي وعلماني، أو أن نفرق بين ماهو وطني وماهو غير وطني ، بل هي مسألة إيجاد بديل يحدث فرقاً في الممارسة السياسية ويغير من قواعد اللعبة في الحكم والإدارة _ في الإقتصاد والإجتماع . بديل يدرك أهمية التحول ويصبح من اليسير عبر مشروعه التعايش بين مكونات الدولة ممكناً علي أسس الاعتراف. وواقعياً في عملية ادارة الاختلاف ، وسهلا وميسورا من أجل المحافظة علي وحدة الدولة . وهذا ما لا يمكن تحقيقه الا عبر نسق من العلائق المفاهيمية والطرح البرامجي بعيدا عن غلاف الايدولوجيا ولغة الضد . لتصبح الثوابت وطنية سياسية بعيدة عن المضامين العقائدية التي تعمل علي اقصاء الآخر وفق قوالب جاهزة.
لعلنا في هذه المساحة لا حاجة لنا للتأكيد علي أن ثورة ديسمبر لم تشتعل بغرض التغيير السطحي بل جاءت لرفض كل ماهو قديم، ومؤخر لصيغ التعايش والحاجة الي إبتكار آليات جديدة وفريدة ومتجددة والعمل علي إدارة عملياتها بين كل مكونات المجتمع ، لمجابهة هذا الواقع المتردي بإعمال المنطق وتغليب خيارات الشعب علي مصالح حاكميه التي ساست هوياته باحادية وصيغ حضارة مستجلبه ، تعارضت وقيمه.
ففي ظل التطور الإنساني تصبح الحاجة إلي دولة مدنية ديمقراطية يتعايش فيها الناس علي أساس المواطنة المرتكزه علي أسس دستورية للعمل علي تثبيت شعار ثورة الشعب في الحرية والسلام والعدالة.
إن ما يثار من تناقصات ايدولوجية ضد منحنى الثورة نحو البرامجية، والإتجاه الي صناعة تحالفات زائفة ، يعكس مدى معايشة القوى العقائدية لحالة من الإنفصال الداخلي ، بصناعة توترات تجعل من التحول أمرا صعباً ومعقداً ، ما يستدعي إصطفافاً جديداً لقوي الثورة ، لا مكان للسكوت علي مثل هكذا تصرفات فالأمر يحتاج برمته إلي فتح أبواب المسآلة وتوضيح الحقائق التي تنتج الصراع في الداخل ، وتستجلب تدخلات الخارج.
لقد آن الأوان لقوى الثورة أن تعمل ككتلة سياسية جديدة تُعبر عن غالبية أهل السودان أصحاب المصلحة في التغيير ، غير مركزية الهوية والهوى. نظراً لحالة التردي التي أصابت الحياة العامة وما ستفرزه من إتهامات وصراعات جهوية وعنصرية بين مكونات التغيير، ما يتطلب الامر ضبط الخطاب حفاظا علي منجزات الثورة والوصول بها إلي غاياتها في تأسيس دولة السلام والوحدة والرخاء. لا أحد إن بنية وطبيعة النظام السياسي تتأثر بالأوضاع الإجتماعية والإقتصادية للدولة ، وذا الأمر يتطلب تأييداً ومساندة يجعل من أمر الإستقرار السياسي ممكناً ، وفي ذلك نقول إن تحقق مطالب الشعب عبر ثورته لا تكتمل إلا بإعتراف السلطة القائمة بأهمية التأسيس للتحول الديمقراطي الذي يستوعب مطلوبات القطاعات الواعية والواعدة والمؤثرة التي انتجت هذه الثورة المجيدة. لأن قضيتي الإصلاح السياسي والمجتمعي باتت هي الشغل الشاغل لمكونات التغيير التي لم تكن الأحزاب جزء منها حتي وقت قريب.
وبالنظر إلي ملامح الفترة المقبلة تظل هذة القضية – قضية إحلال قوى سياسية أقل تأدجلاً، من شأنها أن تسدل الستار علي هذه التوترات والصراعات عبر إصطفاف جديد يصنع تحولاً راشداً تسنده رغبة مجتمعية وإرث سوداني بمشاركة الجميع في تأسيس سودان واعد ، بتغليب الحكمة وتجاوز العجز في الوفاء بإسحقاقات بناء الدولة ، بدلاً عن صناعة الأزمات تلو الأزمات لتقات القوى العقائدية علي طرق معالجتها.
وفي ذلك نقول أن لثورة ديسمبرالمجيدة اليد الطولي في توجيه قادة الفعل السياسي في البلاد طولاً وعرضاً رغم إختلاف إنتماءتهم الفكرية والسياسية . بما في ذلك أبناء الهامش الذين ظلوا حتى وقت قريب هم جزء من معوقات التحول بإتخاذهم طابعاً محلياً وجهويا، مما حدا بهم للتفكير الحي أن سودان ما بعد الثورة هو التخلص من هواجس المحلية والجهوية وتقسيمات الأنا والضد التي أنتجت الحروب والإنقسامات وبات اعترافهم بأن مطلوبات التحول لا تتم إلا بخطاب عقلاني عبر تحالفات من شأنها صناعة الفارق في الممارسة السياسية بتجاوز كل ما هو قديم ، وفي مقدمة ذلك ثنائية اليسار واليمين والغرب والشرق ، تماشيا مع التطور الثقافي والإجتماعي للشعوب السودانية ، وتدعيماً لتجربة الفيدرالية في الحكم كمبدأ لإدارة التنوع وتحقيق أكبر قدر من التوازن بين مكونات الوطن وإستجابة للواقع الجغرافي بين الأقاليم .ولإن قضية الفيدرالية تعني في المقام الأول بتطوير الولاءات المحلية ، وتفتح نفأجاً للتكامل القومي بين ابناء هذا الوطن . يجب أن ينسحب هذا الخطاب الي القوي المجتمعية والسياسية . ولكيما نصل إلي تكامل قومى وحقيقي وعلي الرغم من أن التعدد الحزبي يمثل إطاراً شرعياً للعملية السياسية ، ويمكن الحزب في أن يصبح أداة حقيقية لصنع السياسات العامة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية وفي أمور السياسة الخارجية. لابد من سن تشريعات تحظر قيام أحزاب علي أسس قبلية أو دينية أو إقليمية، لأن وجودها يعرقل بناء الدولة.
عبدالرحمن سليمان بابكري