مقالات وآراء

إدريس جمّاع شاعر الوطنية المُلهم كان ضيفاً على ثورة 19 ديسمبر المجيدة …

عبد المنعم عيسي كرار

في بواكير العام 1945 حلّ الشاعر الأديب إدريس محمد جمّاع ضيفاً عزيزاً على مدينة الأبيض عبر رحلةٍ طويلةٍ بالقطار، كانت عجلاتهِ تطوي القضبان وتُسارع الخُطى قبل أن تبلغ الرحلة مُنتَهاهَا .. أنشد جمّاع قصيدة الفجر المرتقب لأول مرة بالمهرجان الأدبي بمدينة الأبيض في نادي الخريجين حيث موقعهِ الفريد في عمق المدينة وقلبِها النابض، الذي لم يزل نبراساً شامخاً يتحدي جبروت الإنقاذيين ويُصارع حِقبة الدكتاتورية والشمولية علي إمتداد ثلاث عقود من الظلام..

بالقُرب من ذات المكان تقف كنيسة الأقباط الأرثوذكس تحكي عن مآثر وجمال المِعمَار القبطي وتُقارع أجراسها أصداء التاريخ شاهدةً علي التعايُش عبر أزمان تلك المدينة الوادعة، ظلّت الذكرى عالقةً بذلك الزمن الجميل، كُنّا يافعين وقتها نلبي الدعوة ونشارك أصدقائنا وزملاء الدراسة بالمدرسة الأميرية أذكر منهم (عيّاد لطفي أيوب .. روماني فصيح القُمص .. الصادق صبحي سيفين) الأفراح والأعيّاد في باحة وبهو الكنيسة .. تعرّفنا على صوَر البطل مار جرجس الروماني وهو علي صهوة الحصان يُقاتل ذلك الوحش الأسطوري، وتاريخ القديس مار مرقس العظيم وملاحم عصر الشهداء، ثم قصة القديس سمعان الخراز على أيام صلاح الدين الأيوبي، تعرّفنا على تاريخ الأديرة وقصص الرُهبان في مصر، كانت صور السيدة مريم العذراء ولوحات القديسين تُزين الجدران والأبواب تحكي عن روعة الفن القبطي على مر العصور..

ليس ببعيد عن المكان، قبة ومسجد الشيخ إسماعيل الولي، أو كما عُرف في أوساط المتصوفة وعشاق الأدب الصوفي وعموم أهل المدينة (بالأستاذ).. ومن ذات المكان وفي ذاك الزمان صدر العدد الأول من جريدة كردفان في الأول من نوفمبر من العام 1945، كان الأستاذ الفاتح النور ينشر الإستنارة ويبث الوعي ويتبني قضايا الوطن وهموم المعرفة والثقافة، بفكرٍ ثاقب وسخاء غير محدود.. ومن ذات المكان و قبل 62 عاماً تحركت جيوش الإمام محمد أحمد المهدي نحو شيكان التي لم تكن معركةً فحسب، وإنما ملحمة من ملاحم التأريخ تفوق في الوصف أمجاد الحروب الأسطورية في العالم القديم، كان ذلك في نوفمبر من العام 1883م..

هذه البقعة التي تُطِل على الحي الأعرق والأشهر في مدينة الأبيض، شكّلت بالنسبة ليّ مصدراً للإعجاب والإلهام والحيرة ولم تزل كذلك، لماذا هذا التجانس وذاك التقارب في عبقرية الزمان والمكان وتقف شاهدةً علي العصر بكل الملامح والشخوص والأحداث، من هذا المكان السحري تسمع دقات الطبول وهي تشق صمت الليل مع أصوات المُداح الندية ورنين النحاس، ثم تعلوا أنغام الموسيقى وألحان الغناء والطرب في ليالي فرقة فنون كردفان، وتصدح أجراس الكنيسة ثم ترانيم الصلاة، ويُرفع الآذان من المساجد التي تُحيط بالمكان وتقام الصلاة ويُتلي القرآن..

نشأ الشاعر إدريس في كنف أسرته المحافظة وكان والده المانجل محمد جمّاع بن الأمين بن الشيخ ناصر، كان إدريس من رواد الرومانسية والوطنية في الشعر السوداني ، وكانت الفترة التي قضاها في كلية دار العلوم (جامعة القاهرة) جعلته من محبي جماعة الديوان الشعرية وأحد المنتمين إليها ومن رواد التجديد في الشعر والأدب، ولعل عبقرية إدريس وتقافته الرفيعة جعلت منه شخصية متفردة، تسعي دوماً نحو القيم الرفيعة والنبيلة التي تجلت بوضوح في قصائدهِ الشعرية الرومانسية منها والوطنية على الخصوص..
البعض من قصائد إدريس جمّاع ذات ملامح وطنية مغعمةً بالعاطفة نحو الوطن والإدراك الشعوري الواعي نحو النِضال والتغيير الدائم والرفعة والسمو،، وهي ذات القيم التي من أجلها أنطلقت ثورة 19 ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام الحركة الإسلامية البغيض، بثورةٍ لم يشهد التاريخ لها مثيلاً بعد حكم دام ثلاثون عاماً من الجبروت والطغيان والظلم والفساد..
قال الدكتور عبده بدوي في كتابهِ «الشعر الحديث في السودان» إنّ أهمّ ما يُميّز الشاعر جمّاع هو «إحساسهِ الدافق بالإنسانية وشعورهِ بالناس من حوله» .. وبتلك المعاني الرفيعة تعانق روح الشاعر إدريس جماع بعد أربعون عاماً علي رحيلهِ أرواح شهداء الثورة العظيمة وكأنهم علي موعدٍ معاً في مشوارهِم السرمَدي نحو الخـــــلود..

الفجر المرتقب:

أمة للمجد والمجد لها وثبت تنشد مستقبلها
رو نفسي من حديث خالد كلما غنت به أثملها
من هوى السودان من آماله من كفاح ناره أشعلها
أيها الحادي انطلق واصعد بنا وتخير في الذرى أطولها
نحن قوم ليس يرضي همهم أن ينالوا في العلا أسهلها
وقريبا يسفر الأفق لنا عن أمان لم نعش إلا لها
إنه الفجر الذي يصبو له كل ملهوف تمنى نيلها
لكأني بالعذارى نهضت وبناء الجيل أمسى شغلها
بهوى السودان غنت لحنها وأدارت باسمه مغزلها
نهضة نادت فتاة حرة وفتى كى يحملا مشعلها
نهضة نادت فتاة حرة وفتي كي يحملا مشعلها..

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..