فضيلي جماع : الفن وسيلة جادة للتحريض على الفعل الحضاري وبث الوعي

حوار – نصر الدين العماس
فضيلي جماع.. تمازجت عنده ثلاثية القصيدة والرواية والمسرح.. حروفه معطونة في أديم بلاد لم تحل المنافي بينه وبينها.. الوطن عنده ماعون انصهرت فيه تجاربه كإنسان تربطه بالناس فيه رابطة دم ومشاعر وهموم حياتية مختلفة.. ترهقه عذابات الناس في عالم، كلما طفرت فيه التكنولوجيا والعمران زاد الظلم ومآسي الناس.. إلى مضابط حوارية ضمتنا معه.
* غربة الشاعر ما بين الخصم والإلهام.. هل تتآكل مفردات الشاعر بفعل الاغتراب، أم تستدفئ بأشواقها الداخلية لتخرج رقراقةً؟
– لعل من الإنصاف لي وللقارئ أن أتحدث هنا عن تجربتي الخاصة زهاء ربع القرن بعيدا عن وطني من حيث المكان. لم أشعر وجدانيا طيلة هذه السنوات أنّ الوطن بعيد. على العكس تماماً تبدو التفاصيل الدقيقة متاحة ويمكن التعامل معها بعمق لا يتوفر لمن هو داخل البلاد أحياناً. ثم إن عصر الإنترنت قرب المسافات وجعل المعلومة متاحة على مدار الساعة. أعتقد أن حروفي مقروءة في الداخل عبر وسائط النشر باستمرار. صوتي – كمُعطَى إبداعي- ظل باقياً في وطني!
* المزاوجة ما بين الرواية والمسرح والشعر.. أثر الثلاثية في تكوين عوالم فضيلي جماع؟
– لم يكن اختيار الجنس الإبداعي محط تفكيري وأنا أكتب الشعر أو الرواية أو المسرح. ولعل كل محاولة لي في هذه الأجناس الثلاثة كانت في البداية محض تجريب. طبعاً من المفيد لأي كاتب التركيز على شكل واحد من أشكال الكتابة حتى يعطي غاية ما عنده من جهد.. لكن تقضي الضرورة أحيانا ? وهنا أتحدث عن تجربة خاصة- تقضي الضرورة أن يكون التعبير عن المسألة الإبداعية شعراً مثلا، فلا أملك سوى أن أكتب معاناتي شعراً. الجنس الإبداعي في حالتي هو الذي يملي الشكل. وأنا لست استثناء.. مبدعون كثيرون في تاريخ الأدب العالمي جمعوا بين الشعر والرواية وأشكال أخرى من التعبير. وفي حالة تجويد العمل فإن هذه الأجناس الفنية والأدبية ترفد بعضها بعضاً بما ينعكس على القاموس والعبارة ومقدرة الكاتب على استخدام صور ورموز وحيل فنية عالية الجودة.
* كان الوطن وكنت معي.. حتى في الساعة الخامسة والعشرين.. النهر والغابة والكثير من العناوين والنصوص.. ارتباط فضيلي جماع بقضية الوطن وأحلامه؟
– العناوين التي ذكرتها أخي العماس منتج إبداعي شعري ونثري في أماكن وأزمان مختلفة، لكن يربط بينها خيط سحري واضح وقوي؛ علاقتي بقطعة أرض رأيت الشمس والقمر فيها أول مرة، وشهدت هذه الأرض شجوني وأتراحي ردحاً من العمر.. وجربت فيها العشق حد الوله والتصوف.. أعني الوطن. فوق ذلك فإن الوطن ماعون انصهرت فيه تجاريبي كإنسان تربطه بالناس فيه رابطة دم ومشاعر وهموم حياتية مختلفة. الوطن بالنسبة لي إثبات هويتي كإنسان ينتمي لهذا العالم. وانشغال نصوصي بالوطن في هذا الظرف الحرج من تاريخنا هو من باب الواجب والالتزام تجاه الأرض والإنسان.
* الشعر ومجمل الآداب هل هي للترفيه والسلوان أم لمداوة الجراح واستنهاض الهمم والقيم؟
– يقول جان أنوي: الفن ضرورة قصوى، وآهٍ لو أعرف لماذا؟! الفن عندي وسيلة جادة للتحريض على الفعل الحضاري وبث الوعي وترقية أذواق الناس. لم أشعر يوماً وأنا أكتب بأني أمارس التسلية والترفيه. تلك مهمة ربما ينصرف لها غيري ممن تقصر رؤاهم وثقافتهم عن رؤية عذابات الناس في عالمنا الذي كلما طفرت فيه التكنولوجيا والعمران زاد الظلم ومآسي الناس!
* بعد أجيال الفيتوري وتاج السر الحسن وصلاح أحمد إبراهيم.. هل انحسر مد الشعر القومي المنفعل بقضايا الأمة والقومية؟
– لكل مرحلة همومها وقضاياها. وأظن أنه ليس من الإنصاف إسقاط تجارب وأنماط إبداعية في زمن ما على فترة زمنية لاحقة تختلف معطيات الحياة فيها اختلافا كبيراً من سابقتها. ساهم جيل الشعراء العظام : محمد مفتاح الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن ومحيي الدين فارس – ومعهم لاحقاً صلاح أحمد إبراهيم وآخرون- ساهم ذاك الجيل في إرساء الشكل الجديد لقصيدة التفعيلة والتي لم تكن ثورة في الشكل فحسب، بل طرحت الهم القومي وقضايا التحرر من الاستعمار. هذه القضايا تلونت اليوم وأخذت بعداً آخر. أصبح الداخل (المحلي) بتعقيداته الكثيرة في الاقتصاد وبناء الدولة العصرية: دولة التساوي في الحقوق والواجبات أكثر الأمور إلحاحاً. والشاعر هو ابن بيئته ومرحلته.
* زخرت أكتوبر بالعديد من النصوص الكبيرة.. شيئاً فشيئاً بدأ الصوت في الانزواء. هل يصنع الحدث أم تصنعه الأحداث ليأتي فقط موثقاً لها؟
– لو صح أنني فهمت سؤالك فإنّ النصوص الكبيرة التي دخلت دفتر الأدب السوداني إبان وبعد انتفاضة أكتوبر 1964 كانت وليدة حلم الناس بالتغيير آنذاك في عالم يتوق لبناء مجتمعات عصرية. ثم إنّ ما كان يحلم به الأدباء والفنانون ما كان بالتعقيد الذي نعيشه اليوم. يلاحظ أنّ أكثر الشعر طليعية آنذاك هو ما كتبه شعراء من أمثال محمد المكي إبراهيم وعلي عبد القيوم وهاشم صديق وقبلهم الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وصلاح أحمد إبراهيم.. وهؤلاء جميعاً كان الوطن والشعب في شعرهم (قبل وبعد أكتوبر بقليل) يتسم بكثير من الرومانسية. لم تكن بلادنا قد بلغت الحضيض بين الأمم في كل مجال كما هو الحال الآن. وحين تقرأ (أمتي) لمحمد المكي إبراهيم ? وهو صوت أكتوبر البارز دون منازع – حين تقرأه بحيادية الآن – ترى أنّ الفارق بين (أمتي) وأشعاره التالية كبير من حيث صياغة العبارة واستخدام الرمز. نجد مثلاً أن (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) لنفس الشاعر جاء في لغة رصينة، ونفس هادئ، بعيدا عن الشعارات والهتاف! عامل العمر ونضج التجربة والحصيلة الثقافية كلها تلعب دوراً في المنتج الشعري.
خلاصة القول إنّ الحدث الكبير ربما يلد عملا إبداعياً كبيرا لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك آنياً ومباشراً. بعض النصوص الأكتوبرية مثلا كتبت قبل بزوغ شمس 21 أكتوبر بسنين.. لكن كما قلت لك لا يمكن عزل تلك النصوص من سياقها التاريخي وما كان عليه العالم وأحلام الناس آنذاك.
* تشهد المنابر انتشارا واضحاً للشعر الحداثوي وازدهاراً في حقل الرواية.. كيف ترى المستقبل المصطرع ما بين القصيدة والرواية؟.. وهل انقضى زمان القصيدة المقفاة؟
– تجد الرواية كجنس أدبي اهتماماً واسعاً منذ أن تقدمت وسائط النشر في عالمنا في منتصف القرن الماضي. ولعل الناقد الذي قال إن الرواية هي قصيدة القرن الواحد والعشرين صادق تماماً في استقرائه لديناميكية التنافس بين أنماط التعبير الأدبي المختلفة (الشعر والرواية والقصة القصيرة). أما عن الشق الثاني من سؤالك فأقول إنّ ديباجة الشعر في شكلها القديم تتراجع كثيرا أمام شعر التفعيلة وقصيدة التدوير وما يعرف بقصيدة النثر. لا قداسة للشكل. إن شكل القصيدة شيء من صناعة الإنسان يستطيع دوزنته وتحويره كيف ومتى شاء وفقاً لمعطيات عصره وثقافته.
* مركزية بعض الثقافات أو فلنقل ثقافة واحدة وتمددها على المنابر.. هل الأمر عائد لقصور أصحاب الثقافات الأخرى.. أم وراء الأكمة ما وراءها؟
– طبعاً وراء الأكمة ما وراءها. وأنا هنا آخذ بلدي السودان أنموذجاً: يعرف تلميذ المدرسة عندنا في السودان (من الابتدائية حتى الجامعة) كل شيء عن صحراء العرب.. تاريخها وآدابها وحروبها القبلية مثل داحس والغبراء ويوم ذي قار.. إلخ تلك الحروب التي لا طائل من ورائها للتلميذ السوداني الذي يأتي إلى كرسي الدرس من خلفية ثقافية شديدة التعقيد. بعض أولئك التلاميذ قد تكون العربية ليست بلغتهم الأم. تلك محاولة للهيمنة تمليها السلطة السياسية (سلطة النخبة ذات المعطى والمنتج الثقافي أحادي النظرة). وهي تفترض أن على المرء أن يعيش بين ضفتي هذه الثقافة العربية الإسلامية دون حتى أن يعطيها فرصة التلاقح مع ثقافات أخرى يمكن تشجيعها في بلد يضم (قبل انشطاره) أكثر من 450 إثنية تتحدث فوق ال 250 لغة (لغة وليس لهجة كما يذهب بعض السذج في أبحاثهم الفطيرة). ما يحدث في السودان منذ الاستقلال هو “غيبوبة ” بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ!
* المطلوب حتى تستعيد الثقافة دورها المفقود والمنشود في رسم ملامح وطن واحد متسع؟
– المطلوب هو قيام دولة وطنية ديموقراطية -دولة المواطنة- التي يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات. طبعاً ستقوم تلك الدولة شاء من شاء ورفض من رفض. إنّنا لا نتكهن ولكننا نقرأ واقع الحياة ومنطق الأشياء من حولنا فنحن جزء من حركة الكون والحياة البشرية في هذا الكوكب. من يحلم أن يستعيد تاريخ العصور الوسطى ليقيمه فوق رؤوسنا فليبحث عن بلد غير هذا البلد وشعب غير هذا الشعب.
* يقول أدونيس (على كل مبدع أن يعارض أي نظام حتى لو كان جيداً) هل توافقه الرأي؟ وهل من مصالحة ما بين المثقف والسلطة؟
– أتفق مع المفكر والأديب السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) في ما قاله. ليس من سبب يجعلني زماراً في طابور السلطة لتقبلني اليوم وتلفظني غدا. الثقافة نفسها سلطة، وكلما رهن الأديب أو الفنان نفسه للسلطة السياسية خسر المعركة وكسبتها السلطة. أنا – كاتب هذه السطور- ضد أي سلطة حاكمة حتى إن ادعت وادعى معها أعوانها أنها أقامت مدينة أفلاطون الفاضلة على الأرض. السلطة مفسدة وكل سلطة مطلقة مفسدة مطلقة كما قال أحد الحكماء الغربيين قديما. ويكفي ما نعانيه منذ أزمان في بلادنا. لست على استعداد أن أرهن قلمي لسلطة سياسية حتى لو لبس حكامها مسوح الأنبياء.
اليوم التالي