
“خوفي من تلحق رفيقك
يا بريق نجم الحيارى
وانت لا نوّر طريقك
لا شرق فجر السهارى”
لقد أضئ طريق الشعب السوداني بأطهر الدماء ولقد شرق فجر السهارى والحيارى والفقراء والنازحين بانتصار اعظم ثورة في التاريخ الحديث …. ثورة ظل الشعب السوداني يقدم الشهيد تلو الشهيد قربانا لها منذ العام 89 وحتي اليوم في كاس، نيرتتي ،كتم ،فتابرنو، زالنجي وغيرها من مناطق دارفور الحبيبة وجبال النوبة.أن القمع الذي وجهت به مظاهرات اليوم والذي جلب الي الاذهان صورة شديدة الوضوح وفلاش باك شديد السطوع من ملامح القمع التي وجهت بها الثورة والثوار في ثورة ديسمبر المجيدة ، انما يؤكد شيئا واحدا لطالما صرخنا ننبه الحكومة الانتقاليه اليه وهو ان جهاز الامن الحالي انما هو عين جهاز امن السلطة البائدة . من منا لم يري الملثمين وهم يلقون بالثوار في ظهر البكاسي عينها التي استخدمت لقمع الثوار ايام الثورة.من منا لم ير كثافة الغاز المسيل للدموع الذي اطلق علي الثوار امام مجلس الوزراء؟ نفس ملامح القمع ورائحته المنتنة.
قمع مظاهرات يوم 17 اغسطس، وللاسف الشديد خلق أحد اكبر التناقضات بين حمودك والشق المدني من جانب وقوي الثورة الحية ممثلة في الشارع السوداني في الجانب الاخر. فلا نجحت الحكومة الانتقالية في الاستماع لمطالب الثوار باحترام والانصات لصوت الشعب الذي اتي بها لسدة الحكم ولا نجحت في حمايته من عسف الامن والعسس. أن تجاهل الحكومة المدنية لصوت الثوار انما هو تجلي لازمة قائمة تدفع بتساؤل مهم الي اذهاننا وهو:
لماذا تعجز الحكومة الانتقالية الان عن تحقيق او علي الاقل الشروع عمليا في انزال شعارات الثورة “حرية وسلام وعدالة” الي ارض الواقع؟
نعم، ان التركة من الدمار الاقتصادي ودمار البني التحتية والخدمة المدنية ومؤسسات الدولة المختلفة الذي خلفه نظام المؤتمر الوطني المباد لأمر لا جدال حوله. ولكن جميعنا نعلم ان هذا الشعب قدم صك للدعم مفتوح لحمدوك وان هذا الشعب العظيم يفهم الظرف تماما وأنه علي استعداد للصبر من خلف حمدوك والعمل بدأب علي بناء الوطن والصبر علي الضائقة المعيشية حتي تهزم الثورة المضادة ويقتلع سرطان المؤتمر الوطني الذي ضرب بنية الوطن وتغلغل في نسيجه. للاجابة علي سؤال اين يكمن الخلل ينبغي الخوض في حقل من الالغام وتجنب الافتراضات والسعي لتحليل موضوعي يخرج بالناس من حالة الاضطراب والشك التي هم فيها.
يمكن ان نصنف الاسباب التي ادت للعجز الذي نراه الي نوعين من العوامل ، وتلك العوامل في تداخل عظيم:
اولا، العامل الموضوعي والذي يتكون من عدة عناصر اولها أن جزء كبير من المكون المدني للسلطة”دون الخوض فيماهيته” ومعظم المكون العسكري يداعب مخيلتهم الحل الذي قدمه ( مركز الازمات الاوربي ) ممثلا في الهبوط الناعم وهو الترجمة الحرفية للمشروع الذي قدمه المركز في عام 2014 كمشروع لحل الازمة السودانية ، وكان ذلك بعد انفاصل جنوب السودان علي اثر تجليات اتفاقية نيفاشا وعلي اثر القمع المروع لانتفاضة 2013 التي كانت ضربة صاعقة للنظام الذي فهم تماما ان ما تبقي له من عمر لقصير بلا شك. أقول ان هذه القوي من المكون المدني والعسكري تعتقد انها ستلعب سياسة بالطريقة السودانية القديمة. سياسة لا تنتمي لنبض الشارع ولا لطريقة تفكير الغالبية العظمي من مكونات الشعب السوداني والتي يمثل الشباب 65% -70% منها حسب الاحصائيات الاخيرة. هذه السياسة القديمة التي تعتقد ان بامكانها استيعاب القوي السياسية التقليدية التاريخية ومنظوماتها العسكرية والامنية والاقتصادية دون تغيير جذري ومع ذلك تتوهم السيطرة علي هذا الشارع العظيم الذي صنع الثورة . ولقد ظهر التناقض بين هذه السياسات القديمة وبين تطلعات وقوي الثورة الحية في عدة احتقانات وتصاعد العنف والقمع الذي تزداد حدته يوما بعد يوم.
فبالامس القريب في كاس و فتابرنو ونيرتتي وزالنجي قمعت حركة الجماهير العريضة. لم يتوقع احد ان تطال الاعتقالات الثوار من اعضاء لجان المقاومة وغيرهم والان يقبع في سجون ولاية جنوب دارفور اعضاء من لجان مقاومة محلية كاس في سجون الحكومة. وقبلها اقتيد بعض اعضاء لجنة مقاومة الحتانة الي مركز البوليس علي اثر احتجاجهم علي اجتماع عضو مجلس السيادة الكباشي مع بعض فلول النظام المباد. وغير ذلك من الاحداث التي تبين حجم التناقض الكبير بين تطلعات الثورة والثوار والواقع الحالي.
من ضمن العوامل الموضوعية الاخرى هو خوف دول الاقليم والجوار والنظام العالمي من قوانين ثورية جديدة تضع حد لمصالح الدول الطامعة في السودان اقتصاديا والتي تخشي من الدور الكبير الذي يمكن ان يلعبه السودان كمركز للديمقراطية ورافد لحركات التغيير في الاقليم في حال تحقق شعارات التغيير الجذرية. ومن ناحية اخري يضاف الي العوامل الموضوعية التراخي الذي تم في حسم بقايا خلايا النظام النائمة والتي اعطيت مزيد من الوقت مما مكنها من تجميع اشلائها والبدء في تقويض الفترة الانتقالية.لم يتحرك الجيش لحسم النزاعات الاهلية التي نشبت ولغرابة الصدف جميعها حدثت في توقيت واحد في اكثر من منطقة في الوطن الحبيب.
أن ازدياد وتصاعد وتيرة النزاعات القبيلية ومظاهر الفوضي الامنية لهي مؤشر قوي ان خلايا النظام البائد النائمة قد استيقظت واستجمعت قواها لتنخر في عضد الوطن من جديد. ليس بصدفة ان تطل علينا والية نهر النيل بعد اسبوع من توليها لتعلن وبشجاعة ان قوات الجيش الحارسة للمواقع الاستراتيجية قد غادرت مواقعها دون اخطار الحكومة المدنية ودون تنسيق ومن ثم ليست بصدفة ان يتم السطو علي خزانة الحكومة في مدينة ” بربر” وتتم سرقة مرتبات العاملين. أن تفجر بؤر النزاعات الاهلية في زالنجي وكاس وكسلا وبورتسودان في هذا التوقيت ووقوف الجيش والشرطة موقف المتفرج في بعضها وموقف المنحاز في الاخر كما حدث في مزارع جنوب كردفان لتامين ممرات الرعاة علي حساب مزارعي المنطقة تشير الي ان الشق العسكري متقاعس مع سبق الاصرار عن اداء دوره الذي نصت عليه الوثيقة.
ثانيا العوامل الذاتية: أحد هذه العوامل و التي ادت الي خلق وضع كان من الممكن تجنبه هو ضعف بعض وزراء المرحلة الانتقالية وهذا وضع نتج من سياسة المحاصصة البغيضة التي اتت باشخاص يفتقروا للخبرة والدربة في ادارة الحكم. وهذا لا يمكن علاجه الا اذا اتخذ حمدوك موقفا شجاعا بتعيين وزراء وموظفي خدمة مدنية اكفاء حقا وحقيقة بغض النظر عن انتمائهم الحزبي او غيره من العوامل . حكومة تكنوقراط لا تعني ان تأتي باكاديمي صاحب شهادات جامعية مرموقة لا دراية له بأدارة دولة ليقوم بدور في اكثر المراحل حرجا في تاريخ الوطن بل تعني بأن تأتي بمن له خبرة في وضع ومتابعة تنفيذ سياسات تعبر عن شعارات الثورة ، اي ان بالضرورة ان يكون له خبرة في ادارة الحكم وشؤون الناس. الثورة يقودها من له عقل ثوري واستعداد ثوري لتحقيق شعارتها وهذا للاسف ما افتقده معظم من يديرون شئون البلاد اليوم. حيث ان بريق السلطة وكراسي الحكم اعماهم وخيل لهم ان سيكسبون الانتخابات منذ الان. ولقد تجلى افتقار الروح الثورية في الانقسام الذي اصاب بعض مكونات ٌ قحت” والنفس القصير والنظرة الضيقة وهذا في حد ذاته جبهة اخرى عريضة لا مجال للحديث عنها الان.
السؤال الذي يطرح نفسه الان هو ما العمل؟
للاجابة علي هذا السؤال لا نحتاج فقط لجرد الحساب بل ايضا نحتاج لجرد القوي الثورية لنعرف بالحساب ما هي القوى ذات المصلحة والحريصة الان علي انزال شعارات الثورة “حرية سلام وعدالة” علي ارض الواقع، ومن ثم الدعوة الي توحيدها تحت مظلة واحدة تستفيد من اخطاء التحالفات السابقة. وقبل هذا كتبت انه من الطبيعي ان تموت تحالفات لتقوم مكانها تحالفات اكثر قوة وثباتا. الشاهد الان أن لجان المقاومة هي اكثر جسم حريص علي الثورة. لجان المقاومة نظمت مسيرات ال30 من يونيو ليست مرة واحدة بل مرتان واجبرت في الاولى العسكر علي مواصلة التفاوض بعد ان راودهم حلم الانفراد بالسلطة. وفي 2020 اخرجت المليونية الثانية التي دعت جميع من في الحكم الان لتحسس مواقفهم. على لجان المقاومة تحمل هذا الدور التاريخي وعلى القوى الحريصة على مستقبل الوطن بغض النظر عن الوانها ان تدعم لجان المقاومة، فقد وضح من التجربة انه طالما ظل الشارع مستيقظا لن يستطيع كائن من كان هزيمة الثورة. علي لجان المقاومة مواصلة التصعيد واعداد مرشحيها من الان للمجلس التشريعي ومواصلة الدعو لتكوينه باسرع ما يمكن فالبرلمان هو الذي يمثل الشعب وهو الذي يعين او يقيل حتي رئيس الوزراء نفسه والمجلس السيادي.
الهام عبد الخالق
17 اغسطس 2020