مقالات وآراء

الازرقيون يتحدثون (2)

عندما خلق الله السودان تبسم القدر ضاحكا .
.مقولة منسوبة لأنتوني مان الكاتب الصحفى الانجليزى
تسمية او مصطلح ” الازرقيون ” هو من اجتهادى الشخصى وقصدت به كل من يحمل افكار او اراء تؤمن بان هنالك مشكلة حكم مزمنة فى السودان سواء ان كان الحكم عسكرى او مدنى او خليط بينهم وان السودانيون قد فشلوا جميعا فى ادارة حكم بلادهم والديل هو الحالة التى وصلت اليها البلاد , وتعود التسمية الى العم ازرق الذى رفض خروج البريطانيين من السودان فى العام 1956 كما سوف نرى فى هذا المقال. وقد يكون الكثير من الذين يحملون هذا الافكار والتى تطورت الان الى المطالبة بوضع السودان تحت الوصاية الدولية لا يعرفون او يسمعون عن العم ازرق . كما يجدر ذكره باننى اعرض الموضوع من وجهة نظر تحليلية محايدة وليس بالضرورة ان اكون مؤيدا او معارضا ” للازرقية”
قال لى صديقى ” الازرقى” : اذا نظرنا بتجرد لتاريخ السودان منذ الاستقلال عام 1956 وحتى الان فانه يدرك على الفور بان البلاد تدور فى دائرة ضيقة و عبثية ( حكم مدنى ضعيف او يتم اضعافه من قبل المعارضين الذين لا يعرفون الحدود بين معارضة النظام و تحطيم البلد ( انقلاب الجبهة الاسلامية فى 1989 كمثال) وغالبا ما يتم تحريض العسكريين لاستلام السلطة نكاية فى بقية زملائهم فى الحكم الديمقراطى . وحكم عسكرى ديكتاتورى يصادر حريات الناس و يكمم افواههم و يذيق الناس اصناف من العذاب حتى يثور الشعب و يطالب بالتغيير و ايضا يقوم العسكريون بتلبية مطالب الشعب و استلام السلطة الى حين تسليمها لحكومة مدنية وهكذا تدور الساقية من جديد و الحصيلة ضياع وقت ثمين والضحية الاولى هو السودان الذى كان متوقعا له اذ احسنت ادارته بان يكون احد عمالقة العالم فى الاقتصاد الى جانب كندا و استراليا الذين يتشابهون مع السودان فى الكثير من الامور ( المساحات الشاسعة و الثروات الطبيعية الكبيرة) ولكن طامة السودان الكبرى كانت فى بنيه الذين لم يحسنوا ادارة بلدهم فاصبح الان وعلى حسب التصنيف الاقتصادى للعام 2020 المستند للناتج المحلى الاجمالى GDP يصنف من ضمن 50 دولة فقيرة فى العالم ! و المؤلم ان السودان معروف بامكانياته الزراعية الكبيرة و ثروته الحيوانية التى تقدر ب 41,917 راس على حسب احصائيات منظمة الفاو العالمية تجعل من السودان فى المركز السابع فى الثروة الحيوانية على مستوى العالم ومتفوقا حتى على استراليا التى يقوم اقتصادها القوى على الثروة الحيوانية ! و المضحك و المبكى ان السودان لا يستطيع ان يستفيد من ثروته الحيوانية هذه بسبب مشاكل ضعف البنية التحتية من مسالخ حديثة و محاجر وفقا للمتطلبات العالمية و مشاكل لوجستية اخرى !! ”
وحديث الصديق الازرقى صحيح الى حد كبير فالتاريخ يقول بانه وعند خروج البريطانيون من السودان تركوا ورائهم دولة عصرية متفوقة فى جميع المجالات على دول المنطقة الاخرى فى الصحة و التعليم و النقل و المواصلات ومن الانصاف ذكر بان كل ما يفتخر به السودانيون و يفاخرون به الاخرين الان كان من صنع الانجليز وهذا الامر واضح و لايقبل الجدال وللحكم الصحيح على الامور فيجب عقد مقارنة للسودان قبل دخول الانجليز فى العام 1899 ( كيف كان حاله )وعند خروجهم فى 1956 ( كيف تركوه) , ومن المؤكد بان ذاكرة السودانيين لا تزال تحتفظ للانجليز بذكريات فى اغلبها جميلة و ايجابية فهى تلك الفترة فى عمر الشعب السودانى التى التقط فيها انفاسه و نعم فيها بالهدوء و الاستقرار و طيب العيش مقارنة بفترتى الحكم التركى المصرى والذى يعرف باسم التركية السابقة التى امتد الحكم فيها من 1821 الى 1885 كانت و بكل المقاييس من اكثر الفترات ظلاما و ظلما ولا يذكرها السودانيون الا بكل انواع الاستبداد و القهر وعانى فيها الناس من التهميش و التضييق عليهم فى حياتهم ولم يشهد هذا العهد انجازات تذكر فقد بدأت بحملات الدفتردار الانتقامية و استمرت بقمع الجنود الاتراك الباشبوزق قساة القلوب مهمتهم هى التنكيل بالاهالى المساكين الذين كانوا يجدون صعوبة فى دفع الضرائب الباهطة و يبدو ان الحكام الاتراك والذين كانوا فى معظمهم غير مؤهلين ويرون بانهم من المغضوب عليهم ولذلك تم نقلهم للعمل بالسودان ! فقد كانوا لا يؤبهون كثيرا بتحسين حياة السودانيين فتركوا السودان كما هو غارق فى ظلام الجهل و الفقر و المرض , كما ان سوء ادارتهم و التضييق على الناس من خلال فرض الضرائب الباهظة قد ادت الى اندلاع الثورة المهدية بقيادة الامام المهدى والذى خاض العديد من المعرك ضد الاتراك حتى تمكن من الانتصار النهائى عليهم عندما استولى على الخرطوم عاصمة الاتراك قى 26 يناير 1885 معلنا بداية دخول السودان فى الحكم الوطنى المهدوى , ولكن الامام المهدى لم يعش طويلا بعد فتح الخرطوم فقد انتقل الى جوار ربه فى 22 يونيو 1885 وخلفه الخليفة عبدالله التعايشى فى الحكم على حسب وصية المهدى , و طيلة فترة حكم الخليفة عبدالله في 22 يونيو 1885م وحتى تاريخ وفاته بأم دبيكرات يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899م، كانت فترة مضطربة فى تاريخ السودان و مليئة بالقلاقل وعدم الاستقرار وهى خير مثال للنزاع و التقاتل وعدم انفاق السودانيين ويبدو ان هذا الامر يجيده السودانيون اكثر من غيره ومنذ منذ زمن بعيد وهو مشكلة المشاكل فى السودان و اللعنة ا الابدية التى تطارد السودانيين فى كل الازمان ! فاغلب حروب الخليفة التعايشى الداخلية كانت مع خصومه الذين كانوا يبادلونه العداء ولا يعترفون به كخليفة للمهدى وكحاكم للسودان عليهم طاعته و تنفيذ اوامره و النتيجة كانت مزيد من الدمار للسودان ! وكانت قمة المعاناة بدون جدال هى كارثة مجاعة سنة ستة الشهيرة التى اتت على الاخضر و اليابس فى السودان حيث لا زالت هذه المجاعة فى ذاكرة الكثير من السودانيين يتناقلون احداثها جيل بعد جيل واصبح السودانيون يضربون بها المثل عندما يرون شخصا جائعا و شرها فى اكل الطعام فيقولون له بصيغة التعجب ” انت ضارباك مجاعة سنة ستة !! ” وقد سميت بمجاعة سنة ستة نسبة لوقوعها فى العام الهجرى 1306 و هو ما يعادل الاعوام 1888/1889 بالتقويم الميلادى والتى كان من اهم اسباب حدوثها هو النزاعات العسكرية وعدم الاستقرار و الجفاف و عوامل اخرى . ولذلك كما سبق وذكرنا فان السودانيين قد التقطوا انفاسهم و بداوا يعيشون حياة هادئة تحت كنف الحكم البريطانى وان كانت تظهر بين الحين و الاخر بعض الثورات فى اماكن متفرقة مثل ثورة ود حبوبة و ثورة 27 نوفمبر 1924 التى تعتبر من ااشد الهبات التى واجهها واجه البريطانيون فى السودان , فمن المعروف بان هذه الانتفاضة المسلحة التى قادها الشهيد عبدالفضيل الماظ و انتهت بمقتله و استشهاده وهو محتضنا مدفعه المكسيم بعد ان تم هدم مبنى المستشفى العسكرى الذى كان يحتمى به فى28 كما ذكر الشهود , ومن الانصاف ان نذكر بان البطل الشهيد كان قد قاد هذه الانتفاضة المسلحة احتجاجا على امر الحكومة البريطانية فى اعقاب اغتيال حاكم عام السودان السير لي ستاك أثناء إجازته في القاهرة وما تلى ذلك من ردة فعل بريطانية حيث قرر الإنجليز طرد الجيش المصرى من السودان فى خلال أربع وعشرين ساعة وإجلاء جميع الموظفين المدنيين المصريين من السودان ، مما اعتبره المنادين بوحدة مصر و السودان خرقا لاتفاقية الحكم الثنائى البريطانى المصرى للسزدان . وقد أحدث القرار موجة احتجاجات كبيرة وسط السودانيين الذين خرجوا فى الخرطوم في مظاهرات بقيادة جمعية اللواء الأبيض التى كان يرأسها الضابط علي عبد اللطيف. اما على الجانب العسكرى فقد قرر عبدالفضيل الماظ التصدى بالقوة لقرار الاخلاء ومنع المصريين من المغادرة , ويجدر ذكره فى ذلك الوقت كانت الحركة الوطنية تتبنى وحدة وادى النيل او الاتحاد بين مصر و السودان و الاستقلال عن بريطانيا وهذا ما عبر عنه عملاق الفن السودانى خليل فرح فى رائعته ” نحن ونحن الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل ” وكان ذلك هو التيار الغالب و المزاج العام لدى الطبقة المثقفة وكانت فكرة استقلال السودان عن كلا البلدين خافتة غير مسموعة الصوت , هذا الطرح السائد و التيار القوى بالمناداة بالوحدة بين السودان و مصر يؤكد بجلاء بان السودان كان كيانا منفصلا عن مصر وله حدوده الواضحة و الموجودة فى الخرط المعتمدة فى كل المحافل الدولية ذات الصلة كل ويدحض بشدة مقولة بان السودان كان جزء من مصر اذ انه لو كان السودان جزء من مصر لما احتاج الى الدعوة الاتحاد معها , ومن الانصاف ايضا ان نذكر بان البريطانيين كانوا يرون بان السودان لديه كل الامكانيات بان يستقل بنفسه وانه من الافضل ان يستقل استقلال تاما و ان لا يدخل مع مصر فى اية شكل من اشكال الاتحاد او الاندماج فقد كانوا يرون بان لمصر اطماع فى السودان وانه اذا اتحد مع المصريين فانه سوف يكوم مجرد تابع لمصر لاحول له و لاقوة ! ومن اجل ذلك فقد قام البريطانيون بتشجيع و دعم التيار الوطنى الذى كان ينادى بالاستقلال التام وفى هذا الصدد فقد اسدى البريطانيون للسودانيين خدمات جليلة بترسيم الحدود بين السودان و مصر حيث تم اعتماد مثلث حلايب كجزء من الاراضى السودانية قى العام 1902 , وفى الحدود الشرقية فقد حسم الانجليز مطامع الامبراطور الاثيوبى منليك الثانى الذى قام فى العام في 1891بارسال تعميماً إلى رؤساء الدول الأوروپية حدد فيه الحدود الفعلية لامبراطوريته وأيضاً ما اعتبره منطقة نفوذه. ورد في التعميم أن الحدود الشمالية الغربية للحبشة تمتد من مدينة تومات الواقعة عند ملتقى نهري ستيت وعطبرة إلى كركوج على النيل الأزرق وتشمل مديرية القضارف. وأعلن منليك عن عزمه استعادة حدوده القديمة التي تمتد شرقاً حتى الخرطوم وجنوباً حتى بحيرة ڤكتوريا. الا ان البريطانيين بقيادة جون هارينغتون ممثل بريطانيا فى اثيوبيا رفضوا هذا الطرح ودخلوا فى مفاوضات شاقة مع الجانب الاثيوبى تمكنوا من خلالها على اجبار الامبراطور الاثيوبى بالقبول بالحدود الحالية وهكذا نرى ان البريطانيون لعبوا دورا كبيرا فى صيانة و حفظ حدود السودان الجغرافية التى جعلت من السودان اكبر قطر ( الاول) من ناحية المساحة فى افريقيا والعالم العربى و العاشر عالميا قبل انفصال الجنوب فى 2011 بمساحة قدرها 2 مليون كيلو متر مربع تقريباً , وكما ترون فان هذه المساحة والحدود لم نستطع حتى الحفاظ عليها !
والى اللقاء فى الحلقة الثالثة !

امير شاهين
[email protected]

‫3 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..