الجوع والبطالة يفرضان الواقع المؤلم مكب الحاج يوسف.. عندما تتحول النفايات إلى مصدر “رزق”

طن الكراتين بخمسمائة جنيه والمستثمر الصيني “بشتري بالكوم”
جنيهان فقط سعر كيلو البلاستيك والقوارير
علم السودان يرفرف فوق الخيام المؤقتة والأطفال حضوراً
شباب: العمل يوفر لنا أموالاً جيدة تعيننا على مساعدة أسرنا
الحاج يوسف: صديق رمضان
قلت لجبريل الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره لماذا تعملون في هذه المهنة الشاقة والتي ربما تشكل خطورة على حياتكم، أجابني سريعاً “يعني نموت بالجوع “، ويؤكد أن البطالة هي التي دفعتهم إلى امتهان عمل يصفه بالشاق والقاسي، فجبريل ومعه أكثر من 230 من الشباب والأطفال ومتوسطي العمر، اتخذوا من محطة النفايات الوسيطة بالحاج يوسف مكاناً لعملهم ومستقرًا لسكنهم المؤقت، ذهبت إليهم في صباح انخفضت فيه درجات الحرارة إلى مستوياتها الدنيا، إلا أنها لم تحل بينهم وعملهم الذي لا يقدم عليه إلا “مجبور” ومقهور بالبطالة والفقر .
وجهة مباشرة
رغم أنني أقطن بالحاج يوسف، إلا أنني لم أكن أعلم بوجود محطة وسيطة للنفايات، وهذه الملعومة نقلها لي رئيس قسم الأخبار بالصيحة الزميل محجوب عثمان الذي كان متحمساً لزيارة الموقع، إلا أنه ونزولاً على رغبتي ترك لي المهمة، ولأن يوم الجمعة هو بمثابة الاستراحة التي نلتقط فيها الأنفاس من رهق العمل المضني ستة أيام في مهنة المعاناة، ولأنه يوم للتواصل الاجتماعي أيضاً، لم أكن متحمساً للخروج فيه ناحية محطة النفايات الوسيطة، ولكن عقب أداء صلاة الصبح عدلت عن رأيي بعدم الخروج في هذا اليوم ووجدت أن الوقت ملائم لتسجيل زيارة إلى المكب.
درجات الحرارة كانت منخفضة، ورغم ذلك عند السابعة صباحاً تحركت على متن ركشة نحو وجهتي التي لم أكن أعرف أين تقع ليجدها سائق المركبة ذات الإطارات الثلاثة فرصة ليزيد من قيمة المشوار، لم يكن أمامي غير الإذعان للسعر الذي حدده، وبعد مشوار لم يستغرق عشر دقائق فقط توقف وأشار بيده إلى موقع المحطة الوسيطة، فترجلت وتفاجأت في ذات الوقت لأن المشهد بها لا يشير إلى أنه مجرد محطة وسيطة بل مكب أو مردم نهائي للنفايات.
جبال وتلال
تقع المحطة الوسيطة شمال أحواض الصرف الصحي التي شكا مواطنو الحاج يوسف كثيراً من رائحتها النتنة، إلى أن تمت معالجتها أخيرًا وجاءت رياح هذا الشتاء خالية منها، ولم يعد السكان يستنشقون هواءً ملوثاً، وذات المحطة الوسيطة تقع شرق الطريق الرابط بين الحاج يوسف والسامراب وإلى الشرق أيضًا من إحدى المزارع، وليست بعيدة عن حي كافوري ومخطط نبتة السكني، بعد أن ترجلت من الركشة توجهت مباشرة إلى الموقع الذي يحيط به سور من السلك الشائك غير المكتمل في كل الأجزاء، تفاجأت بوجود حياة وحركة في تلك الساعة المبكرة من الصباح، اخترت دون تردد وأنا ارتدي ملابس قريبة الشبه من التي يتدثر بها العاملون في المكب والفرق بينا كان في انتعالي سفنجة وهم ينتعلون “البوت”، رغم حرصي على ارتداء ملابس رثة إلا أن الشعور بأنني غريب عن هذا الموقع لاحظته في عيون من التقيتهم، غير أنني لم أعبأ كثيراً بالأمر فالتردد أحياناً يفشّل المهمة الصحفية .
جزء من المشهد
يرقد المكب أو المحطة الوسيطة في مساحة شاسعة تتجاوز الخمسة آلاف متر مربع، أينما وجهت بصري شاهدت جوالات ضخمة يسع الواحدة منها لأكثر من طنين، وعندما اقتربت منها وتفحصتها وجدتها قد تمت تعبئتها بأكياس البلاستيك وأخرى بقوارير المياه المعدنية الفارغة، عدد الجوالات كبيرة الحجم لا يعد ولا يحصى فربما تجاوز الألف موزعة في مساحات مختلفة من المكب داخل السور، رأيت علم السودان يرفرف فوق راكوبة صغيرة مشيدة من الجوالات وبجانبها عدد لا يقل عن الخمسين راكوبة مماثلة، كان منظره وهو شامخ فوق الراكوبة باعثاً للسعادة، فالوطن يظل في كل الأحوال يحتل حيزًا في الدواخل، ظننت أن المكان ولوجود عدد كبير من العمال فيه قد جذب بائعات الشاي، ولكن تفاجأت حينما اقتربت بأن الذين يعملون في تجميع النفايات يتخذون الرواكيب مكاناً لسكنهم، مساحة الواحدة منها لا تتجاوز الثلاثة أمتار وأخرى أربعة أمتار، وثالثة متران، وبداخلها مشمعات وبطاطين، ووجدت أمام المخيمات الصغيرة التي تقع إلى الشمال من المكب مجموعة من الشباب يحتسون الشاي في ذلك الجو البارد عساه يخفف عليهم من لسعاته التي كنت متيقناً منها قد اخترقت أجسادهم، وذات الرواكيب أو القطاطي توجد أعداد مقدرة منها شرق المكب مباشرة، وأيضا تتراص أعداد ضخمة من الجوالات ذات السعة العريضة المصنوعة خصيصاً لحمل كميات كبيرة من الأمتعة والسلع .
إلى الجبل
ما جعلني على قناعة تامة بأن هذه ليست محطة وسيطة بل مكب، وجود جبل “نعم جبل” من النفايات لا يقل في مساحته وارتفاعه عن استاد لكرة القدم، وحينما هممت بصعوده وجدت صعوبة بالغة لارتفاعه الشاهق وأثارت سيارات النفايات الغبار الذي يحجب كلياً الرؤية عند صعودها الشاق نحو سطح المكب لتفريغ ما تحمله من أوساخ، بعد أن صعدت وجدت شاباً ثلاثينياً يجلس منفرداً، فيما توزع الآخرون على مجموعات، والمهمة كانت واحدة وهي بعثرة محتويات ما تفرغه أي عربة نفايات للحصول على المبتغى، حاولت تجاذب أطراف الحديث مع الشاب إلا أنه بدا زاهداً “وقافلة معاهو”، لم يجب على أكثر من سؤال عادي طرحته عليه، ولكن حينما قلت له الشغل كيف رد قائلاً ” أهو ده قدامك شيل شوالك وانتظر العربات “، شعرت أنه ليس في مزاج جيد وليست لديه رغبة، ففضلت التجول على سطح المكب الكبير، ومنه رأيت الحاج يوسف وكافوري وغيرها من أحياء بوضوح، وهذا يعني أن ارتفاعه لا يقل عن الخمسة عشر متراً تقريباً، ويمكن القول إنه جبل حقيقي من النفايات، في أثناء وجودي على سطحه الذي لم يتجاوز ربع الساعة حضرت أكثر من سبع عربات نفايات، وفي كل مرة كان من يحملون الجوالات الفارغة يتسابقون نحوها ويبعثرون محتوياتها ويحيطون بها إلى أن تفرغ كامل ما تحمله في جوفها .
حسرة وأسى
في السطح فإن أكثر من مشهد حرك في دواخلي الحسرة والأسى علي وطن يمتلك ملايين الأفدنة الخصبة وعدداً مقدراً من المعادن والموارد الأخرى، ورغم ذلك يعتمد جزء من شبابه على النفايات مصدرًا للرزق، وأكثر مشهد صدمني كان لثلاثة أطفال لم تتجاوز أعمارهم العاشرة وهم فرحون بحصولهم على “كيس”به مخلفات طعام لم يتوانوا في التهامه سريعاً، بقدر ما كان منظرهم مقززاً، إلا أنني وجدت لهم العذر “فالجوع كافر”، وليت وزيرة الرعاية والضمان الاجتماعي شاهدت ذلك الموقف المؤلم والجالب للحزن والحسرة الذي يوضح إلى أي درك من الفقر وصلت إليه الكثير من الأسر السودانية.
كراتين وبلاستيك
أثناء تجوالي على سطح الجبل، وأنا أرسل بصري في كافة الاتجاهات وقعت عيناي على شاب يجد صعوبة بالغة في حمل جوال ضخم بالكراتين، وجدتها سانحة طيبة للتعرف من خلاله على هذا العالم الغريب، فاقتربت منه وساعدته في مهمته إلى أن وصل إلى شرق الجبل ووضع الكراتين مع مجموعة أخرى، سألته عن الفائدة منها فقال ضاحكاً “دي بتجيب قروش يا عمك “، ويبدو أن شكوكاً ساورته من سؤالي الذي يدل على عدم معرفتي بطبيعة العمل هنا، ورغم التوجس الذي بدا عليه إلا أنني طمأنته حينما قلت له بوضوح إنها أول مرة أزور جبل النفايات هذا وأريد أن أعرف الفائدة التي يمكن أن أجنيها إن عملت فيه، فقال بعد أن عرفني باسمه “آدم” أن العمال في المكب ينقسمون إلى ثلاثة أنواع، وأضاف: يوجد من يعمل في الكرتون حيث يجمعه من النفايات التي تحضرها العربات لبيعه، أما النوع الثاني الذين ينشطون في مجال القوارير البلاستيكية، أما النوع الأخير فيتمثل في من يجمعون أكياس النايلون وجوالات البلاستيك، وأشار إلى أنه ظل يعمل منذ فترة في جمع الكراتين، وحينما سألته عن السعر الذي يبيعها به قال “بتجيب قروش كويسة”، موضحاً أن سعر طن الكرتون يبلغ خمسمائة، وأن جمع الطن لا يستغرق أكثر من ثلاثة أيام، مبيناً أن أحد الصينيين يأتي ويشتري “بالكوم” وليس الطن، ويرى أن العمل رغم مشقته إلا أنه يوفر لهم دخلاً جيداً.
قوارير وأكياس
بعد أن أنهيت حديثي مع آدم الذي كان ودوداً وصاحب ابتسامة لا تغيب عن محياه رغم أنه يمكنك قراءة ما يعتمل في دواخله من خلال نظراته غير المستقرة وملامح وجهه كثيرة التغيير، يبدو غير سعيد.. توجهت ناحية اثنين من الشباب أحدهما يدعى محمد لا أعتقد أنه قد تجاوز العشرين من عمره، كانا منهمكين في العمل عقب إفراغ عربة نفايات لما كانت تحمله، وظللت أراقبهما لوقت قصير، فكان جل تركيزهما ينحصر في جمع قوارير المياه المعدنية الفارغة، ورغم أن هذا عملهما الذي يركزان عليه إلا أنهما وكلما وجدا كراتين ينبهان شخصاً آخر يدعى حامد ليحملها، بعد مدة من الزمن انتهى بحثهما فسألت محمد عن سعر طن القوارير البلاستيكية ،فأجابني ضاحكاً “القوارير بالكيلو يا عمك وليس الطن “، رغم شعوري بالحرج إلا أنني تجاوزت الموقف وسألته عن محصلته اليومية، فأشار إلى أنه وصديقه يعملان مع بعض ويجمعان في اليوم أكثر من مائة كيلو، قلت له إن سعر المائة كيلو لا يتجاوز المائتي جنيه، وإن هذا سعر زهيد ومقابل غير مجزٍ، إلا أنه اختلف معي حينما أشار إلى أن المبلغ هذا يكفي لتوفير احتياجات أسرته المقيمة بالحاج يوسف الوحدة، وختم حديثه قائلاً” برضو أحسن من العدم والعطالة “، اتفقت معه في حديثه، وبكل صدق في تلك اللحظة كدت أن أذرف الدمع، ولكن تماسكت، لأن مجرد أن يعمل شباب في مقتبل أعمارهم في هذه المهنة الشاقة من أجل توفير احتياجات أسرهم فإنه يصيب المرء بالإحباط والحزن.
الأطفال حضوراً
كنت كلما جاءت عربة لتفريغ النفايات على سطح الجبال أسرع للابتعاد عنها بداعي الغبار الكثيف الذي تثيره، غير أن العاملين في جمع الكراتين والقوارير لا يهتمون كثيراً بهذا الأمر، لا أحد منهم يضع كمامة على وجهه لتحجب عن جهازه التنفسي ذرات الغبار، كما أن الكثيرين منهم كانوا يرتدون أحذية عادية وآخرون ينتعلون البوت، أما أيديهم فقد كانت تبعثر القمامة دون وجود قفازات تحميها من هذا الخطر، في هذه الأثناء وجدت طفلاً لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره يدعى أحمد سألته عن أسباب وجوده في المكب، فقال بكل براءة “أعمل هنا في جمع أكياس البلاستيك وأبيع الكيلو بجنيهين، وحصيلتي في اليوم أكثر من خمسين كيلو”، سألته إن كان ما يزال يتلقى التعليم أم ترك قاعات درسه، فقال إنه ينتهز فرصة الإجازة الشتوية للعمل كما أنه وحسب قوله يحضر إلى المكب في أيام الإجازة الأسبوعية للعمل، وقطع بعدم تركه الدراسة رغم ظروف أسرته التي يصفها “بالتعبانة”، ويشكو من انخفاض درجة الحرارة هذه الأيام، وقال إنها تؤثر عليهم في العمل خاصة في ساعات الصباح، فجأة تركني أحمد رغم أنه يكمل حديثه وهرول ناحية عربة نفايات حضرت لتوها، عذرته لأن الوقت عنده للعمل وليس للثرثرة مع الصحفيين أو غيرهم.
تكاتف وتعاضد
بعد أن أنهيت جولتي في المكب طلبت من أحد الشباب أن يتلقط لي صورة أمام جوال ضخم للنفايات، وبعدها تجاذبت معه أطراف الحديث وهو جبريل الذي ذكرته في المقدمة، وقال إن المكب وفر لهم ولسخرية الأقدار مصدر عمل ثابتاً، قلت له ممازحاً: ماذا إن تم تحويل هذا المكب، فأجاب ضاحكاً “شنو يا معلم عاوز تقطع رزقنا”، ولفت إلى أن كل الشباب الذين يعملون في الكرتون والأكياس والقوارير لديهم أسر ويتحملون مسووليتها، وأضاف: معظمنا اتخذنا مكب النفايات مكاناً للسكن المؤقت حيث يقضي الواحد منا خمسة عشر يوماً ثم يذهب إلى أهله لمنحهم ما حصل عليه من مال، وآخرون يذهبون أسبوعياً خاصة المتزوجين، فيما يقضي البعض شهراً ثم يذهبون إلى أهلهم، ويلفت إلى أن العلاقة التي تجمعهم تقوم على الاحترام والتكاتف، وأن كل مجموعة تترك مهمة صنع الطعام لأحدهم ويتم هذا بالتبادل، وقال إنهم يحضرون مياه الشرب من الترعة التي تقع إلى الغرب من المكب، وختم حديثه قائلاً: بأمانة نجد تعاملاً جيداً من إدارة المحطة الوسيطة في هيئة النظافة وهم يقدرون ظروفنا ولم يسبق لهم أن عملوا على مضايقتنا، وتمنى جبريل أن يوفر رأس مال جيداً يعينه على تأسيس عمل تجاري بعيداً عن المكب وقال ضاحكاً “والله الشغل هنا حار عديل لكن مجبورين”.
مع تمنياتي
عندما انتصفت الشمس في كبد السماء شعرت بأن الإرهاق قد تملكني وقلت لنفسي “ساعات معدودة وتعبت فكيف حال هؤلاء الشباب الذين يعملون آناء الليل وأطراف النهار في بعثرة النفايات “، أجبتها بأن رحمة الله تسع كل عباده، وفي ذات الوقت فإن عمل شباب تحتاجهم البلاد في مجالات أخرى في مكب النفايات يوضح عمق الأزمة التي تعيشها، وتكشف عن أي درك سحيق وصلنا إليه من التردي الاقتصادي، وتمنياتي بكل تأكيد لا تذهب ناحية أن توفر لهم وزارة الرعاية مشاريع إنتاجية لصعوبة حدوث هذا، ليس لأنهم لا ينتمون للمؤتمر الوطني وليس لأنهم لا يمتلكون “ضهر”، ولكن لأن هذا ضرباً من الخيال وأمنية بعيدة المنال، فقط تمنياتي أن تتركهم المحلية وهيئة النظافة يعملون دون أن تفرض عليهم رسوماً أو تحرمهم عن العمل.
الصيحة.
ليك يوم يا ظالم
ليك يوم يا ظالم