وضع السيف موضع الندى مضرٌ

سلمية… سلمية .. ووضع الندى في موضع السيف !!

ليس غريباً أن تفشل المعارضة السلمية في بلورة حراكٍ فاعل وحقيقي يُسهم في إسقاط النظام، وكان الحزب الشيوعي قد إبتدر في يوم 16 يناير المنصرم محاولةً جادة لتفعيل الحراك الجماهيري السلمي تحت شعار( سلمية…سلمية ضد الحرامية) ولكن وللأسف الشديد فشلت المحاولة في تحريك الشارع وقد تبع الحزب الشيوعي عدد من الأحزاب ولكنها فشلت في المضي قُدماً في مشروع إسقاط النظام سلمياً، لقد تسابقت الأحزاب السياسية في تبرير هذا الإخفاق رغم إكتمال كل الشروط المنطقية لإسقاط نظامٍ متهالك يمشى على حبلٍ مشدودٍ تكفي همزة أو لكزة لإسقاطه، فلماذا فشلت قوى المعارضة حتى الآن من إسقاطه؟.
في تقديري أن فشل المعارضة السياسية في إسقاط النظام حتى هذه اللحظة يعود إلى ثلاث أسباب رئيسية: السبب الأول يتمثل في إعتماد المعارضة على إنتهاج طرق وأساليب تقليدية في مقارعة نظام درس قادته جيداً التكتيكات والإستراتيجيات التي ظلت تستخدمها المعارضة السياسية السودانية طوال سنوات نضالها ضد الأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على سدة السلطة بعد إغتصابها عنوةً، فوضع الخطط الكفيلة بإجهاضها وقد ساعده أن نافذيه اليوم كانوا ضمن من مارسوا وطبقوا تلك الأساليب في يومٍ ما.
السبب الثاني: هو عدم جدية المعارضة في تناول جذور الأزمة السودانية التي تسببت في إنهيار الحياة في السودان على هذا النحو الذي نعيشه اليوم، واستخدمت شعارات تتناول الأعراض الجانبية وتركت أصل الداء ومكمنه في الأزمة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر ركزت على إيقاف الحرب وعودة اللاجئين ولكنها لم تُركز قط على المشكلة الحقيقية التي أنتجت الحرب أصلاً قبل الحديث عن نزوح المواطنيين من ديارهم، إهتمت بأسعار الرغيف ورفعت شعار الإصلاح الإقتصادي ولم تعر أي إهتمام لأزمة الحكم في البلاد وإعادة هيكلة الدولة السودانية وعلاج الخلل الكبير في المؤسسات الأمنية والتنفذية والسلطة القضائية والإقتصادية التي تم تجييرها جميعاً لصالح خدمة حزبٍ واحد ورئيسه وأسرته ومنسوبي الحزب، فضلاً عن أنها لم تتناول مشكلة مشاكل السودان التي تتعلق بإبعاد أقاليم السودان من مطابخ صنع القرار في السودان منذ أن رأت الدولة السودانية النور في عهدها القديم ووضع مواطني تلك الأقاليم في مقاعد المتفرجين، فهناك الملايين من ضحايا الإقصاء الذين ظلمتهم حكومات ما بعد الإستقلال وعلى رأسها أشر الأنظمة (نظام الإنقاذ) مثل هذه الشعارات التي ترفعها المعارضة اليوم في الخرطوم لا يرون فيها ما يُخاطب معاناتهم ولا تستفزهم للإلتحاق بها وهو ما يُفسِّر عزوف هولاء وضعف إستجابتهم للمشاركة في هذه الإحتجاجات بفاعلية، ولعّل ثالثة الأثافي أن المعارضة السياسية السلمية قصدت إستخدام هذا التكتيك لأنها تشعر في قرارة نفسها أن إسقاط نظام البشير سوف لن يكون مثل سقوط الديكتاتوريات التي سبقته إذ أن هناك اليوم قوة جديدة فاعلة لن ترضى ذلك العبث الذي أعقب سقوط نظامي عبود والنميري، وأنها، أي المعارضة الموجودة اليوم في المركز، لن تستطيع الإنفراد بالسلطة ووراثة نظام الإنقاذ كما تعودت عقب سقوط الأنظمة الدكتاتورية.
السبب الثالث: ضعف وسائل المعارضة السياسية وأدواتها في مواجهة نظام دكتاتوري دموي وضع أطراً وشروطاً، بصورةٍ قاطعةٍ لا تقبل الشك ولا تعطي مجالاً للإلتفاف والمناورة، لمن أراد مبارزته ومقاومته وإسقاطه، فكان حرياً بالمعارضة أن تكون جهودها المبذولة وتضحياتها المقدمة تليق بخطورة حجم التحدي الذي فرضه نظام الإنقاذ عليها وأيضاً على قدر حجم الأزمة التي تٌعاني منها البلاد، فكون أن يتم إعتقال البعض على خلفية إرتفاع أسعار الرغيف في وطن تأزمت مشاكله وتناهت فيه المظالم إلى حد الذهول فذاك مما يدل على حجم المأزق الحقيقي الذي تعيشه المعارضة في البلاد، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فبمثلما الوطن جسدٌ واحد إذا إشتكى منه عضوٌ تداعى له سار الجسد بالحمى والسهر، فالمعارضة الجادة ينبغي لها أن تُخاطب أزمات البلاد بما يتوافق مع هذا الفهم وأن تقدم تضحياتها بما يليق ومقدار الرصاصة التي يجب أن توجهها إلى صدرعصابةٍ من المردة والعصاة لا يتورعون عن إستخدام كل أسلحة الدمار الشامل من أجل البقاء في سدة السلطة، وصدق المتنبي حين قال: إن وضع السيف في موضع الندى مضرٌ *** كوضع الندى في موضع السيف، وإلا ستكون جهودها في التغيير مثل ساقية جحا تغرف الماء من البحر وتصبه فيه.
إن أي جهود تُبذل من أجل حل أزمة البلاد لا تُخاطب حل الأزمة من جذروها ستفشل وأي حراكٍ سياسي لا يتناول أجندةً صريحة تُشخِّص أزمة السودان الحقيقية لا يعدو سوى مضيعة للجهود والوقت ولن يجد القبول والتدافع والإستعداد للتضحية من قبل الجماهير المسحوقة، على الأحزاب السياسية المعارضة أن تكون صريحةً في طرح شعاراتها للجماهير بما يتوافق وحقيقة الأزمة التي تُعاني منها البلاد، وأي إزورار عن ذلك يُعد تثبيطاً للهمم، فأصلاً هناك قطاعات واسعة من الشعب السوداني وقبل ميزانية 2018م بعدة سنوات ظلت تُعاني من المجاعات والتشرد والنزوح واللجوء وفقدان المأوى وطعم الحياة في وطنهم فلماذا يخرجون فجأة بعد معاناتهم الطويلة من أجل إرتفاع أسعار الرغيف من جنيه إلى جنيهين؟.
إن “شعار سلمية سلمية ضد الحرامية” شعارٌ ضعيف ومُتخاذل ولا يرقى إلى مستوى مخاطبة الأزمة الحقيقة التي تُعاني منها البلاد، يبتسر الأزمة كلها في ممارسات ضارة لبعض رموز النظام بحسبان أنهم سبب تردي إقتصاد البلاد بسبب تعديهم على المال العام في حين أن أزمة البلاد اليوم تكمن في وجود النظام نفسه بكل طواقمه بلا إستثناء، ولذا لا غرابة أن يتم تعيين قوش وإطلاق يده لإعتقال بعض الرموز من قيادة الصف الثاني في أجهزة الأمن ومحاولة إلصاق تهمة إنهيار الإقتصاد بهم وتحميلهم مسئولية هذا الإنهيار، وقد لاحظ الجميع النشاط المكثف لأجهزة أمن الحكومة ووسائل إعلامها الأخرى في تسريب أخبار هذه الإعتقالات ولأن النظام تعوَد أن يُعد لكل حالةٍ لبوسها فهو يبتهج عندما يسمع شعار سلمية… سلمية ضد الحرامية، فيسعى بكل شيطنة لتفصيل جبة إتهام على قدر شعار المعارضة السياسية، فيرسم خطته لإجهاض هذا الشعار بأن يضع إصر تهمة سرقة المال العام على بضع أفرادٍ من تابعيه حرامية الصف الثاني والثالث الكُثر والتضحية بهم في العلن، وفي السر يدخل معهم في مساوامات بحيث لا تمسهم إجراءات إقصائهم إلا مساً طفيفاً لا ينال من الذي إكتسبوه بالحرام إلا شيئاً يسيرا، وهو منهجٌ تكتيكي تمرسوا في إستخدامه منذ أن قال شيخهم مقولته الشهيرة إذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب أنا إلى السجن حبيساً، وزيارات تطييب الخواطر التي يقوم بها البشير لكل من تمت إقالته تأتي في إطار خطة النظام لمجابهة المعارضة الناعمة وتطويق آثار التضحية ببعض منسوبيه.
في الختام علي المعارضة السياسية السلمية والمسلحة وعلى جماهير الشعب السوداني قاطبة، إن كان يهمها أمر هذا الوطن، أن تدرك جيداً أن هناك ثمناً أن ينبغي أن تدفعه في سبيل معافاة هذا الوطن، وأن تدرك جيداً أن نظام الإنقاذ الذي دمره إلى حد التلاشي لا ولن يرحل طواعيةً عن سدة السلطة، بل لن يرحل إلا عندما تدق جحافل خيول الثائرين أبواب القصر الجمهوري بسنابكها، ولذا لا مفر للشعب السوداني من دفع ثمن التغيير مهما كان باهظاً، وإلا سيدفعه وهو راغم أضعافاً مضاعفةً يوماً ما ليس ببعيد.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..