مقالات وآراء

نحو “عقد اجتماعى” متين للميثاق الوطنى المنشود (٨)

إبراهيم أحمد البدوي

مقدمة:

دعوت فى مقالاتى الأخيرة وبإلحاح إلى أهمية تداعى القوى المدنية الديمقراطية – السياسية منها والاجتماعية – لعقد مؤتمر قومى جامع للسلام (او مؤتمر دستورى …إلخ، سمه ما شئت) يخرج بتوافق عريض حول “ميثاق وطنى” واضح المعالم، يحتوى على هياكل وأدوات تنفيذية لإنجاز مصفوفتين ممرحلتين من الأهداف الوطنية الكبرى.
أولاً، إنهاء الحرب والتصدى للأزمة الإنسانية المترتبة عليها فى سياق عملية اصلاح أمنى وبناء عدالة انتقالية تؤدى لإزالة عسكرة السياسة والاقتصاد، وتعديل توازن القوى لصالح مشروع الانتقال المدنى السلمى الديمقراطى النهضوى – أى تقوية المجتمع وقواه الحية بحيث تدخل “الحالة” السودانية ذلك “الممر الضيق” نحو الإنتقال المنشود.
ثانياً، التموضع والثبات فى هذا “الممر” وإنهاء متلازمة السودان صعوداً إلى آ فاق المعادلة الكسبية بين المجتمع والدولة وصولاً لبناء دولة قوية، مقتدرة، مساءلة لدى مجتمع متماسك لكى تحقق تحولات تنموية واسعة ومستدامة، تعالج جذور أزمة الصراعات والتخلف الاقتصادى والاجتماعى.

بالطبع يجب الإعتراف والتقدير المستحق لتحالف “صمود” وحزب الأمة والكثير من القوى الوطنية التى قدمت مبادرات هامة لإنهاء الحرب وبناء السلام، إلا أن هناك رأياً عاماً يشى بالحاجة إلى فعل سياسى واجتماعى أكثر تأثيراً وخطراً. بالنظر إلى أن قضية السلام كإستحقاق وطنى سودانى يتطلب مقاربة “المبادرة الرباعية” على أساس أنها – رغم أهميتها كنافذة لدعم مشروع إنهاء الحرب وبناء السلام – ليست مشروعاً أصيلاً بحد بذاته لبناء السلام. لهذا على القوى المدنية الديمقراطية التوافق على ميثاق وطنى وازن والعمل على توظيف المبادرة كرافعة تحت سقف هذا المشروع. إذا لم يتكون فعل وطنى قوى وجامع ستفشل هذه المبادرة لا محالة، ليس فقط بسبب الفعل المعاكس من معسكر الحرب “الإسلاموى” وتوابعه، بل أيضاً لمخاطر إضطرار دول الرباعية فى حالة غياب أو ضعف الفعل المدنى الديمقراطى إلى الركون للحلول الآنية بحسب نظام “الوضع الطبيعى الجديد:the new normal “، الذى تتمثل أهم مرتكزاته فى الإكتفاء بإنجاز “السلام السلبىnegative peace: ” و “تسليع السلام” فى سياق صفقات وتفاهمات لإقتسام السلطة بين النخب العسكرية وقوى مدنية “افتراضية” وأيضاً بينها وبين مصالح أجنبية فى سياق إتفاقيات غير متكافئة تقضى على القليل المتبقى من السيادة الوطنية المنتهكة أصلاً (1).

المصفوفة الأولى من أهداف الميثاق الوطنى:

تحديداً، فى سياق مصفوفة الأهداف الاستراتيجية الأولى، ركزت بالتفصيل فى مقالات سابقة(2)على محورين أساسين: الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية، باعتبارهما ركيزتين لأي انتقال ناجح. وهنا، يصبح الدور الأممي ضرورة استراتيجية، يتمثل في ضمان اعتماد المعايير العالمية في الإصلاح الأمني والعدالة الانتقالية لتفادي حلول شكلية تخدم النخب المسلحة؛ توفير مظلة شرعية متعددة الأطراف للحد من المصالح الضيقة والتدخلات الإقليمية، وضمان استقلالية القرار الوطني؛ وتعزيز الشراكة الإقليمية بالتكامل مع الاتحاد الأفريقي، إيقاد، الجامعة العربية، ودول الجوار العربى-الأفريقى. كذلك نوهنا إلى الدور الحيوي للأمم المتحدة كحائط صد ضد تمرير الأجندات والإتفاقيات غير المتكافئة وفي تمكين القوى المدنية من الانخراط في تقديم العون الإنساني. ويتطلب ذلك بناء القدرات المؤسسية والإدارية، تطوير شراكات مع منظمات أممية ودولية، صياغة ميثاق للشفافية والمساءلة، وإنشاء منصات تنسيق وطنية، بما يجعل هذه القوى شريكاً ميدانياً مؤثراً وليس مجرد قوة تفاوضية.

مهام بناء السلام الأساسية تبدأ بالطبع من إنهاء الحرب والنهوض بالعمل الإنسانى وإعادة الخدمات الأساسية وكذلك الشروع فى إنفاذ برامج الإصلاح العسكرى-الأمنى وإعادة هيكلة القوات النظامية جنباً إلى جنب مع بناء منظومة عدلية ذات مناقبية مهنية عالية، تبتدر مهامها بمعالجة ملف العدالة الانتقالية مستهدية بما يتوافق عليه أهل السودان فى هذا الشأن. إنجاز هذه الأهداف سيؤدى بالضرورة إلى إجتثات عسكرة الاقتصاد والسياسة، الأمر الذى لا محالة سيحقق هدف بناء جيش مهنى يخضع للإدارة المدنية التى تترتب على الإنتقال المدنى المتوافق عليه. هذه المصفوفة من الأهداف معنية بتعديل توازن القوى لصالح المجتمع.

المصفوفة الثانية من أهداف الميثاق الوطنى:

إلا أن مشروع البناء الوطنى سوف لن يكون مكتملاً من دون التوفر على برامج وأدوات لتعزيز قدرة المجتمع (أى القوى المدنية الديمقراطية) فى معالجة الثلاثية المدمرة التى تسببت فى انتكاسة الانتقالات الديمقراطية السودانية، كما أشرنا لها فى المقال السابق(3):
• الإستقطاب السياسى” و”عدم الوفاء للمواثيق؛
• الإصرار من قبل النخب الأمنية-العسكرية على مواصلة الإستحواذ على الموارد الريعية الاقتصادية وكذلك “الشعبوية الدونكيشوتية الجاهلة” بشأن معالجة الأزمات الاقتصادية للأنظمة الشمولية المزالة، خاصة فى حالة نظام الإنقاذ البائد
• وضعف مؤسسات التحكيم الرسمية والمجتمعية لمعالجة صراع الرؤى وتضارب المصالح.
برأى، بالاضافة إلى مشروعى الإصلاح الأمنى وإعادة بناء القوات النظامية من جهة وبناء المنظومة العدلية من جهة أخرى، معالجة الثلاثية أعلاه تستدعى إحاطة “العقد الاجتماعى” للميثاق الوطنى المنشود بخمس قضايا محورية، نوردها أدناه فى سياق أسئلةٍ تنتظر الإجابة:

أولاً، لماذا الحاجة إلى “شرعية اقتصادية” إلى جانب “الشرعية السياسية” لتحقيق مشروع نهضوى من أجل مخاطبة جذور أزمة المشروع الوطنى وتحقيق السلام المستدام في السودان؟

ثانياً،
نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى إعادة النظر فى نظام “ويستمنستر” وإعتماد نظام رئاسى-برلمانى هجين؟

ثالثاً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى إلغاء الولايات والإنتقال إلى “الفيدرالية التنموية” على أساس الأقاليم ومحليات “المدن المنتجة”؟

رابعاً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا نالحاجة إلى حكومات وحدة وطنية إنتقالية ومنتخبة لتحقيق مشروع الانتقال السلمى النهضوى؟
خامساً، نحو عقد اجتماعي متين: لماذا الحاجة إلى سردية وطنية فاعلة لهندسة المشروع الوطني؟
بإذن الله، سنعرض لهذه المحاور الخمس كمرتكزات للمصفوفة الثانية للعقد الاجتماعى للميثاق الوطنى المنشود فى المقالات القادمة.

[email protected]

_______________________________
(1) راجع ورقة عبدول محمد (المسؤول السابق في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة الذي يتمتع بخبرة واسعة في الوساطة في القرن الأفريقي، ولا سيما في السودان وجنوب السودان، وشغل مؤخراً منصب رئيس مكتب الممثل الخاص للأمم المتحدة للسودان):
From Ceasefires to Real Peace: Reclaiming the Purpose of Peacemaking in
a Polarized World
(2) راجع ورقتى الموسومة “نحو مشروع وطني من أجل السلام المدني الديمقراطي النهضوى: العملية الأممية واستحقاق الاصلاح الأمنى الشامل والعدالة الانتقالية”: https://www.medameek.com/?p=181767
(3) أنظر مقالى الموسوم “ما أشبه الليلة ب”أسوأ كوابيس” البارحة: السودان ما بين محاولات “عودة” الاتفاق الإطارى و”توطين” المبادرة الرباعية”: https://alghadalsudani.com/17129/ (صحيفة الغد السودانى).

تعليق واحد

  1. بالله بيننا رجال أمثال برفسور ابراهيم البدوي ونبحث عن الحلول هنا وهناك … هؤلا هم المهنيون التكنوقراط بكسبهم (العلمي والمهني) وإن كانت لهم خليفة حزبية فهذا لا يقدح في وصفهم بالتكنوقراط فمن الذي يملك التأهيل المهني والأكاديمي غيرهم بالاضافة لفهم عميق للمشكل السوداني والمجتمع السوداني فهم الجديرون دون أدنى شك بتولي المسؤلية في هذا المنعطف الخطير …… وإلا يصبح السودان مثل العراق جدل ونفاق وقلة عمل ولا تقوم له قائمة إلى يوم الدين … فاتعظوا يا أولي الأباب قبل فوات الاوان إني لكم من الناصحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..