تغيير العملة.. حسابات الربح والخسارة

ناهد أوشي – نادية محمد علي
دفع انهيار قيمة الجنيه السوداني بشكل متسارع أمام العملات الأجنبية عدد من الخبراء الاقتصاديين للمطالبة بتغيير العملة الوطنية لوقف التدهور السريع خاصة بعد أن أعلنت الحكومة حالة الطوارئ الاقتصادية على خلفية ما قالت إنه حرب اقتصادية ونهج تخريبي ممنهج لإفشال الفترة الانتقالية عبر المضاربة في أسعار العملات الأجنبية والذهب، مكتب رئيس الوزراء عبدالله حمدوك نفى نهاية الأسبوع أي اتجاه لتغيير العملة في الوقت الراهن، بعد صدور تصريحات لقوى الحرية والتغيير في وقت سابق تتحدث عن موافقته.
السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء البراق النذير الوراق، نفى ما نشرته بعض الصحف والمواقع، بشأن موافقة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك على تبديل العملة.
وقال النذير في تصريح صحفي: “قرار تبديل العملة مسألة فنية بحتة وفي ظل دولة المؤسسات فإن البنك المركزي هو الجهة المعنية بتقدير الموقف وكيفية التعامل معه”.
وأضاف أيضا:”مثل هذه القضايا لا يتم التعامل معها كقرارات فوقية بل عبر الأسس العلمية والاقتصادية والتخطيط”.
تغيير متأخر
تشير بعض التقديرات لوجود نحو 92 في المئة من الكتلة النقدية خارج الجهاز المصرفي، فضلا عن وجود تزوير كبير في ظل ضعف العلامات التأمينية وجودة العملة المتداولة، وهو ما يعزز من مطالب تغيير العملة.
القيادي باللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله، يقول في حديثه لـ(الديمقراطي)”بدون تغيير العملة لن يتحقق مناخ إيجابي لتحقيق إصلاحات اقتصادية، حيث إن أكثر من 90% من معرض النقود موجود خارج الجهاز المصرفي أو مكدس لدى قوى النظام البائد مما يؤكد أهمية استصدار عملة جديدة”.
ويشير خلف الله إلى أن قوى التغيير متمسكة بتغيير العملة بغض النظر عن تكلفتها لأنها ضرورية للإصلاح الاقتصادي والاستقرار السياسي والأمني”
وليس بعيدا عن ما سبق المدير الأسبق للنقد الأجنبي بالبنك المركزي حامد جعفر يقول لـ(الديمقراطي) إنه كان يتوقع تغييرا سريعا للعملة بعد انهيار النظام البائد لقطع الطريق على الفساد والمضاربات وتزوير العملة وتجفيف مصادر دعم النظام السابق التي تمتلك أموال طائلة خارج النظام المصرفي.
المدير الأسبق للنقد الأجنبي بالبنك المركزي يشير إلى أن هذا القرار كان بإمكانه قفل الباب تماما أمام عمليات المضاربة على الدولار والذهب، مضيفا:”لو تمت عملية التغيير في البداية ستكون الفائدة أعلى بكثير مما هو عليه الآن، لكن أن تأتي متأخرة خيرا من ألا تأتي أبدا خاصة في ظل تزايد مخاطر التزوير”.
دعاة تغيير العملة يمضوا أكثر ويشير لعدة مقترحات تقدم بها خبراء اقتصاديون أبرزهم البروفسير عبدالوهاب بوب تتلخص في إيداع كل شخص أمواله وفقا لرقم حساب مصرفي في فترة زمنية محددة، وبعدها أي أوراق نقدية تصبح غير سارية المفعول وغير مبرئة للذمة، مع ضرورة مسالة أي شخص يمتلك أموال طائلة عن مصدرها ويثبت أنه دفع منها كل مستحقات الدولة وإلا تفرض عليه العقوبات الرادعة المشددة.
تودع الأموال في حسابات الأشخاص المرتبط بالرقم الوطني أو الرقم التعريفي الضريبي مع تسهيل إجراءات الدفع الإلكتروني والموبايل، مع تحديد سقف صرف يومي محدد للأفراد والجهات الاعتبارية مضبوط إلكترونيا، وأي زياده علي السقف اليومي يجب أن تكون مربوطة بالفاتورة الضريبية الإلكترونية. وأي زيادة في رصيد الحساب يجب أن يوضح مصدرها بفاتورة ضريبية أو عقد قانوني موثق، فيما يتم
سك عملات معدنية ذات فئات صغيرة لا تتعدى العشرة جنيه وذلك للتعامل في المناطق الطرفية التي لا تتواجد بها شبكة اتصالات على أن يصدر قانون بتحديد سقف معين يسمح للأفراد بحيازته. ويعتبر كل من تعدي هذا السقف مضارب في العملة ويقدم للمحاكمة.
تحذيرات وتقديرات
في المقابل ثمة تحذيرات من اللجوء المتسرع لخيار تغيير العملة دون إجراء إصلاحات مؤسسية و اقتصادية حقيقية، باعتبار أن مواجهة ضعف الإيرادات الحكومية والفساد والمضاربة أعمق من أن يحل بتغيير العملة، مع عدم وجود ضمانات لبقاء الأرصدة النقدية المستهدفة في القطاع الرسمي لو تم الاستبدال كما في التجارب السابقة، علاوة على ذلك تواجه الحكومة الانتقالية صعوبات في توفير المبالغ المطلوبة بالعملة الأجنبية خاصةً في حال قررت الالتزام بالعدد الأمثل للعلامات التأمينية التي تجعل عملية تزوير فئات العملة شبه مستحيلة.
الخبير الاقتصادي عبدالله الرمادي يحذر من تغيير العملة دون دراسة متأنية من الخبراء والمختصين. الرمادي يقول لـ(الديمقراطي) إن مثل هذه القرارات يجب أن تكون وفقا لتقديرات مهنية وليست سياسية مضيفا:”إن دعاوى تغيير العملة لسحب الكتل النقدية من الجمهور ووضع سقوفات للسحب يعمق أزمة الثقة في الجهاز المصرفي”.
ويدعو الرمادي لزيادة ساعات العمل في الجهاز المصرفي بإضافة دوام مسائي لفروع المصارف العاملة في الأسواق والمجمعات التجارية وهو ما سيوفر مرونة للأعمال التجارية ويجعل السيولة متوفرة للتجار عند الحاجة.
اتجاه مغاير
المستشار الاقتصادي فاروق كمبريسي يمضي في اتجاه مغاير تماما ويرى أن الاقتصاد بحاجة لإصلاح شامل وليس استبدال للعملة فقط، مضيفا في دراسة أعدها حديثا:”إن تسريع وتيرة العمل في زيادة الإيرادات سيكون مجدياً أكثر من اللجوء لخيار استبدال العملة الوطنية”.
المستشار الاقتصادي يعزز حديثه بالاشارة إلى أن التحصيل الضريبي لا يتجاوز 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي – تحتاج المالية السودانية لنحو 13 في المئة من الناتج المحلي على الأقل للإيفاء بالتزاماتها لتوقف الحاجة للاستدانة من النظام المصرفي، أما النقطة الثانية – الحديث ما يزال لكمبريسي- تتعلق بخسارة الإيرادات عبر الإعفاءات الجمركية وهو ما يؤدي لفقدان 43 في المئة في شكل تعرفة جمركية، و37 في المئة في شكل ضريبة قيمة مضافة على الواردات، حيث إن الخسارة الكلية في ضرائب التجارة الدولية تعادل 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
كمبريسي يقول إن أي زيادة مفرطة في عرض النقود سينتج عنها انخفاض كبير في قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وأثر هذا الانخفاض سينتقل سريعاً إلى التضخم بسبب استيراد مختلف السلع والخدمات من الخارج وفق سعر السوق الموازي – نحو 85 في المئة من إجمالي الواردات التي تصل قيمتها لنحو 9 مليارات دولار في السنة العام-.
الخبير الاقتصادي طه حسين يشير في حديثه لــ(الديمقراطي) إن عرض النقود مطلع العام وصل إلى 637 مليار جنيه بحسب البنك المركزي ليتجاوز نهاية العام 800 مليار وهو ما يعني زيادة كبيرة بسبب الطباعة، ويلفت حسين إلى معضلة أخرى متصلة بوجود نسبة كبيرة من هذه الكتلة خارج الجهاز المصرفي. مضيفا:”هناك 63 مليار في أيدي الجمهور في ستة أشهر الأولى 231 مليار وصل إلى 344 مليار”.
ويلفت حسين إلى أن هذه الأرقام لو تمت مقارنتها بالموازنة العامة للدولة تعتمد في إيرادتها على الاستدانة من البنك المركزي فموازنة وزير المالية السابق إبراهيم البدوي اعتمدت على أكثر من 59.830 مليار – حجم الاستدانة – بينما طلبت وزيرة المالية الحالية هبة محمد علي 200 مليار مع ملاحظة أن هذه الأرقام موازنة وليست فعلية.
عقبات وحلول
الموقف الرسمي ظل يؤكد أن تغيير العمل إجراء غير مجدي خاصة في ظل تكلفته العالية بالنسبة لخزينة الدولة في هذه المرحلة، وزيرة المالية المكلفة هبة محمد علي دافعت في وقت سابق عن عدم لجوء الحكومة لتغيير العملة لارتفاع تكلفتها والتي تبلغ 400 مليون دولار ووصفت تغيير العملة بأنه غير فعال.
الخبير الاقتصادي عبدالعظيم المهل يرى أن هناك عقبات سوف تواجه عملية التبديل ومنها تكاليف طباعة عملة جديدة والتي هي ليست بالأمر اليسير والذي يطلب بالنقد الأجنبي سواء تم طباعته بالداخل أو بالخارج، مضيفا في حديثه لــ(الديمقراطي):” ألا إن المكاسب من تغيير العملة تعتبر أكبر أعلى من تكلفة الطباعة التي يمكن توفيرها جزئيا أو كليا من الدعم الخارجي”.
آخر عملية استبدال للعملة الوطنية بعد انفصال جنوب السودان في الفترة من 23 يوليو إلى الأول من سبتمبر 2011 كلفت 169 مليار جنيه (حوالي 80 مليون دولار)، فيما بلغ وقتها حجم العملة المتداولة لدى الجمهور 12.8 مليار جنيه، وعرض النقود 41.9 مليار جنيه.
وبحسب بعض الدراسات لتقدير تكلفة تغيير العملة نجد أن العملة المتداولة في يد الجمهور في يونيو الماضي بلغ 344 مليار جنيه (تضاعفت 27 مرة تقريباً)، وبلغ عرض النقود 837 مليار جنيه (تقريباً تضاعف 20 مرة). وهذا يعني أن تكلفة الاستبدال ستكون كبيرة جداً وربما تتجاوز التكلفة السابقة بحوالي 6 أضعاف على أقل تقدير.
الخبير الاقتصادي طه حسين يقول إن الدعوة لتغيير العملة بدات في العام 2015 إلا أن الحكومة السابقة تراجعت عنها في العام 2018 وفكرت في سحب فئة 50 أكبر الفئات وقتها إلا أنها تراجعت مجددا ليتم إصدار فئة 100 و200 و500 وهو ما ساهم في زيادة تخزين العملات خارج الجهاز المصرفي وأدى لوجود سعرين (كاش وشيك).
عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله، يقول إن تكلفة استمرار العملة بشكلها الحالي يفوق تكلفة تغييرها.
عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير يكشف عن مبادرة تقدم بها ابناء وبنات السودان بالخارج للمشاركة في توفير جزء من تكلفة إصدار العملة الجديدة، ويقترح خلف الله بعض المعالجات أبرزها تحديد رسوم رمزية لتغيير العملة تصل لنحو 2 في المئة لمن تجاوزوا سقف السحوبات، بجانب تعزيز الدفع الإلكتروني.
خلف الله يؤمن على ضرورة أن تصاحب عملية استبدال العملة حزمة من السياسات الإصلاحية لاستعادة الثقة في الجهاز المصرفي.
تراتبية الإصلاح
التسلسل الصحيح للإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية والإصلاحات الاجتماعية أمرٌ ضروريٌ لضمان الاتساق، ومما يجعل من الضرورة أن يقترن إصلاح القطاع العام والمؤسسات المالية بتغييرات تنظيمية أعمق في عمليات صنع القرار المركزية للحكومة، بما يضمن الفصل بين وظائف الدولة المختلفة ويتيح لها العمل بصورة مستقلة. وعلاوة على ذلك، يجب إنشاء خدمة مدنية احترافية ومستدامة تمثل جميع قطاعات المجتمع السوداني.
الاقتصادي فاروق كمبريسي يدعو لتهيئة البيئة القانونية والتشريعية للإسهام في تقليل الأنشطة المالية غير المشروعة، والأنشطة التي تغذي الاقتصاد الموازي عبر حزمة من القوانين أبرزها قانون حيازة النقد بالعملة المحلية وتحديد السقوفات التي يحتفظ بها كل شخص عادي أو طبيعي، والعقوبات بصورة واضحة رادعة، وقانون السجل العقاري لتحديد وتسجيل ونقل مكلية الأراضي والعقارات بجميع أشكالها، وتحديث بعض المواد والضوابط في قانون غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإصلاح قانون الضرائب وإدخال تشريعات جديدة تتعلق بالتهرب الضريبي. بحيث تتم مقارنة المبالغ التي يرغب أي شخص عادي أو طبيعي في استبدالها بنوع النشاط التجاري والمهني وتطبيق القوانين الخاصة بعملية غسل الأموال وضوابط مكافحة التزوير والسجلات التجارية والملفات الضريبية للشركات والمنظمات والجهات المماثلة.
كمبريسي يقترح الاستثمار في الرقمنة بحيث يتم النظر في إدخال شكل جديد من العملات الرقمية القانونية الصادرة عن البنك المركزي، على غرار تجربة بعض الدول التي استهدفت تقليل العملة في يد الجمهور، بجانب تطوير نظم الدفع الإلكترونية للمساعدة في تقليل التعاملات النقدية وتعديل القوانين ذات الصلة.
الديمقراطي