مقالات ثقافية

قُبلة خاطفة لعناية السيدة!

عبد الحميد البرنس

التحقَ، مترقيا، منذ سنوات، بالمكتب الرئيس، في شارع برادووي، ولم نعد نراه بعدها داخل ذلك المجمع التجاري إلا لماما.

علم من كيتي بقرار رحيلي المباغت إلى “العاصمة أتوا”، فحضرا لوداعي هو وزوجته دون فيشر حاملين الطعام إلى شقتي.

كان ذلك غريبا على طباع أهل “هذه البلاد”. أكثر من ذلك، أكدا لي، هو وزوجته دون فيشر، بمشاعر لم أعهدها من قبل فيهما أنني بمثابة شقيقهما الأصغر. ثم طلب هو مني طلبا لا يصدر الحق إلا عن مخنّث: أن أقف عند تقاطع شارعين، حددهما لي بالاسم، في محل إقامتي المقبلة في “أتوا”، ألتقط صورة لي، ثم أرسلها له على عنوانه البريدي الخاصّ. كانت زوجته دون فيشر تنظر إليه في تلك اللحظة بشيء مما يدعونه “الحنان”. مع غموض كل ذلك، لم أسأله:

“لِمَ كل هذا، يا مستر ديفيد”؟

متأنق كعريس. رصين كجبل. موفور الصحة كثور الحصاد. يمضغ طعامه ببطء وعقله شارد عادة في أمكنة لا تراها العين.

أحيانا، يؤدي وظيفته كما لو أن له صلاحيات مَن يعمل مديرا لوكالة الاستخبارات الأمريكية. عدا ذلك، لا سيما خلال تلك الأوقات الرتيبة، لا ينفك ديفيد مور هذا من تقمّص أدوار الفلاسفة. في تلك المرات، التي رأيتهما فيها معا، كزوجين “متحابين”، بدت لي دون فيشر إلى جانبه نحيلة، متعبة، شاحبة، مأكولة المعنويات، تتحدث بصوت واهن فتحسّ كما لو أنها توشك على البكاء، كما لو أن ديفيد مور يمتصّ منها ماء الحياة. مع أنّه في المجمل ظلّ يتعامل معها على الأقلّ في حضورنا نحن الحرّاس بلطف يجعلك تشتهي أن تقع اللحظة في غرام كبير “مثل هذا”. لم تكن تعتني بثيابها. لا تضع مكياجا. كان في نظرتها شيء ما طبيعي أقرب إلى حنان الأمومة. أما شفتاها الرفيعتان، حين تقابله أو تهم بوداعه، فقد كان يشع منهما لثانية رفيف طائر أبيض في يوم بارد. إذ ذاك، لا تملك سوى أن تهتف في قرارة نفسك، قائلا:

“يا لها من قُبلة خاطفة”!

كانت دون تحضر، إلى ذلك المجمع التجاري الضخم، حاملة في يدها شنطة قماش خضراء متوسطة الحجم، تحتوي على طعام داخل عُلب بلاستيكية صغيرة وأكواب فارغة. كان وقت راحتها المخصص لتلك الوجبة النهارية كمحاسبة ماليّة ساعة بالتمام، بينما لا يتجاوز الوقت المخصص لنا كحرّاس بلا مؤهلات علميّة تُذكر مدى النصف ساعة. كانت تقوم بتدفئة الطعام قبيل حضورها من مكان عملها القريب. تجلس إلى مائدة طرفية من موائد كافتيريا المجمع الجنوبية الواسعة في الطابق الأرضي. تضع العلب على المائدة. تزيح أغطيتها واحدا واحدا. لا يكاد يصدر عنها صوت. تملأ كوبين بماء مغلي من صنبور ملحق بالكافتيريا. تسكب على الكوبين بعناية محتوى صرة صغيرة من مسحوق شوربة صيني خال من التوابل الحارقة. تفعل ذلك بتساو دقيق وصمت. لكأنها تزن أمرا أقرب في تاريخ الحرص على العدالة إلى الذهب. بعد ترقية ديفيد مور المتوقعة تلك، لم نعد نرى دون في موقع العمل مرة ثانية. لا ريب أنّها كانت مليحة في مطلع شبابها. أثر الجمال القديم على وجه النساء أمر ظلّ يصيبني لسبب ما بمثل ذلك النوع الغامض المبهم من الأسى.

أخيرا، حين يقبل هو نحوها، قبل خمس دقائق من بداية وقته الفعلي المخصص لتناول تلك الوجبة النهارية، وكان الوغد يسترق مثلها بعد انتهاء الزمن المحدد له؛ يجدها تنتظره في جلال تلك الإطراقة نفسها، بينما تضغط على أصابعها أسفل المائدة بعصبية. كذلك ينحني ديفيد مور نحوها، يقبلها خطفا، وقد ارتسم على صفحة وجهه وسامة ذلك التعبير الأكثر خلودا وجلالا وحضورا في الزمن المتلاشي صوب فنائه من بين سائر “المشاعر الإنسانية” الأخرى: الجلوس إلى المائدة!

“المجد قمة جبلية باردة، يا مستر هاميد”.

تلك عادة الحارس ديفيد مور في الحديث.

ما إن تتقمصه روح الفيلسوف في أي لحظة، يغادره التبسط، لا يناديك عندها دون أن يقرن اسمك بكلمة مستر. كما لو أن الصلاة لن تستقيم من غير طهارة.

“وكيف يكون ذلك، إذن، يا مستر ديفيد”؟

كذلك أجاري طريقته تلك في الكلام على مضض ودائما تكون هناك ابتسامة تشجيع على وجهي عند بدايات تلك الحوارات.

يبدأ مستر ديفيد مور يشرح لي لماذا أخذ ينظر إلى المجد كقمة جبلية مغطاة بالثلج، قائلا: “بمعنى يا مستر هاميد: إذا زاد توهج هالة المجد حول إنسان ما، أخذت تلف روحه في المقابل عتمة العزلة وشبكة العلاقات تتساقط تلقائيا من حوله”.

بدا لي أنه يستعير هنا لكن على نحو أقلّ رصانة إحدى مقولات الإسكندر المقدوني: “أن نصبح أسطوريين أن نكون أكثر وحدة”.

لم أكن راغبا أبدا في تقديم نفسي وسط جمهرة أولئك الحرّاس كعاشق عريق للعبارات. قلت بالدهشة المصطنعة نفسها: “شبكة العلاقات؟ كالصداقة مثلا، يا مستر ديفيد”؟ كما لو أن جان بول سارتر شرع يتحدث لحظتها من مكان ما داخل رأسه. قال: “ربما كان الأمر كذلك يا مستر هاميد! لكن! لو تدري! يا مستر هاميد! أو دعني أقول لك موضحا أنني ظللت أتخيل في بعض الأحيان أن العباقرة لدينا من أمثال توماس إديسون وتسلا ليسوا في نهاية المطاف سوى مقامرين عظام في سوق الأوراق المصيريّة للقدر. مقامرون رهنوا حاضرهم طواعيةً في مقابل آتٍ مجهول. لكن، بحق المسيح، قل لي ما معنى أن يهجر المرء ألق اللحظة الراهنة في مقابل شيء لا يزال في رحم المستقبل لم يولد ومعايشته ليست بالوسع”؟

كان ذلك بعض حوارات “مستر ديفيد”، التي لم تدعها مفاجآت العمل في العادة أن تكتمل. وقد بدت لي حوارات الحارس ديفيد مور هذا، في بيئة العمل المحدودة فكريا تلك، ووسط أولئك الحرّاس أشبه بتسويق حذاء رياضي ما، إلى مقعدين. مرة، كنا جلوسا داخل الكافتريا، أنا وهو وديريك، ولا أدري كيف سيطرت وقتها، بالكاد، على بركان الضحك، الذي أخذ يغلي عندها داخل نفسي؛ لما انبرى مستر ديفيد مور هذا مخاطبا زميلنا ديريك مولر: “لماذا يأكل الناس ويشربون يا مستر ديريك”؟ دون أن يتيح لنفسه لحظة تفكير واحدة، أجاب ديريك كما لو أنّه تخلى عن إرتيابه لطولِ مخالطة السائل، قائلا:

“كي ينتجوا طاقة الحركة، طبعا”.

هزَّ ديفيد رأسه كمن يتعاطف مع إحدى تلك الإجابات “الغبية”. واصل مضغَ قضمة أخرى من شرائح البطاطا المشويّة. لم أرغب في سؤاله لماذا تغيبت زوجته دون فيشر “اليوم”. لنحو الدقيقة، ظلّ يتابع قراءة ملامح وجه ديريك مولر، الذي سرعان ما نسي أمر ذلك السؤال، وعاود استغراقه بالحماس المعتاد نفسه الذي بدأ به وجبته، غارقا تماما في صحن الأكل، مصدرا صوتا خافتا أشبه بتلك الأصوات التي يصدرها أثناء الأكل طفل ما في سنّ الخامسة، أو نحوها. “ما تقوم به هنا، يا مستر ديريك مولر، لهو نقل لهذا الحوار إلى مستوى يتعلق بوظائف أعتقد.. كما لو أنه اُجبر على مفارقة فخذي امرأة في منتصف معاشرة، قاطعه ديريك صارخا “اللعنة، يا ديفيد، لا تسبب لي من فضلك عسرا في الهضم”!

الأضواء تلتمع على حواف صحن ديفيد.

خطر لي في مساحة الصمت التي أعقبت حوارهما ذاك مباشرة ولا أدري لماذا أن لندن في أغاني البنات في الوطن تبدو أكثر ألقا أو جمالا من لندن نفسها!

بعد دقائق، نهضنا معا مغادرين الكافتريا.

ثلاثة حرّاس سائرون داخل بزّاتهم الموحدة.

هناك، عند منتصف قاعة الطبقة تحت الأرضية الأولى، تماما قبالة بنك إسكوتشيا، ودونما إضافة كلمة أخرى، اتجه كل منّا، نحن الحرّاس الثلاثة، في طريق.

مضى ديريك كمواطن محكوم بالهواجس أو حتى الهلوسة البصرية يمينا، لمواصلة عمله، كمراقب لحركة سير المرور، في مرآب السيارات أسفل الأرض، حيث يواجه هناك أشياء أنا متأكد أن الشيطان ماغ نفسه لم تخطر له من قبل على بال. انحرف ديفيد عكس اتجاه ديريك برصانة لا تليق سوى بحارس جاد لمتابعة عمله ذاك الأكثر وحدة أو عزلة من داخل مكتب الأمن، مراقبا سير أحداث العالم داخل نطاق تلك الطبقة عبر شاشات المراقبة المعلقة على الحائط قبالته، بينما يشيد العالم بالأفكار، أو يهدمه. في حين واصلت أنا السير، كحارس متجول، عبر طبقة الدور الأرضي من المجمع.

كنت متخما بالذكريات، مطهما بالحنين إلى شيء لا يني يبدو في كل مرة أثرا من بعد عين. وقد أنهيت وجبتي تلك للتو صحبة مستر ديفيد وديريك المرتاب، لا أدري كم من أعوام رخاء وأعوام عجاف مرت عليَّ وأنا بعيد عن أرض الوطن؟.

عبدالحميد البرنس

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..