ثقافة وآداب، وفنون

حارس أمن يصفّي حسابات الماضي!

عبدالحميد البرنس

لن أنسى تلك المرة التي مكثتْ فيها كيتي سام معي بعد إنتهاء زمن ورديتها بأكثر مما درج عليه الروتين. كاد يومها حائط العمر السميك أن يتلاشى بيننا. لا أدري كيف حدث هذا. لكن المؤكد أنني كنت راغبا وقتها في النوم إلى جوار عجوز!

كما لن أنسى تلك المرة الأخيرة لنا معا. وقد تأكد عزمي على مغادرة المدينة. قالت كيتي وقتها بأسى أخذ بشغاف قلبي بعيدا:

“إذن، لن نراك، مرة أخرى، يا هاميد”؟

أخيرا، عانقتني، عناق الوداع الأخير.

فعلت كيتي سام الجميلة ذلك، خطفا.

وأخذتْ تهرول صوب ابنتها الوحيدة دوريان التي جاءت لتقلها معها في سيارتها الفورد متأخرا على غير العادة. كما لو أنها لم تكن ورديتي الأخيرة. باشرتُ مهامي على خلفية موسيقية من أعمال صديقي موتسارت. أثناء ذلك، واصلتُ تتبع حركة كيتي وابنتها في المكان، متنقلا بناظري من شاشة لشاشة. فكرت أن ابنتها لم تجد هناك سببا ما كافيا لوداعي. فجأة، رأيت كيتي تتخلف عن سيرهما ذاك. توقفتْ هناك قبالة عدسة كاميرا معلقة أعلى إحدى بوابات الخروج المؤدية إلى شارع بورتيج. أرسلتْ لي من هناك قُبلة بفمها الصغير المحاط بالغضون. ابتسمتْ. كان ذلك آخر عهدي بكيتي سام.

“حفيدتي”، “بنتي”، “زوجي السابق”، تلك أحب الكلمات إلى “عزيزتي كيتي”، كما أحبّ أن أدعوها دائما. كان حبها تجاه ابنتها وحفيدتها آشلي ذات العذوبة ماثلا حتى خلال تلك اللحظات التي يشعر المرء معها كما لو أن الخرس وحده سيد العالم. في المقابل، لم تكن كيتي سام تذكره سوى بتلك الصفة، “زوجي السابق”. كما لو أنها تؤكد على غياب الرفيق المؤانس.

امرأة ذات جمال يضوع بعبق تلك الأشياء العتيقة. تقف على بعد خطوات قليلة من نهاية الخدمة المدنية. مع ذلك، لا تزال كيتي سام تتمتع بجاذبية أنثى في منتصف الأربعين، محتفظة بشعر مراهقة ذهبي وقوام عارضة أزياء أندلسيّة لا يُحتمل.

على مدى أعوام، ظللتُ أسلِّم كيتي الوردية، أتسلَّمها منها في اليوم التالي. أحيانا أخرى متفرقة نادرة كان يعاد هيكلة الجدول فنجتمع معا داخل نفس الوردية. ما إن أراها في كل مرة حتى أحسّ كما لو أنها في حاجة أخرى إلى ذات الكلمات:

“تبدين اليوم جميلة.. عزيزتي كيتي”!!

كذلك، لم أكن أجعلها تنتظر طويلا.

يشرق وجهها هنا. أو ترتبك كعذراء.

لكم أفتقد (الآن) كيتي سام الجميلة!

أذكر أنني حضرتُ إلى المكتب يومها لآداء وظيفتي الروتينية كحارس بديل لها. ما كان لعيني المدربة طويلا على سبر أغوار البشر الخفيّة أن تجهل أبعاد المأساة التي ألمت بها في ذلك الصباح. هناك صمت يضج بالحزن والضياع معا. سألتها:

“ما بكِ، عزيزتي كيتي سام”؟

قالت:

“لا شيء. هي دوريان فقط”.

قلت:

“ما بها”؟

قالت:

“هاتفتني منذ قليل”.

قلت:

“وبعدين”؟

قالت:

“المسكينة! لا تزال تشكو من قبحها”.

كنت أعلم أن ابنتها الوحيدة دوريان تلك مطلقة. حين جاءت دوريان في إحدى تلك المرات لاصطحاب أمّها، وقد رأيتها للمرة الأولى، بدا لي بالفعل أن دوريان هذه أقلّ جمالا بكثير من عزيزتي كيتي سام الجميلة هذه، بل بما قد لا يقارن البتة، حتى انني قلت في سري وقتها ولا أدري لماذا قد خطر لي ذلك إن كيتي سام قد حبلت بها لحظة كراهية ما ولا بد. ثم لا شيء هناك قد يساعدني في إعادة الطمأنينة إلى روح هذه الأمّ المعذّبة سوى استعارة صوت لورد الله الفقير صديقي السابق خلال أيام القاهرة الموغلة في البعد والنسيان. “للأسف، عزيزتي كيتي، نحن لا نتحكم في أشكالنا لحظة قدومنا إلى هذا العالم”. هكذا، خرج صوتي أخيرا عبر ما بدا مسارب الحكمة. “أخبرتها بذلك”، قالت كيتي سام معقبة بأسى. “لكنني”، قلت على سكة المواساة نفسها “أرى شيئا آخر، عزيزتي كيتي”. كالغريق لاح لعينيه طوق نجاة، برقتْ عيناها، سألتني: “ما هو، يا هاميد”. قلت فيما عيناي المعتكرتان للتو تطالعان حطام تلك الأشياء داخلي: “لا بد لدوريان أن تتقبل شكلها”. وقلت لحظة أن غرقت كيتي سام الجميلة في صمتها المطرق ذاك مرة أخرى: “أنا، عزيزتي كيتي مررت خلال حياتي بأحزان كثيرة لا مبرر لها. كاكتشافي أنني ظللت كل ذلك الوقت أعيش محاطا بلا صداقات حقيقية. قد تعود ابنتك دوريان إلى تقبل شكلها كواقعة طبيعية كواقعة غروب شمس هذا اليوم أو ذاك. لكن كيف لي عزيزتي كيتي أن أمحو من نفسي ذكرى عزيز خان بوجبة طعام في مدينة كبيرة كالقاهرة. ها أنتِ تنسين أحزان ابنتك متطلعة إلى أصداء قصص من عالم آخر غريب تماما. لو جاز لي أن أهب دوريان بعضا من خبراتي المتواضعة تلك في مكافحة مثل هكذا أحزان لا مبرر لها، لهمستُ في أذنها أن تواصل طريقها بصبر وشجاعة ومحبة ولا تركن إلى المأساة طويلا”.

بتلقائية، وضعت كيتي سام الجميلة يدها بدورها على كتفي. قالت: “لا تزال صغيرا، كيف حدث أن طفح قلبك بكل هذه الأحزان، يا هاميد”؟ كما لو أنها تلامس كتف الفراغ، لا كتفي، ظلّ إحساسي بها كذلك متبلدا. ربما لأن حياتي ظلت لفترة طويلة خالية من عزاء. حتى إنني لا أكاد أذكر آخر مرة منحني فيها إنسان ما كل ذلك الفيض من التعاطف، أو القرب!

حين نهضتْ كيتي أخيرا، ووقفت قبالتي وتبعتُها بدوري واقفا وعانقتني، ويا لأمراض الجوع المستوطنة بين ساقي؛ بدأتُ أشعر تماما بمثل ما حدث لي من مشاعر أثناء معانقتي لها عند بداية تلك الوردية من ميل مباغت تجاه العجوز لا يحتمل.

أجل، “لكأن بي نزعة دفينة لإشتهاء الموت”.

كان مثل هذا النوع من الحديث يجتذب كيتي سام مثل كاثولوكية طيبة تنحدر بجذورها إلى محافظة أونتاريو في شرقي كندا.

مع ذلك، لم تكن كيتي سام تحب الذهاب في العادة إلى الكنيسة، حيث “يذكِّرونك هناك في كل لحظة وثانية بوجودك العابر في هذه الحياة”. كان التدين قد ترسخ لديها في “إشاعة الحضور الجميل بين الناس وإطلاق العنان ساعات العجز المطبق للنوايا الحسنة في تحسين صورة العالم” كذلك، فكرتْ كيتي سام الجميلة قبل سنوات بعيدة في “إنقاذ” طفل كما تقول من “آفركا”، لو لا ضيق ذات اليد التي ظلَّتْ تدفعها إلى لعب القمار ساعة من كل يوم، مضحية ببعض ساعات النوم القليلة المتاحة لها في أثناء النهار، بينما رسخ في ذهنها أن في إمكانها النوم خلال ورديات الليل من غير أن يحسّ بها أحد. “لعله تشيرشل، ذلك القائل: مطلقا، مطلقا، مطلقا، لا تستلم”. كذلك أعطيتُ عزيزتي كيتي سام الجميلة ما تبقى من زاد الوصايا كي تغذي به ابنتها الوحيدة دوريان لاحقا. في الأثناء، كانت كيتي تلملم أغراضها، حافظة القهوة، قارورة الماء، باقة الطعام، وتضعها بترتيب دقيق داخل شنطة الوجبات الصغيرة، وقد انفصلتْ كيتي قبلها عن عناقي ذاك لها، تماما كما قد حدث لحظة أن رمتْ هي نفسها برأسها على كتفي عند بداية تلك الوردية، وقد كادت الأمور أن تمضي وقتها في طريق لا يعلم في الأخير سوى الشيطان كيف يمكن الرجوع منه أو حتى العودة إليه ومغالبة مطباته المهلكة تلك مجددا. تمنّتْ كيتي سام لي أخيرا وردية هادئة. قالت: “كن سعيدا، يا هاميد”. رجوت لها في المقابل أحلاما نهارية سعيدة. ابتسمتْ مطرقة في عذوبة. خرجتْ. بدأتُ أتتبعها بذهن غائم بينما تتراءى عبر شاشة وأخرى، من شاشات المراقبة، تلك المعلقة قبالتي هناك، على الحائط. كم هو موجع أن تتحمل أمٌّ أحزانَ ابنة لا حظ لها من ملاحة.

كنت أسعد ما أكون لحظة أن تحضر عزيزتي كيتي إلى المكتب من قبل أن يبدأ زمن ورديتها الرسمي بأكثر من الساعة، تهبني الحرية من قيد الأسر الوظيفي مبكرا. لم أكن متعجلا على أي حال الذهابَ إلى شقتي. شقة لا ينتظرني فيها أحد.

باختصار، كان يحلو أن أّقاسم عزيزتي كيتي سام طعام الإنسانية على حواف بعض الورديات. تختفي هوية الحارسين، فوارق العمر واللون، ويبدو تناغم البوح ينبض بين قلبينا، بينما نضع المائدة دوما هناك على دفء المسافة القصيرة بيننا.

كانت كيتي تمضغ طعامها عادة ببطء وحذر مغالبة في الأثناء آلام الأسنان المزمنة وأشياء أخرى مزمنة كذلك في المعدة، أو قد تشير إليها في بعض الأحيان كشرخ قديم على جدار الروح تجدد على حين غرة، أو حتى على غير توقع. أما أنا المنفي الغريب، على خلفية سنوات صمتي الطويلة الممتدة تلك في بلاد الآخرين، فقد كنت ألتهم اللقم التهاما، لكأنها وجبتي الأخيرة، لكأني في سبيلي إلى تعويض أشياء عديدة ضاعت مني في هذا العالم، أو لكأنني أختزن شيئا من زاد الكلام لصحراء وحدتي القادمة لا محالة إلى حين عودة أماندا ماران بون في تلك الأيام إلى عالمي القحل الجافّ من بعد اختفاء ملغز آخر. لتنقلب حياتي هكذا مجددا لبعض الوقت إلى نعيم القرب أو جحيم المخالطة والأمر سيّان.

ما إن أوصد أخيرا باب المكتب الخارجي، وأسير مبتعدا في طريقي إلى محطة الباص القريبة على شارع بورتيج، متجاوزا العتبة الأولى لغيوم الذكريات المتكاثفة على سماء الحنين، حتى أدرك في نفسي أن كيتي تتبع مشاهد صوري “الآن” من شاشة لشاشة. فأتعجب مبتسما على نحو طفوليّ من الكيفية التي ينقلب بواسطتها السحر على الساحر أحيانا.

“الناس لا يدركون كم أنا في حاجة ماسّة الآن إلى المال”.

ذلك صوت امرأة ظلّ يتصاعد طويلا في مرة من مكان ما قرب محطة الباص تلك مترددا في الدقيقة الواحدة كالصدى. كان هناك ظلام ما بعد الثامنة مساء. لم أكن أقوى على تفقد مصدر الصوت خشية أن أفقد الباص الذي لاح قريبا هناك عند تقاطع شارعي بورتيج والمين. كان الصوت ينطوي في آن على مثل ذلك القدر الهائل من الألم وفقدان الأمل. كان بعض الناس في محيط المحطة يضحك لدى سماعه أو يبتسم. وهو لم يتوقف: “الناس لا يدركون كم أنا في حاجة ماسّة الآن إلى المال”. صوت غارق في اللوعة، محاط باللوعة من كل حدب وصوب، لا لشيء سوى أنّه كان اللوعة نفسها.

عبدالحميد البرنس <[email protected]>
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..