الفيتوري.. وَسِّدْ الآنَ رَأْسَكَ..!!

الخرطوم : خالد فتحي
وارتد إليه البصر خاسئا وهو حسير.. ثم انتحى محمد مفتاح الفيتوري جانبا يبكي بنشيج مر- وقتها- كانت الجماهير قد كسبت معركتها الفاصلة مع سلطة نوفمبر بقيادة الفريق إبراهيم عبود بعد أن خسرت أغلالها، وربحت من خلفها عالماً بأسره.. ونقشت في ضمير التأريخ فجرا ثوريا سرى وهجا تحمله الأيام اسمه “ثورة أكتوبر”.. ويروي الشاعر سيد أحمد الحردلو أطرافا من تلك القصة الغريبة، “أن الفيتوري خنقته العبرة عندما تناهى إلى أسماعهم -وقد كان بينهم- نبأ ثورة أكتوبر 1964م، وقال لهم- وهو يحاورهم: إنه الوحيد بينهم الذي تعاون مع سلطة نوفمبر، لكن الحاضرين طيبوا خاطره بأن قالوا له: ألا يكفيك أن الزعيم إسماعيل الأزهري يتغنى مع الجماهير الثائرة من شرفة منزله في أم درمان بنشيد (أصبح الصبح).. ولم يلبث شاعرنا الراحل إلا قليلا حتى كفكف دمعه، وفي القلب موجدة من نار لا تنطفئ، رغم مطايبة الرفاق.. وفي غمرة حزنه غشيه النعاس، ثم انتبه من غفوته، وكتب رائعته (عيون وطني):
لو لحظة من وسني..
تغسل عني حزني
تحملني.. ترجعني
إلى عيون وطني
أصبح الصبح..
كأن الزمن الماضي على الماء نقوش
فارفعي راية أكتوبر
فالثورة ما زالت تعيش
وأنا ما زلت في البعد أنادي
يا بلادي.. يا مغاني وطني.
ونشيد (أصبح الصبح).. تخطى حاجز المحلية? كصاحبه- وتحول إلى أيقونة ألهمت الزعيم الليبي معمر القذافي- الشديد الإعجاب- بالفيتوري كثيراً. وفي 3 مارس 1988م هدم القذافي السجون، وأطلق سراح المساجين، وأصدر العفو التام عنهم، واعتبرهم جزءا من المجتمع، يتم تأهيلهم، واستيعابهم في مؤسسات الدولة، وكان القذافي يقود أحد الجرارات؛ لهدم السجون- آنذاك- وهو يردد نشيد الفيتوري ذائع الصيت- أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقٍ.
(1)
أسبغت المقادير على شاعرنا الراحل موهبة استثنائية لا تضاهى، لفتت إليه وإلى تجربته الانتباهة منذ الوهلة الأولى، وعاونت تلك الموهبة الفيتوري على الانعتاق من قوالب الشعر العربي القديمة ذي الأوزان المحفوظة إلى قوالب شعرية أرحب، وتغلب على شعره النزعة الصوفية والتدين العميق قطعاً بتأثير الطريقة الشاذلية العروسية الأسمرية التي انتسب إليها والده وصار أحد خلفائها في الأرض، وتتبدى تلك التصاوير في قصائده، ولعل أشهرها (في حضرة من أهوى):
في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي في الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك…. لكنـي سلطان العشاق.
ثم لا ينأى بعيدا عن مصادر إلهامه فهو يناجي (ياقوت العرش)، وهو أحد كبار الزاهدين، وصفوة العارفين بالله، أجلّ أصحاب الشيخ أبي العباس المرسي ذائع الصيت في مصر، وصار خليفته من بعده، وأخذ عنه العارف الكبير ابن عطاء الله السكندري وغيره، ويتضوع عطرا، ويشع غيما، وسنا، في رائعته (معزوفة لدرويش متجول)، التي تضج بالمقاطع الفلسفية العميقة:
لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا
لن تعرفنا
ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا
أدنى ما فينا قد يعلونا
يا قوت
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا.
وفي مقابلة رائعة مع الصحفي الكبير كمال حسن بخيت- نشرت على صفحات جريدة (القدس) في 2003م- يقول الفيتوري عن تأثير ترانيم الصوفية على عقله وقلبه: “منذ دب الوعي في وجداني، وبدأت أدرك معنى بعض الكلمات، التي كان يرددها والدي ليلاً مع بعض زواره، من أدعية، وأوراد، وترانيم دينية، وتعلقت بما أسمع، وبدأت أفكر تفكيراً عميقاً لدرجة أنني تركت أقراني في اللعب وأنا طفل لأنضم إلى رفاق أبي في فناء البيت مستمعاً ومستمتعاً بآيات الذكر الحكيم، والتواشيح الصوفية، والأوراد، والقصص الدينية”.

(2)
كان الفيتوري حفيا بأفريقيا، وقد عبَّرت دواوينه خاصة الأولى منها عن جانب يتميز به عن غيره من الشعراء الذين يكتبون باللغة العربية، حيث احتفى بالبعد الإفريقي في شخصيته، وشعره فكتب ديوانه “أغاني أفريقيا” 1956 و”عاشق من أفريقيا” 1964، وكذلك “اذكريني يا أفريقيا” 1965، كما كتب مسرحية “أحزان أفريقيا”.
قلها‏، لا تجبن،‏ لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجد
وأمي زنجية
أنا أسود‏،‏ لكني
حر أمتلك الحرية
أرضي أفريقية.
وفي مقالته الموسومة (الشاعر محمد الفيتوري.. ويده المرتعشة) يقول ?سيدي محمد: الفيتوري مهر أصيل ضل وهاده ما بين مضارب تغلب وبكر وكندة وعبس، ساكنا روح عنترة، مرورا بكل عصور التشظي العربي- شعرا وسياسة-، حتى أصبحت قصائده سجلا وديوانا لكل أشكال الحركة المعاصرة بترسباتها وسباتها وثوراتها ومخاضها، وكأنما سكنت روحه شجر النيل، أو خبأ ذاته في نقوش تضاريس أمته:
سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبرا.
وهذا المقطع مجتزأ من قصيدته (قلبي على وطني)، التي رثى فيها قائد الحزب الشيوعي السوداني، وروحه الملهمة، عبد الخالق محجوب، التي أزهقها جعفر نميري بوحشية.. عندما دنا وتدلى عبد الخالق من أعواد المشنقة في يوليو 1971م.. وفي تلك القصيدة يستدعي الفيتوري صورة البطل النبيل، الذي نذر نفسه لخدمة الجماهير، ويستعير الفيتوري لسان عبد الخالق بأن سيرقد في كل شبر من الأرض، والإشارة واضحة؛ حيث وسد نظام نميري ضحايا يوليو في مقابر لا تزال مجهولة المكان حتى يومنا هذا.. ولعل الفيتوري استعاد عنفوان ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر)؛ عندما شخصت ببصرها إلى جثة ابنها (عبد الله بن الزبير)، الذي قتل وصلب وصدعت بقولتها الشهيرة: “أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟؟!!، أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟؟!!”، وبين يدي يوليو عاش الفيتوري تفاصيل محنة قاسية؛ حيث نزعت منه جنسيته السودانية على أيدي نظام نميري عقابا على قصيدته (قلبي على وطني)..
قتلوني وأنكرني قاتلي
وهو يلتف بردان في كفني
وأنا من؟، سوى رجل
واقف خارج الزمن
كلما زيفوا بطلا..
قلت: قلبي على وطني
(3)
هل كان الفيتوري ابن اللا مكان؟!، في مقالتها (الفيتوري في عزلة الشعر والنسك والمرض) تقول (نادية بن سلام): “ابن السودان ذو الأصول الليبية، والمنشأ المصري، ما كان أن يستقر في مكان واحد، وما كان للاغتراب أن يكون له منفى، اعتنق الشاعر كل الأوطان التي مرّ بها، تماماً كما يقول عن نفسه: «عندما أكون في مصر أصبح مصرياً، وفي ليبيا أكون ليبياً، وهكذا… لذلك لم تكن قصيدتي «منفى»، فأنا دائماً أشعر بالانتماء إلى كل أرض عربية أعيش عليها».
ومثلما رثى عبد الخالق سبقه بواحدة إلى مقام عبد الناصر يوم رحيله إذ يقول في رائعته (القادم عند الفجر):
الآن وهم يبكون كأن ملايين الأرحام ولدتك
وأنك عشت ملايين الأعوام
وكأن اسم البطل المنحوت على جسم الأهرام اسمك
وكأن يد العربي الأول، تشعل كل مآذن مكة
في ليل الصحراء… يدك
وكأنك كنت تقاتل تحت لواء محمد.. في فجر الإسلام
وليلة أن سقطت خيبر
قبلت جبين عليا مبتسما
ورحلت غريبا تحملك الأيام
لتبصر ظل جوادك عبر موانئ بحر الروم
وتبني أهرامات أمية فوق جبال الشام.
(4)
وعندما نزلت الجماهير الثائرة في ساحة انتفاضة أبريل 1985م وجدت شاعرنا الراحل حاضرا، وأهداها رائعته (عرس السودان)؛ إرهاصا بغد أفضل.. التي تموسقت لحنا عبقريا بإلهام الموسيقار الراحل محمد وردي، تماما كما صنع مع سابقتيها (أصبح الصبح) و(عيون وطني).. ولما كان الموت يفجر التساؤلات الفلسفية العميقة فقد سبق درويش بالمناجاة إذ قال: (أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض/ انتظرني في بلادِكَ/ ريثما أُنهي حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي/ قرب خيمتكَ، انتظِرْني ريثما أُنهي/ قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد).
أما الفيتوري فقال: “نركض خلف الجنائز/ عارين في غرف الموت/ نأتيك بالأوجه المطمئنة/ والأوجه الخائفة).. ومنذ أيام خطا (الخال) عبد الرحمن الأبنودي إلى حيث البرزخ.. فكيف وجدوا بعضهم هناك؟!، وكيف أزجوا وقتهم هناك مع اللا وقت؟!.
التيار
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يا زمن يا جميل.
    كنت صغيرآ في عقد الستينات الماضية. قرأنا ترجمته في آخر صفحة كتاب المحفوظات…محمد مفتاح الفيتوري. ثم عرفناه أكثر بعد أن كبرنا و قرأنا له أشعاره المفعمة بالثورية و الأمل.
    يرحمه الله.

  2. يا زمن يا جميل.
    كنت صغيرآ في عقد الستينات الماضية. قرأنا ترجمته في آخر صفحة كتاب المحفوظات…محمد مفتاح الفيتوري. ثم عرفناه أكثر بعد أن كبرنا و قرأنا له أشعاره المفعمة بالثورية و الأمل.
    يرحمه الله.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..