نظرةُ الفرنسيّين للمُسلمين المهاجرين قبل حادثة شارلي إيبدو: الإسْلاَمُ?هَلْ أَحْدَثَ تَحَوُّلاً في فِرَنْسَا وَأُوروُبَّا؟!

محمّد محمّد خطّابي

غرناطة ـ «القدس العربي» للكاتب الأمريكي كريستوفر كالدويل، المتخصّص في شؤون القارّة العتيقة (مختلف البلدان الأوربية وبشكل خاص فرنسا) كتاب يحمل عنوان: «ثورة نصب أعيننا، كيف سيحدث الإسلام تحوّلاً في فرنسا وأوروبّا؟» صادر عن دار النّشر الفرنسية «تُوكَانْ» في باريس قبل الحوادث التي عرفتها فرنسا مؤخّراً ببضع سنوات. يعالج فيه مؤلفُه العديد من القضايا التي لها صلة بالإسلام والمسلمين والهجرات الإسلامية إلى الغرب. كما يسلط الأضواء على مختلف الإشكاليات التي تطرحها إكراهات العيش والتعايش والمعايشة في المجتمعات الغربية للجانبين، سواء بالنسبة للمهاجرين على اختلاف أعراقهم وأجناسهم وإثنياتهم وأصولهم، أو بالنسبة للبلدان المُستقبِلة لهم في فرنسا على وجه الخصوص، وفي أوروبّا بشكل عام.

التحوّلات الحتميّة

يتساءل المؤلّف: هل ستظلّ أوروبّا على ما هي عليه، بعد التطوّرات الديموغرافية المهمّة التي طرأت عليها في العقود الأخيرة، بسبب الهجرات الأجنبية الواسعة التي عرفتها والتي جلبت معها الإسلام؟ هذه القارّة العجوز المتعبة والآيلة نحو الانحدار والمتخبّطة في العديد من الإشكاليات، هل ستخضع للتحوّلات الحتمية التي تنتظرها؟ يقدّم الكاتب تحليلا دقيقا لهذه الإشكاليات، ممّا يفضي إلى تشخيص معاناة وتخوّفات وتوجّسات الأوروبيين في فرنسا بوجه خاص، حيث لم يتّسم النقاش فيها قطّ بالصّراحة والنزاهة والشفافية والموضوعية والجرأة، حول هذا الموضوع بل كان نقاشاً كاريكاتورياً عقيماً. وكأنّه «حرب خنادق «ما بين مؤيّد ومعارض، أو مرحّب ورافض للهجرة، حيث لا يمكن التوصّل إلى أيّ حلول ناجعة ومناسبة لها، وسرعان ما تتبخّر الآمال في تحقيق وفاق أو اتفاق بشأنها بين الطرفين. تقوم هذه المواجهة بين فئتين اثنتين، الفئة المؤيّدة للانفتاح والاندماج والمشاركة، ومراعاة مبادئ التسامح والتعايش، وهي تتألف عادة من صفوة السياسيين والمثقفين. أمّا الفئة الأخرى فإنّها تميل إلى الانغلاق والانكماش حول نفسها، وهي ذات أيديولوجيات متطرّفة غارقة في التعصّب الأعمى والشوفينية، في عصرٍ أمست فيه أوروبا تتشدّق كلّ يوم بمبادئ احترام حقوق الإنسان، وصون كرامته. ظلّ الأوروبيون سنوات طويلة يغضّون الطرف عمّا تعرفه بلدانهم من تحوّلات عميقة في مختلف الميادين، في الثقافة والاقتصاد والسياسة والفنون واللغة، وطرائق العيش، من طبخ ومأكل وملبس ومعاملات، وفي الحياة بشكل عام، وفجأة طفقوا يشعرون بأنهم أصبحوا يتقبّلونها ويهضمونها ويتعايشون معها بعفوية وطواعية.

الهِجْرات الإسلامية معايشات أم مناوشات

يرى كالدويل: «أنّ الجانب الأكثر أهميّة وجديّة في هذا النقاش قد تمّ تجاهله، وهو الجانب المتعلق بالآثار الاجتماعية والرّوحية والسياسية، وهي جوانب ذات أهمية قصوى باقية ومستمرّة، في حين تظل آثارها المادية أو الاقتصادية مرحلية عابرة». ولا يتورّع المؤلف من جهة أخرى عن الإشادة بالجوانب الإيجابية البنّاءة والمفيدة لهذه الهجرة، ولهذا الدّين الجديد (الإسلام) الذي حمله هؤلاء المهاجرون معهم إلى هذه الدّيار. كما أنّه يتساءل عن اللّوم والعتاب اللذين يوجّهان لبعض الجماعات الإسلامية التي لا تعبّر عن تضامنها وتعاطفها صراحة مع بعض المواقف في البلدان التي استقرّت فيها. ويتساءل لماذا لم يوجّه العتاب للمسلمين البريطانيين لعدم تضامنهم بشكل علني وأمام الملأ مع المواطنين الإنكليز غداة الهجمات التي عرفتها لندن عام 2005؟ ولماذا لم يطل هذا العتاب المواطنين الأمريكيين البيض، عندما قام أحدهم وهو تيموتي ماكبيغ بهجوم إرهابي في أوكلاهما سيتي؟ كما لم يترّدد الهولنديون من جهتهم من توجيه اللّوم وكيل التهم بشكل عشوائي للمواطنين المغاربة المنحدرين من أصول ريفية، في ما يتعلّق بالأحداث التي عرفتها هولندا في العقود المنصرمة، من دون تحرّ أو تمحيص.
ويتحدّث الكتاب عن المواجهات التي عرفتها بعض المدن والأحياء والمناطق في هذه البلدان جميعها، التى شملت حتى ميدان كرة القدم، ففي هولندا عندما كانت تنظم مباريات إقصائيات كأس العالم 2006 قام أحد المهاجرين بالتهجّم على أحد الندلاء في أحد المقاهي، لأنه عمد إلى تحويل القناة التلفزيونية على مباراة هولندا- تشيكوسلوفاكيا بدلاً من القناة التي كانت تبثّ مبارة المغرب- تونس. إنّ كالدويل يذكّرنا بما كان يقوله صامويل هنتينغتون، عندما تنبّأ بما كان يطلق عليه «تصادم أو صراع الحضارات»، كما يذكّرنا أنّ رايمون آرون كان قد عبّرعن القلق نفسه الذي كان ينتابه حيال الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن العولمة.
تشير ميشيل تريبالات في تقديمها لهذا الكتاب: «لقد خامرني الشكّ في البداية في أن تقدم أيّ من دور النشر الفرنسية على نشر هذا الكتاب، إلاّ أن الرّياح جاءت في ما بعد بما تشتهيه السفن، وتمّ تحقيق هذه الأمنية». وتضيف: «أنه يتحتّم على الفرنسيين بشكل خاص، وعلى الأوروبيين على العموم قراءة هذا الكتاب، لأنّ موضوعه الأساسي يتعلّق بهم، إذ لم يجرؤ أحد على تناول هذا الموضوع بالشكل الذي عالجه به كالدويل العارف بالشؤون الأوروبية، والمتتبّع لمختلف التطوّرات التي شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية». وتؤكّد تريبالت أنّ نظرة المؤلف تتّسم بالجديّة والدقّة، كما أنها لا تخلو في بعض الأحيان من السخرية المرّة، لقد أمكنه غور هذا الأمر، ورؤيته بنظرة عميقة تفوق الخطب الغامضة، والتحاليل السطحية والمبهمة للسياسيين الفرنسيين، التي تحول دون معالجة هذا الموضوع بفكر نزيه ومحايد. وتقول تريبالات: «إنّه حان الوقت الذي نراهن فيه على التحوّل الذي أصبح يعرفه الإسلام في بلادنا، لدرجة أنه صرنا نقول»الإسلام الفرنسي»، و»الاسلام الألماني» إلخ، في الوقت الذي نشيد فيه بالتعدّدية الثقافية والتنوّع والمعايشة، فالاسلام يجعل الهويّات المسلمة المختلفة تذوب وتنصهر في المجتمعات الأوروبية، من دون أن تفقد أصولها، ويفصح كالدويل من جهته عن التناقضات التي يغوص فيها الأوروبيون بخصوص المواضيع التي لها صلة بالهجرة على العموم، والإسلام على وجه الخصوص، إنّه يقول: «إنّ الأوروبيين يعتقدون خطأ أنّ المهاجرين يأتون ليضطلعوا ببعض الأعمال التي يأنفون هم من القيام بها، والواقع أنّ هذا الادّعاء اختفى تماماً بعد اندماج وانصهار المهاجرين في بوتقة المجتمعات الجديدة، وبعد أن تحسّنت أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية والدراسية، حيث أصبح بعضهم يتسنّم أعلى المراكز في المجتمع، بل وفي الدولة كذلك».

الهجرة ونيكولا ساركوزي

قبل الإنتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2007 كان المرشّح المحافظ لها نيكولا ساركوزي قد عبّرعن تخوّفاته من الآثار الوخيمة ـ حسب تعبيره ـ التي قد تجلبها الهجرة للفرنسيين منذ أحداث خريف 2005 حيث أشار إلى أنّ الهجرة مستمرّة وفرنسا لم تعد في حاجة إلى هؤلاء العمّال الذين لهم قدرة وقوّة العمل لمدّة عشر ساعات متواصلة في اليوم الواحد، بل أنّ فرنسا اليوم في حاجة إلى مهاجرين أكفاء ينبغي أن يخضعوا لعملية انتقاء دقيقة.
يشير كالدويل إلى إنّ ساركوزي ـ الذي كان دائما يفتخر بأصوله التي قامت على الهجرة كذلك، فوالده كان قد فرّ من المجرغداة الحرب العالمية الثانية ـ لم يكن معادياً ولا مناوئاً للهجرة، إلاّ انه مال في ما بعد إلى تبنّي ما يطلق عليه بـ«الهجرة المُختارة أو المُنتقاة»، وكان قد صرّح خلال رحلة له إلى مالي عام 2006 بأن فرنسا لا يمكنها أن تكون البلد الأوروبي الوحيد الذي ليس في مقدوره البتّ في إشكالية هؤلاء الذين يتوافدون عليه بدون انقطاع. ونتيجة هذه التصريحات نشر معارضو ساركوزي في ذلك الإبّان أغنية تهكّمية مبطّنة بالسخرية المرّة على الشبكة العنكبوتية، جاءت جواباً مفحماً على خطابه الذي رأوه موغلاً في العنصرية، وتقوم على السّجع المقفّى في اللغة الفرنسية تقول:
أنا اسمي ساركوزي صاحب الهجرة المختارة.. أنا مهاجر مجري أسعى لأتوّج في بلاد الغال. لقد ولّى عهد الزنجي ذي العضلات المفتولة.. والأسنان الناصعة البياض.. وجاء عهد الأسود المُجاز المتّسم بالذكاء. وتختتم الأغنية متسائلة: قل لي يا ساركوزى بالله عليك، لماذا فرّ والدك من المجر..؟
وقد عرف عهد ساركوزي منذ أن كان وزيراً للداخلية غير قليل من المواجهات وأحداث الشغب، من طرف المهاجرين على اختلافهم في العديد من الأحياء المهمّشة والأرباض المتاخمة للمدن الفرنسية الكبرى، إلا أنّه أصبح في ما بعد من أوّل المدافعين عن التنوّع والتعدّدية الثقافية، حيث عيّن أكثر من غيره من الرؤساء الفرنسيين السابقين، مهاجرين عربا وأمازيغ في مناصب رفيعة في حكومته مثل رشيدة داتي وزيرة للعدل، وفضيلة عمارة كاتبة الدولة مكلّفة بسياسة المدن وآخرين.

حقائق الإسلام

وخصّص الكتاب باباً للحديث عن الإسلام، وجهل بعض الأوروبيّين به، مستشهداً ببعض المفكّرين والفلاسفة الغربييّن الذين يكنّون احتراماً وتقديراً بالغين للإسلام مثل غوته وكارليل اللذين كانا من المعجبين بالحضارة الاسلامية. ويشير إلى أنّ الإسلام قد شكّل باستمرار بالنسبة للمسلمين هويّة قويّة، واستشهد بالمستشرق الفرنسي إرنست رينان (على الرّغم من هفواته وزلاّته في مواطن أخرى في معرض أحكامه على الإسلام والمسلمين) حيث يقول: «يتميّز الإيمان عند المسلمين بقوّة خارقة تتلاشى معها جميع الجنسيات، إذ يكفى أن يكون المرء مسلماً ليتساوى مع مختلف الأعراق والأجناس على اختلافها وتباينها، كلّها تذوب وتنصهر في بوتقة واحدة تمّحي معها الجنسيات، ويصبحون برمّتهم ذوي هويّة واحدة ، ويغدو الإسلام هو موطنهم، ومصدر قوّة وأخوّة بالنسبة لهم، وأكثر من ذلك هم يشكّلون بواسطته هويّة واحدة متماسكة». ويؤكّد مالكوم اكس، الملقّب بضمير الأمريكيين السّود، الذي عومل خلال رحلته إلى الحجّاز عام1964 بلطف وحفاوة بالغين، أنّه على أمريكا أن تعرف جيّداً أنّ الإسلام هو الدّين الوحيد الذي يخلو من التعصّب العرقي. كما أنه لا يعترف بالفوارق، و»لو آمن الأمريكان بوحدانية الله، فإنّهم في هذه الحالة سوف يؤمنون كذلك بوحدانية الإنسان».
ويقول المؤلف: «إنّ مصلحة الوثائق الألمانية تقدّر أنّ الألمان يعتنقون الاسلام بمعدّل 4000 ألماني في السنة، كما يوجد في إيطاليا وحدها ما ينيف على 50000 إيطالي اعتنقوا الإسلام منهم دبلوماسيان اثنان، وهما سفير إيطاليا السابق في الأمم المتحدة ماريو سيولوخا، وسفير إيطاليا السابق في المملكة العربية السعودية توركواتو كارديللي فضلاً عن شخصيات أخرى من مختلف الجنسيات. (ولقد طرأت تغييرات تصاعدية على هذه الإحصاءات التي كان قد أوردها كالدويل في كتابه) .
ويرى كالدويل أنّ على الأوروبيّين الاعتراف بفضل الإسلام عليهم، وأنّ التحدّي الذي واجه به الإسلام الغرب أفضى في آخر المطاف إلى تقوية هذا الأخير وتكتّله. ويستشهد ببسّام الطيبي الذي كان يقول: بدون تحدّي الإسلام فإنّ غرب شارلمان ما كان له وجود قطّ. وتعرّض الكتاب إلى التأثير الذي أحدثه الإسلام في العصور الوسطى في مختلف مناحى الحياة. والدور الكبير الذي لعبه في نقل وشرح والتعليق على الفلسفة الإغريقية، فلولا هذه النهضة الحضارية والعلمية لكان الغرب لمّا يزل يغطّ في دياجي الظلام، وقد جعل الإسلام دمه يسري بقوّة ويمتزج بدم الغربيّين على امتداد الثمانية قرون للوجود الإسلامي في الأندلس.
الهجوم على أبراج نيويورك 2001 كان له حضور واسع في هذا الكتاب، فضلاً عن إشكالية الحجاب والخِمار وغطاء رأس المرأة والزّواج والعذرية وتعدّد الزيجات، وقضيّة المنتوجات الحلال، وأزمة الكاريكاتورات الدنماركية وما نتج عنها من أزمات ومقاطعات اقتصادية في العالم الاسلامي قاطبة.

ديانة وثقافة جديدتان

ويشير كالدويل إلى أنه إذا كانت معضلة أمريكا في تاريخها هي تحرير السّود، ومشكلتها الرئيسية اليوم هي مكافحة الإرهاب، فإنّ مشكلة أوروبّا حضارية من الطراز الأوّل، تتمثّل في الاقتناع العميق بأنّ المسألة لا صلة لها بلون الجلد، بــــل لأنّ أوروبّا أضحت اليوم تسير نحو منحدر سحيق بسبب الانخفــاض السكّاني الذي أصبحت تعرفه مؤخّراً. بمعنى آخر أنّها غدت تتّجه نحو شيخوخة وَهِنَة مقابل الموجات المتصاعدة والمتزايدة للهجرة، التي ما فتئت تعرفها ربوعها بدون انقطاع وانتشار ديانة وثقافة جديدتين فيها بسرعة مذهلة.
ويرى المؤلف أنّ الجماعات الأكثر قوّة والأكبر تأثيراً في القارة العجوز اليوم لم تعد جماعات أوروبية، بل إنها إسلامية، على الرّغم من الإجراءات التي تمّ اتّخاذها في هذا المضمار، من فرض صعوبات متشدّدة على الهجرة، وتعقيد القوانين المتعلّقة بشأنها، أو عقد اتفاقيات مع البلدان المتاخمة لأوروبّا لمكافحة الهجرة السرية، مع ذلك فإنّ المشكل ما زال قائماً بحدّة في مختلف البلدان الأوروبية. ويخلص المؤلف إلى القول: «من المنتظر أن يطرأ على أوروبّا تحوّلٌ كبير في مختلف مناحي الحياة، نظراً لتزايد وتكاثر عدد المسلمين فيها، ولا يمكن لأحدٍ أنّ ينكر بأنّ الاسلام يوجد في موقع قوّة في أوروبا اليوم، خاصّة في ما يتعلّق بالنموّ الديموغرافي الهائل الذي يشهده». وعلى الرّغم من الجهد المضنى الذي بذله المؤلف في كتابه، إلّا انّه مع ذلك لا يخلو من بعض الهفوات والزلاّت والترّهات خاصّة عند معالجته لموضوع الإسلام وجوهره وشرائعه.

محمّد محمّد خطّابي
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..