مقالات وآراء

يوم الرحمتات

د. محمد عبد الله الحسين

 

دعوني أستعيد ذكرى قصيدة أثيرة لدي منذ سنوات شبابي المبكر .. وهي قصيدة للشاعر ‏بدر شاكر السياب بعنوان “الباب ما قرعته غير الريح” . يخاطب السياب في هذه ‏القصيدة طيف أمه المتوفاة، بعد أن سمع قرع الريح على الباب ويتخيّل أن أمه هي ‏من تقرع الباب .. حيث يقول في إحدى أبياتها :‏

الباب ما قرعته غير الريح

آه لعل روحا في الرياح هامت ‏

تمر على المرافئ أو محطات القطار

لتُسائِل الغرباء عنيّ….‏

عن غريب أمس راح

يمشي على قدمين وهو اليوم يزحف في انكسار

هي روح أمي هزها الحب العميق ..‏

منذ سنوات مبكرة كنت أعيش حجم الإحساس الذي تحمله هذه القصيدة، وأنا أعايش ‏مرة فمرة إحساس الحزن والفقد وذكرى الأعزاء الذين يرحلون، والذين لن نلتقي بهم ‏أبداً في هذه الفانية مرة أخرى.‏

يوم الجمعة الأخيرة من رمضان (الجمعة اليتيمة) هو بمثابة قرع الريح لذاكرتنا الحية ‏بِصور أحبائنا الراحلين، الغائبين جسدا لكنهم حاضرون بيننا ومعنا حضورا طاغيا ‏وباذخا في كل لمحة ونفَس. ‏

ذهبت في يوم الجمعة اليتيمة من هذا العام على غير العادة مبكرا إلى السوق. هالني ‏عندما وصلت السوق الزحام وكثرة المتسوقين في هذه الساعة المبكرة. تساءلت لمدة ‏دقائق من أين أبدأ. أخيرا قررت أن أعرج ابتداء على محلات الجزارة، لاختار لحما ‏جيدا يليق بهذه المناسبة. وقفت مترددا أمام أحد المحلات. كان صاحب المحل ينظر ‏إلى متفحصا ملامحي وهو يدعوني بابتسامة ساحرة هزمت خجلي المتردد … هؤلاء ‏الباعة لهم نظرة ثاقبة في الزبائن المحتملين حيث ينتقون بخبرة وفراسة ٍ سيكولوجية ‏زبائنهم من بين العشرات من مرتادي السوق خاصة المترددين مثلي. فهم يتلقفونهم ‏بأعين نسر ماكر قبل أن يفوقوا من ترددهم. تفحصت مجموعات اللحم المعروض ‏مستنداً على خبرتي المزعومة. وهي خبرة رغم اعتزازي بها أفشل أن أنال بها ‏الاعتراف من (أم العيال)، وهذا موضوع آخر سنناقشه فيما بعد. المهم دخلت المحل ‏وبدأت في تفحص اللحم، واخترت حسب سمعت وقرأت، الأجزاء الأمامية -الكتف ‏‏(يقولون إن أجود لحوم الضأن هي في الأجزاء الأمامية وتقل الجودة كلما ذهبت ‏للخلف. عكس البقر فأجوده في الأطراف الخلفية .. لذلك يتلذذ الناس بتذوق العِكَوْ( ذنب ‏البقر). ابتسم الجزار شبه ابتسامة لسبب لم أدري كنهه عند اختياري للحكم .. ثم بدأ ‏في توضيب اللحم وفق توجيهاتي(التي قد يرها هو لا داعي لها) .. أكمل صاحب المحل ‏التوضيب ووضع اللحم داخل الكيس. خرجت من المحل وأنا أحمد الله على ‏الانتصار (وما أندر انتصاراتنا الحقيقية) الذي تكلل بإنجاز أهم مرحلة. خاصة ان ‏اختياري تم وفق معلومات قديمة قالها يوما بشكل عابر بروفسير بيومي رحمه الله : ‏الخواجات لا يختارون إلا اللحم ذي اللون اللؤلؤي .. وهكذا حُقَّ لي أن أشعر بالرضا ‏التام وأنا أحمل اختياري، لحما تم اختياره وفق المواصفات العالمية، موشَّى بلون ‏لؤلؤي غير مزيف. أخيرا خرجت من محلات الجزارة يسوقني زهو كاذب، فحواه ‏أن شراء اللحم هو الإنجاز الأعظم في هذه الغزوة المبكرة، وأن شراء باقي الأشياء ‏هو مجرد (قزقزة) وشوية تشطيبات ليس إلا .. شفتوا كيف؟.‏

لما عرجت على محلات التشاشة (لا أدري السر في التسمية- لكن خليها لمرة تانية) ‏أدركت فعلا أن السوق لا يفهمه إلا من عمِل فيه. المهم حاولت أن أخرج من محلات ‏بأسرع ما يمكن (فأنا لا أطيق أي نوع من أنواع الحصار حتى ولو كان لصالحي). ‏كان علي هنا شراء المجموعة السحرية من البهارات التي يتوقف عليها طعم ونكهة ‏ومذاق المرقة المبتغاة، وهي الكوكبة المتميزة التي لا يطيب طعم المرق والطعام ‏عموما بدونهم. لذلك بدأت الشراء مباشرة دون تمييز أو تردد : الفلفل، جوزة الطيب، ‏الهيل وأخواتهم من التوم والقرنفل والشمار والكسبرة –نسيت حاجة؟ أخشى أن أنسى ‏فيجعلوني أرجع على وجه السرعة. خرجت من منطقة التشاشة وأنا أحمل البهارت ‏العزيزة وبعضا من الرشح واحمرار العيون، واحتقان الجيوب الأنفية أما الجيوب ‏الأخرى فلا عزاء لها. ‏

الآن أنا على أعتاب الدخول إلى، منطقة العمليات الحقيقية، حيث زحام الحج ورمي ‏الجمرات، وضيق الممرات … منطقة سوق الخضار هذه هي المنطقة الأشد إزعاجا. ‏وهي منطقة تحتاج إلى تدريب من نوع خاص، وإلى إحساس جامد، يجب أن تكون ‏فيه باردا كالثلج. أما إن كنت حساسا فسوف تفقد صبرك ويفشل إحساسك المتوَهَّم ‏بأنك شخص راقي يتهادى في هذه المنطقة في زهوٍ وخيلاء. يسقط كذل ذلك عندما ‏تخرق أذنيك نداءات الباعة المزعجة ورشقات أصواتهم وهم ينادون عليّ في إلحاح ‏وقح لكي أشتري منهم ، خاصة من الباعة الذين يفترشون الأرض. ‏

تذكرت وأنا أعيش هذا الضجيج بأنه يجب على أن أحاول أركز شوية حتى لا أنسى ‏شيئا، فجميع الطلبات من هذه المنطقة مهمة وكل واحدة أهم من الأخرى ، فيجب ألا ‏أنسى أي واحد منها فيقولون لكل منها أهميته في الطبخة (بالرغم من أنها قد تكون ‏مجرد كومبارس، غير أساسي، يلا .. وأنا حأفهم أكتر من الحكومة؟.‏

في مثل هذا اليوم كان شراء لوازم السلطة لوحدها يحتاج إلى صبر مثل صبر أيوب و ‏إلى حنكة وخبرة في الشراء وإلا … المهم بعد دقائق عديدة صُلتُ فيها يمنة ويسرى ‏ومع جولات من الجدل والمفاصلات خرجت منتصرا وأنا أحمد الله .. شعرت ‏بالارتياح وأنا أراجع الأكياس لأتأكد من شراء جميع الطلبات: الطماطم، البصل ‏الأخضر، الجرجير، والشطة الخضراء والليمون والبصل الأبيض والباذنجان والفلفل ‏الأخضر.‏

أخيرا عدت إلى البيت وانا في منتهى الفرح، ويسوقني إحساس خادع بالإنجاز، رغم ‏التعب. ‏

عند بداية العصر كانت أنحاء البيت تعبِق برائحة البهريز المميزة المعبأة برائحة التوم ‏والبهارات التي أرهقتني.، ونكهة اللحم اللؤلؤي، معلنة عن قرب النضج المنتظر. ‏

‏ قبل ساعة من موعد الإفطار كانت حوالي سبعة صحون كبيرة وواسعة (حسب ‏التقليد المتوارث) مرصوصة وممتلئة ومعبأة بحُب، في انتظار التوزيع. وما كنتم ‏هناك لترون وأنا أنظر في بهجة وإحساس بالرضا التام منظر الأرز وهو يكلل هامة ‏الصحون، تعلوه في جرأة قطع اللحم المحمر وهو يحيط بالمنطقة الاستراتيجية في ‏الوسط وفي الأطراف، رغم مزاحمة وعناد سلطة الأسود التي كانت تقف شامخة في ‏المنتصف مثل جبل البركل. ولا نامت أعين الجبناء … ‏

عندما حان موعد الإفطار، كانت الصحون قد تم توزيعها، وبدأ الاسترخاء ما بعد ‏الإفطار يدب في الأجسام، كنا على يقين من أن أحبابنا الراحلين كانوا حاضرين معنا، ‏شهودا عدولا عند تناول أول بلحة وأول جرعة ماء، وعند أول دعوة. الحمد الله فقد ‏ابتلت العروق وثبت الأجر وصعدت الدعوات إلى السماء.‏

 

mohabd505@gmail‎

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..