سوسيولوجيا الانتفاضة السودانية.. في ضوء السلوك السياسي الفوضوي

م/ معاوية عبد الماجد
النخبة السياسية المتحكمة في مفاصل الدولة و فضاءات الشأن العام منذ ربع قرن من الزمان و يزيد لم تقدم أي رؤية جيوسياسية (Geopolitics ) لشكل الدولة و مؤسساتها، لدولة تمتلك الأرض ومميزاتها، موقعا و ثروات كالسودان ، و هو فعل سالب متجزر في الفكر التنظيمي الاحادي الرافض للآخر و المنكفيء علي ذاته النرجسية (Narcissistic) بصورة شائهة، منذ الاستيلاء الأسود علي السلطة في يونيو 1989 من الحكومة الشرعية وقتها و الانقاذ في حالة تخبط و تبعثر و تلويح مترنح بشعارات كذوب لا تساوي الحبر الذي كتبت به و لا تصدقها حتي الحناجر التي تصدح بها،انما كانت أدوات لتغييب الوعي الجماهيري عن محيطه وعن أفعالهم القبيحة في مؤامرة التمكين (Empowerment) لسرقة موارد البلد ومكتسباته.
معايير الفكر الاستراتيجي لهذه النخبة و ان وجدت كلها مصوبة نحو المنهج التمكيني و دلالاته التنظيمية و السياسية بعيدا عن الاستفادة من هذا العلم و ربطه بدلالات أوسع ليشمل الأسباب المنتجة لعلاقة السلطة السياسية بالحيز الجغرافي علي المدي المحلي و العالمي، و هو فكر و علم كان يمكن صياغته وفق رؤية وطنية حادبة علي مصلحة البلد و تطورها.
التقدم المرتهن الي السلوك السياسي الفوضوي لا يسمي تطورا و لا ينتج أدوات للاصلاح والبناء، والفوضي السياسية الراسخة في نهج ثورة الانقاذ منذ مجيئها مردها الي الافتقار في عدم وجود ذات فاعلة متخصصة صاحبة قرار مؤسسي، لانه لا توجد مؤسسية منهجية تقود الدولة سياسيا نحو الوفاق و التراضي و البناء المتطور والمواكب للعالم، وحتي أصحاب التخصص لا يستطيعون التأثير الايجابي في ظل وجود تناص (Intertextuality) فكري بين المؤسسة الدينية التنظيمة و المؤسسة العسكرية المؤدلجة دينيا، يهدف الي خدمة المصلحة العليا للتنظيم العالمي الاخواني، فتظل عقبة كؤود أمام اسهاماتهم المتخصصة الفاعلة، لذلك نجد غالب الذين جييء بهم لتولي الحقائب السياسية لا علاقة لهم بالشأن السياسي و لا الفكر السياسي مجرد شخوص لتكملة اللوحة أمام الرأي الآخر، وهم في قرار أنفسهم يعرفون ذلك لكنها الانتهازية و التسلق البغيض و الظهور الشائه للدولة.
الكاتب الهولندي بيتر أولستون (Peter Olston) له كتاب موسوم بـ: (الشرف في الفلسفة السياسية والأخلاقية)، أكد فيه أن “الشرف له مظهر داخلي، أي نوع من الرغبة ليكون المرء فرداً فاضلاً وشريفاً بذاته، وعدم التقدير الكافي للقيمة الأخلاقية للمظهر الخارجي للشرف، أي الرغبة بالقيام بما هو صحيح في عيون الآخرين لأجل أن يُرى الفرد ويُقيَّم من جانب الآخرين كفرد فاضل وشريف”.
بعد ظهور مصطلح (الكعكة) في لغة السياسة، تداعي (الشرف) و صار ذلك المصطلح ذو المعني الشائن و المخل بالشرف مدخلا للفساد للوصول إلى مواقع اتخاذ القرار، لا لرفع مستوى الأداء وتحقيق التقدم، وإنما للحصول على نصيب من الكعكة، والحالة السودانية السياسية الراهنة أشبه بذلك في كل تفاصيلها،الأمر الذي خلق بما يعرف بالفوضي السياسية في سلوك الذين ينتمون اليها ولا علاقة لهم بها،فظهر الفساد الهيكلي الذي كان نتاج لتطبيع اجتماعي سلطوي عندما ذهبت السلطة بنفسها عن الحق.
في ضوء هذه المعطيات السالبة الحاضرة بقوة في المشهد السياسي السوداني و السلوك الفوضوي لنخبة تدعي بأنها متمكنة في الشأن السياسي و هي أبعد من ذلك و عبارة عن مجتمع فوضوي (Anarchist Community) و سبب رئيس في الخراب السياسي البشع الذي تجاوز كل احتمال، واداة عاجزة عن الارتقاء بإنسانية الإنسان السوداني، و قصورا عن السّمو بذاته ليظل الوطن بانسانه حبيس أزماته و معضلاته وأفكاره وأسئلته الكبرى، وبعيدا عن الأيديولوجيا التي تولد المشكلات الاجتماعية و تغوص في تفاصيل المكونات الاثنية التي تشكل القطر بشكله الجغرافي المعروف والمحدد بثقافاته المتنوعة و المتداخلة، و في ظل هذه القسوة و الوحشية و الانتهازية و تحويل الانسان الي رقم مفرغ من الأمل و المشاعر و الذاتية و التفكير الايجابي و التبعية السالبة لكيان اتسم سياسيا بالفوضي و السادية الممنهجة في العمل العام.
برز الحراك الشبابي الثوري مؤخرا كقوة مستنيرة رافضة للجمود المستشري في كافة مناحي الحياة و المعيق لكل تفاصيل التطور، و الفراغ الفكري و السياسي القبيح و التقوقع في نهج تنظيم أضر بالبلد و أوردها موارد التخلف و الضياع أمام عالم متسارع في النمو والتطور،في هذا الخراب الموصول بسياسات خاطئة، الشباب وحده القادر علي خلق عالم جديد للسودان من موارده وامكانياته الوفيرة.
المجتمع في حالة تطور مستمر و حاجاته متغيرة بتغير الحوجة الي التكامل باستشراف المستقبل وامتلاك الأدوات الموصلة الي ذلك وهذا لا يتأتي في ظل حكومة ونظام و أفراد يسيطرون علي الأمر و أفقهم السياسي مشوه تماما و فكرهم لا يتجاوز محيطهم المشبع بالشهوة المحاطة بالملذات الآنية و التغيب المفتعل بالجلسات المخباة تحت جنح الليل، و موارد البلد و مكتسباته اصبحت ثروات خاصة و حياة باذخة لهم، في هذا الفراغ القبيح حيث لا فكر بمعناه التفاعلي الفاعل، و لا أسماء، و لا أحلام، و لا ذاتيه، أتت اللحظة الفارقة كفلسفة انعتاق تحلم بتجربة طوبائيّة (Utopianism) تريدها واقعا في الحكم يحمل تطلعاتها ويطبق أفكارها البناءة لصياغة وطن متطور يسع الجميع بمختلف توجهاتهم الفكرية و الثقافية، فكانت الانتفاضة مدخلا للخلاص و استشراف المستقبل.
السوسيولوچيا (sociology) في الحالة السودانية العصية اشبة ببحث فلسفي أرسطي معقد متداخل أمام شكل العلاقة المتباينة و الشائكة بين المجتمع و القوانين التي تحكم علاقاته و تطوره، البون شاسع بين عقلية الشباب وتطلعاته و بين نظام رؤيته سالبة ومتقوقعة بين التاريخ و تطوير ذاته المتخلفة بأدوات تغير أكثر تخلفا، لذلك من الصعب جدا الالتقاء المتراضي في الأفكار و التطلعات و شكل بناء الدولة.
السوشيال ميديا (Social Media) او مواقع التواصل الاجتماعى عالم منفتح بالدهشة علي كل المجتمعات و جعل من العالم قرية صغيرة ، يسهل فيها التواصل و المعرفة بين الشعوب و القبائل و تبادل الخبرات و كيفة التطور و الارتقاء بانسانية الانسان،في هذا العالم المنفتح بالمعرفة يبتلي مجتمعنا بقيادات أدواتها للبقاء الكذب الصراح، و من ارتدى عباءة الكذب سيكشف أمره ويصبح ممقوتا وينبذه المجتمع بشتي الطرق لانه لا يملك رؤية ولا مستقبل و بعيد كل البعد عن العالم الواقعي،وهذا الواقع المتخلف المرير من الاسباب التي ادت الي اندلاع الانتفاضة و المطالبة بذهاب بنظام علاقته بالشباب سالبة في كل المناحي و ليس لديه ما يقدمه لبناء الدولة وانسانها، لقد تجاوزه الزمن بكل تقنياته و اصبح تاريخ غير مشرف و وصمة عار في جبين الانسانية الناصع.
طرح الانتفاضة لأسئلة فلسفية عميقة عن معاني الوطن والانتماء والهوية, وتعبيرها برمزية صارخة عن المعاناة بهتافية داوية (تسقط بس) كدلالة لخلاص الوطن وفتح آفاق لبناءه وتطوره بايد شبابه الخلص المستنير الذي لديه الكثير من الأدوات المكتملة التي سوف تعينه علي بناء وطنه بعيدا عن الأجندة الخفية التي تخدم مجموعات بعينها.
و نردد مع الراحل العملاق حميد ..
ايوة معاك في انك تغضب
ايوة معاك في انك تشجب
لكن لمن تغضب
لازم تعرف
انو تفرق بين محتال
هو النهبك وسلبك
وهو القهرك وضربك
وبين الوطن الضاع بي سببك
وما تستغرب!!!!
ايوة الوطن الضاع بي سببك
عارف كيف ضيعتو بسببك؟؟؟
انك ساكت وعارف وشايف….!!!
عسكر طالع ليك في رأسك
ماسك ليك في يدو حديدة
قسم بلدك زي ماداير
وطلع ليها خريطة جديدة
في القريب العاجل سوف يعود السودان بشبابه خريطة مكتملة بالخير لأهله، و شامخا و متطورا بين الأمم.
المعرفة التي اكتسبها المجتمع السوداني طورت كثيرا من رؤيته للاشياء وكشفت له الغطاء عن الأكذوبة الكبيرة التي تسمي بثورة الانقاذ و مشروعها الاسلاموي، و خلقت خطين متوازيين في الافكار بينه و بينها لا يلتقيان، وباختصار نستطيع أن نلخص فكرة الانتفاضة في هتافيتها العميقة في دلالتها (تسقط بس) والتي لا يدركها فهما الا أصحاب الرؤي السياسية القلة الأكثر تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في الطغمة الحاكمة،و يدركها عموم الشعب بأنها النهاية المأمولة بانتصار خيار الحياة لشعب يستحق الحياة.