تتوالى اجتماعات القمة… وتظل الأزمات بلا حل!

محجوب محمد صالح

من المقرر أن تكون قد التأمت بالأمس في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا قمة ثنائية أخرى بين دولتي السودان وجنوب السودان، استمراراً لسياسات عقد هذه الاجتماعات الثنائية المصممة لإطفاء حرائق النزاعات بين البلدين بوساطة خارجية، لكن تلك الاجتماعات ?رغم توترها وتكرارها- لم تحقق حتى الآن الاختراق الحقيقي الذي يضع علاقة الدولتين على الطريق الصحيح، ولا نتوقع أن تكون قمة الأمس أحسن حظاً من سابقاتها ولكنها بسبب الضغوط الإقليمية والدولية ربما نجحت في معالجة الخلاف الحالي، وانتهت إلى إعلان المنطقة منزوعة السلاح وتشكيل إدارة أبيي المؤقتة ومن ثم البدء في تنفيذ باقي الاتفاقات ريثما تظهر خلافات جديدة.

القمة التي نرجوها ?والتي لم تنعقد حتى الآن? هي القمة التي تدرس وتجيز خطة عمل مشتركة لتحقيق (علاقة استراتيجية بين دولتين في وطن واحد) ?وإلى أن يتحقق ذلك ستظل لقاءات القمة الثنائية مجرد تمرين في إطفاء الحرائق الوقتية وتغيب عنها تماما الخطة الاستراتيجية بعيدة المدى? وأملنا في مثل هذه العلاقة الاستراتيجية لن يتحقق إلا إذا كان نظام الحكم في الدولتين ملتزما أساساً بمبدأ العلاقة الاستراتيجية وضرورتها للأمن والاستقرار والنهضة الاقتصادية في البلدين.

إن أياً من الطرفين لا يستطيع أن يقفز فوق التاريخ والجغرافية التي تفرض التعاون المشترك والاعتماد المتبادل والاقتصاد التكاملي، مستنداً إلى إرث تاريخي عاش خلاله الشعبان تحت ظل دولة واحدة ?مهما كانت درجة التوتر التي شابت تلك العلاقة أحيانا ?إذ إن تلك العلاقة أنتجت واقعاً اقتصاديا مشتركاً وواقعاً اجتماعياً مشتركاً ولغة وثقافة مشتركة رغم تنوعها واختلافها? كما أن الجوار الجغرافي خلق علاقات اقتصادية وتجارية وزراعية ورعوية تكاملية وصلت قمتها في مناطق التماس بين الكيانين، وأصبحت للقبائل والمجموعات السكانية في هذه المنطقة الممتدة عبر ألفي كيلومتر ويسكنها ملايين البشر من الدولتين، وحدة تكاملية لا يستطيع أي طرف فيها أن يعيش بمعزل عن الطرف الآخر.

وطبيعي أن يكون لهذه العلاقة خصوصيتها كما يمكن أن تشهد توتراتها التي اعتادت عليها تلك القبائل وخلقت آليات للتعامل معها ورسخت تقاليد ونظما وممارسات لفض النزاعات سلمياً، ظلت ناجحة ومستقرة إلى أن تم (تسييس) هذه المواجهات و(تسليحها) لخدمة أغراض بعيدة كل البعد عن مصلحة تلك القبائل.

وإذا كان التوتر الأكبر هو مطالبة الجنوب بوضع خاص داخل الدولة الواحدة تعترف بتنوعه وخصوصيته، فإن هذه العقدة قد انحلت بانفصال الجنوب وتأسيس دولته الخاصة بطريقة سلمية تفاوضية واعتراف الشمال بالدولة الجديدة كياناً مستقلاً ذا سيادة ?وكان المفترض أن يكون هذا الانفصال قد حل العقدة الرئيسية في العلاقة الثنائية وفتح الباب واسعاً لقيام دولتين في وطن واحد تربطهما علاقة متميزة ويفرض عليهما الواقع علاقة تكاملية سلمية وتعايشاً آمناً ومستقراً وتخطيطاً لتكامل اقتصادي واجتماعي بين كيانين متساويين في الحقوق والواجبات وملتزمين بإحداث نهضة شاملة لمصلحة الشعبين ?وهذا هو أساس (العلاقة الاستراتيجية) التي ندعو لها والتي ينبغي أن تتجه لها الدولتان طواعية، وأن يكون البند الوحيد في أجندة أي قمة شمالية جنوبية? لأن تأسيس تلك العلاقة الاستراتيجية هو الذي يؤدي لمعالجة كل القضايا العالقة? ولكن تحقيق هذا الأمل رهين بقيام نظام حكم يعبر تعبيراً حقيقياً عن الآمال والتطلعات الشعبية ويعكس حقيقة التنوع الخلاق في الشمال والجنوب ويشرك كل إفراد الشعب في صناعة القرار ويلتزم بتحقيق مصالح الكافة لا تطلعات الأقليات المسيطرة على كل مفاصل الوطن? وكما قلت سابقا لن يستقيم الظل والعود الأعوج.

لهذا السبب لم يتحقق أملنا في علاقة استراتيجية حاكمة تعالج في إطارها كل الخلافات الصغيرة التي تنشأ، وإلى أن يتغير هذا الواقع تظل العلاقة بين الدولتين تدور في كنف أزمة المواجهات التي تشتد أحياناً حتى تصل الذروة وتتقاصر أحياناً فتظل كامنة وقابلة للاشتعال في أي لحظة? وسيظل البحث مستمراً عن طرف خارجي يتدخل ليهدئ اللعب كلما اقترب الطرفان من حافة الهاوية? مثل هذا الوضع لا يحل مشكلة ولا يخلق استقراراً وغاية ما يمكن أن يقود له هو وصول إلى (مسكنات) مؤقتة قد تنجح في تفادي اشتعال الحريق ولكنها لن تطفئ لهيب النار تحت ذلك الرماد! وستظل اجتماعات القمة بهذا المعنى مجرد تمارين في العلاقات العامة ومناسبة لترديد شعارات لا مكان لها في أرض الواقع وغاية أملها إحداث تهدئة مؤقتة.

العرب
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..