مقالات ثقافية

هل يوجد طريق ما إلى الوطن؟

عبدالحميد البرنس

استيقظتُ في وقت متأخر نوعاً ما.

كان نور الشمس يلامس بسطتي النافذتين، بالكاد. أماندا ماران بون، لا تزال نائمة. بدا هناك على ملامحها تعبير ميت.

لعلها عادت على مشارف الصباح.

أتذكر طرفا مماً حدث مساء أمس.

وحيداً، بدأتً أرتشف البيرة داخل غرفة المكتب. لم أكن أفكر في أمر محدد. كنت أعيد فقط على نحو عشوائي بمثل تلك اللا مبالاة قراءة بعض الرسائل التي ظلّتً ترد أحياناً إلى بريدي الإلكتروني حتى أشهر خلت من منفيين لا يزالون يكابدون واقعهم غير المواتي في مناف وسيطة. مثل صديقي شكر الأقرع، الذي بدأ يشكو في إحدى تلك الرسائل أن الناس لم تعد تسأل وتتفقده في “هذه القاهرة”، بعد “استقر بهم الحال في دول الغرب المتقدمة”. ما لبث شكر الأقرع أن طلب مني في قعر الرسالة نفسها أن أرسل له مبلغاً آخر كي يعينه على شظف العيش”، لذكرى “الأيام الطيبة، يا صديقي”.

قمتُ في ردي بتحويل الأمر إلى مزحة. كنت وغداً حقيقياً، وأنا أقول له: “لا تحزن يا أقرع. سأسأل عنك وأتفقدك من حين لآخر كما يتفقد الصديق صديقه، دون أن يعني ذلك في كل الأحوال أنني سأبعث لك في أحد الأيام بحزمة أخرى من المال”. تلك كانت الرسالة أو الإيميل الذي سبق آخر دردشة لنا معاً على ماسنجر ياهو: “إنني أغرق تماماً يا صديقي”.

لم تحاول أماندا الالتحاق بوظيفة ما.

وقد بدت متطلبة، في الآونة الأخيرة.

كانتا، أماندا ومليسا، كبرى شقيقاتها، تستعدان بضجة فاتنة للذهاب وحدهما هذه المرة إلى أحد تلك الملاهي الليلية. مليسا، لا تصلح أبداً أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء بيت. تركتْ قبل أسابيع قليلة في معية زوجها أربعة توائم صغار. تفرّغتْ لمغامراتها. لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة. كانت في بيت الزوجية مثل عابر سبيل، ألقى برحله خطفاً بين قوم مجهولين وواصل الرحيل إلى المجهول وحيداً بلا ذكرى، بلا شوق، بلا حتى قلب يهفو لنداء طفل يتلمس طريقه أثناء الليل بحثاً عن أمومة ما غائبة. لعل مليسا في هذا تسلك كما أسلك أنا، أحياناً، مع وجوه ذلك الماضي البعيد.
كان لدي منذ البداية شعور أن طريق أماندا ماران بون لن تفضي في نهاية المطاف إلى أي شيء. أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما، إلى الملهى. كنت مُتعباً. حولتني البيرة في نحو التاسعة إلى خرقة ملقاة على قارعة الطريق. واصلت الشرب بعد ذهابهما هائماً في مداراتِ وعدٍ همست به أماندا في أذني: “وليم، حبيبي، بعد عودتي أريدك أن تأكلني حيّة”!!

رأسي لا تزال مثقلة من أثر البيرة. مرأى أماندا نائمة “الآن” إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيراً لهواجس فقدانها، للشك، لسوء الظنّ. طبعتُ على جبينها قُبلة. سرت صوب الحمام. تعودت مع مرور الوقت ترك باب الحمام مفتوحاً. بدأت أتفهم إلى جانب أماندا أن التوحد بستان ينطوي على الاختلافِ العزلُ بين أنواعه يُميتها. شيء ما جعلني أوصد الباب هذه المرة. كما لو أن روحاً غير مرئية تتربص بي في مكان ما داخل الشقة. أفرغت أمعائي. أنهيت تنظيف أسناني بينما أدندن بموشح أندلسي “أيها الناس فؤادي شَغِف، وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف”. في اللحظة الأخيرة، عدلت عن حلاقة ذقني النابتة. هذا يوم سبت آخر. لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ أماندا. كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصّالة، محكوماً بتلك الرغبة لمدمنٍ في صنع كوب من القهوة. لا شيء يعكِّر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة الرتيب. فجأةً وقعت عيناي على رجل غريب. ذلك عنوان أحد “تلك” الأفلام: “غريب في بيتي”!

أجل، لم أره من قبل. كان ينام على الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحياناً. بنظرة، لا أكثر، أدركت فجيعة ما حدث أثناء نومي. كنت أواجه في تلك الثانية لا مراء تحديات وجودي كرجل لأول مرة. كان رجلاً أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء ما من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. لاحَ داخل ضوء الصباح المتأخر الكثيف واثقاً غير هيّاب بالمرة. الوغد. كان لديه الليلة الماضية وقتاً كافياً لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته بعد. الوغد. فتح إحدى عينيه ببطء. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته الصامتة المتهادية بإيماءة من رأسي. يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل قطُّ الجمع بين النقائض. تركتُه في هدوء يواصل نومه هناك. لكأن شيئاً لم يكن.

في الآونة الأخيرة، بدأتْ أماندا ماران بون تحدثني بمثل ذلك النوع من الحنين عن مغامراتها السابقة تلك كتاجرة مخدرات صغيرة. حتى إنني لا أكتمكم قد أخذتُ أفكر تحت وطأة الديون المتراكمة على كاهلي مع مرور الوقت في حاجة أولئك المنفيين الغرباء في المدينة إلى ما قد سيُذهب الحنين عن صدورهم، تماماً كما لو أنهم لم يغادروا أرض الوطن “الحبيب” لحظة واحدة. بدت لي سوق المخدرات سوقاً رائجة لا مراء، مقارنة بتجارة الصيني. كنت أغرق في بحر تأثيرها ذاك شيئاً من بعد شيء. كانت تراقبني أثناء ذلك عن كثب وحياد تام. لم يكن في عزمها مواصلة الدراسة، أو العمل. كانت فكرة العودة إلى أفخاذ المومسات وعودتي وحيداً مرة أخرى تشلّ إرادتي. لا أدري كيف وصلت عائداً إلى غرفة النوم. بركتُ قبالة وجهها. كانت لا تزال نائمة. تفوح منها رائحة خمر وعفونة جسد غريب. كما لو أنني أراها لأول مرة. هززتها. قالت متشاكية بين يقظة ومنام “وليم، توقف”؟ هززتها بعنف أشد. العاهر أفاقت قليلاً مواصلة الشكوى: “وليم، دعني أنام”؟ هززتها هذه المرة مزلزلاً كيانها كله. أفاقت تماماً. ثمة رعب هائل قد أخذ يطل من داخل عينيها الشاخصتين. سألتها ضاغطاً على حروفي بشدة وألم وحزن لا نهائي: “هل ضاجعتِ ذلك الرجل الذي ينام على الكنبة الآن، يا أماندا”؟

العاهر. دفعمة واحدة، استوت قاعدة على السرير. بدا وجهها خالياً من أثر أي حياة. قالت بينما تتأمّل الأرض تحت قدميها “نعم، ضاجعته، يا وليم”. كل ما فعلته أنا وقلته ساعتها ظلّ يؤكد لي على وجود تلك الحقيقة الوحيدة القابعة في داخلي كمشاعر بطل معتزل: أنني مِتُّ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها الوطن. ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تقلبات الكائن المختلفة على مدارات الحنين، أو الذكريات، وفقدان الهوية. لم تجتاحني ثورة الأعماق، لم تغلي دماء عروقي، لم أطلب ثأراً من غريمي الماثل بين يديَّ، لم أقم بتقديم دم العاهر على مذبح الغيرة، لم ألتهب بقصائد الشرف الرفيع.
وجدتني أقف على رأسه. أتذكر أنه اعتدل من نومه جالساً كما لو أنه كان ينتظرني مغمض العينين. قلت له بصوت ميت:

“اخرج الآن من بيتي”.

الوغد. بدا متردداً وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، أخذ يصلح ما فسد قليلاً من ردائه. توقف داخل الطرقة. لكأنه يهم بوداعها وراء باب غرفة النوم الموارب. “من هنا”، أشرتُ له إلى باب الشقة. وجدتها هناك مرتدية كامل ثيابها تنتظر. لا تزال تحدق إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. هناك، حاولت الحديث عن أشياء يدعونها “الشرف”. لم أفلح. رفعت رأسي بصعوبة شديدة. كما لو أنني أراها للمرة الأولى في حياتي. بكتْ، انتحبتْ، توالت دموعها قطرة فقطرة، حتى خلت أنها أبداً لن تتوقف. كان جسدها الذي أعرفه جيداً ينتفض بشدة. كنت أجلس وراء المكتب الخشبي مواجهاً نافذته الزجاجية العارية من ستارة. كانت قابعة في وجوم تام إلى يسار المكتب. على بعد لمسة مني. مع ذلك، بدت بعيدة، بعيدة مثل كوكب. من أشد حلكة القاع السحيق للضياع، أو العدم، سألتها، قائلا:

“ألستُ جيداً في الفراش، يا أماندا”.

قالت:

“بلى”.

قلت:

“إذن”؟

قالت: “كنت ثملة. حتى بعد أن خرجنا من الملهى. السافل. قام بمصاحبتنا إلى بيت إحدى صديقاتنا لقضاء ما تبقى من السهرة. ظلّ لصيقاً بي في وقاحة. واصلنا هناك الشرب أكثر فأكثر. ما الذي ظلّ يحدث وقتها؟ لا أدري؟ فقط، كان ثمة قوة غامضة أخذت تشدني إليه، لم أستطع فعل شيء ما حيالها، كنت مجردة تماماً عن أي حيلة هناك للتحكم بنفسي. وا أسفاي، يا وليم”. وصمتت. بعينين محترقتين، قلت “تمارسين الخيانة في شقتي وحضوري، يا أماندا”؟ قالت “ليس لدي ما أدافع به عن نفسي الآن، يا وليم. أتمنى فقط لو تنشق الأرض في هذه اللحظة وأغوص داخلها، إلى الأبد. ما حدث حدث. ليس بوسعي تغييره الآن، يا وليم”. قلت: “كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من هنا، يا أماندا”؟

قالت:

“القليل”.

بعد لحظات مشحونة بالصمت المعدني نفسه، واصلتْ أماندا مرافعتها، قائلة “أريدك فقط أن تعلم أنني لم أحبب من قبل رجلاً آخر مثلما أحببتك أنت يا وليم ولا أزال. قد لا تصدقني بعد كل ما حدث أمس. لكنها الحقيقة. ما حدث كان مجرد غباء، لا أدري؟ يا وليم”. من جوف تلك الإطراقة الأسيانة، قالت “سأحضر للملمة أغراضي ريثما تهدأ أنت قليلا، يا وليم”.

في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. “لكأن شيئا زحف داخلي ومات”. ظللت أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. أثناء ذلك، لا أكلم أحداً ولا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني، عندما مكثتُ طويلاً داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة تامّة التعرف على ملامحي المطلة من داخل المرآة، قبل أن أحلق ذقني وأخرج إنساناً آخر مجرداً تماماً من الأحاسيس أو المشاعر. ليس ثمة سطر يذكر من كراهية. لا غلّ هناك. لا حقد يبدو. لا فرح يزين. لا فقرة تطوف من بهجة. لا عنوان حبّ ما لأنثى. كنت مجرد صفحة بيضاء.

كان العصر يقترب من نهايته، عندما أخذ يتناهى بوق من أرض خلاء تقع غرب البناية مباشرة. خيل إليَّ كما لو أنني أسمع صوتها. حين نظرت أستطلع الأمر عبر إحدى نوافذ الصالة رأيتها بالفعل. أشارت لي بمقابلتها في الأسفل على عجل. هناك، تبينت وجود ثلاث فتيات كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. وقالت بغموض إنني لم أستيقظ لحظة أن جاءت هي ليلاً لأخذ ما تبقى من متعلقاتها الشخصية وإنها لم تؤذني لأنها لا تزال مفعمة بالحبّ تجاهي.

كنت أنصت إليها، في شرود.

لم يثرني مرأى السيارة الألمانية الجديدة التي تقودها بقدر ما أثارتني طريقتها العملية تلك في الكلام. لكن صوتها لان فجأة وتكسرت قساوته على ضوء الغروب الذي حلّ وقتها، وهي تقول ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل:

“وليم؟ أهذه هي النهاية، يا حبيبي”؟

أومأت برأسي مؤكداً لها في صمت.

قالت:

“أكل شيء انتهى بيننا حقّا، حبيبي”؟

وقد أشحتُ بوجهي، نحو اللا شيء:

“لم تتركين لي خياراً آخر، يا أماندا”.

قالت:

“يا إلهي!! ما زلت أحبك، يا وليم”!!

قلت:

“مع السلامة، يا أماندا ماران بون”.

تالياً، لم تتوقف أماندا ماران بون عن مهاتفتي لنحو الشهرين. قالت في الأثناء إنها حامل. لكأن الأمر لا يعنيني من قريب، أو بعيد. في تلك الفسحة من الأرض الخلاء، وقفت أرقب العربة تندفع محدثة ذلك الصرير. تابعتها تنحرف صوب شارع سيرجنت القريب. حين اختفت وتوارى هديرها في عمق الهدوء الحزين للغروب، أدركتُ بشيء من الحياد أنه لم يعد لي “بعد اليوم” بقاء “في هذه المدينة”. يغادر المرء وطنه ساعة زمن. قد تكلّفه العودة إليه حياة كاملة. قد لا يعود.

عبدالحميد البرنس
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..