أخبار متنوعة

ماكرون يحاول ترميم ماضي فرنسا الاستعماري في أفريقيا

تعطي تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو تجديد مفهوم التقارب مع بلدان القارة الأفريقية انطباعا عاما حول اتباعه نهجا مختلفا عن أسلافه، في محاولة، يؤكد مراقبون أنها قد لا تنجح في محو الحقبة الاستعمارية من ذاكرة الشعوب الأفريقية والعربية أيضا، وخاصة الجزائر وتونس، والتي لم يفعل كل الرؤساء الذين تقلدوا الحكم في بلاده شيئا يذكر لطي صفحات تلك الحقبة.

باريس- يرى مراقبون في مساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للانفتاح أكثر على أفريقيا عبر مسح فكرة “المارد الذي يتعامل مع الأقزام” مجرد محاولة لتحقيق مكاسب جيوسياسية على حساب قوى استغلت ماضي فرنسا الاستعماري للتغلغل في القارة من بوابات مختلفة. كما أنها قد تشكل دعامة له في السباق الرئاسي المقبل.

ويبدو هذا الميل مفهوما لبعض المراقبين، الذين يرون فيه عدة دوافع مرتبطة بالداخل، بسبب الاحتقان الاجتماعي بشأن قضية العنصرية والهجرة، وأخرى لها علاقة بالحفاظ على النفوذ الخارجي في منطقة لطالما كانت تاريخيا تحت تصرف فرنسا، بعد أن ظهرت قوى أخرى تتبع سياسة ناعمة للبقاء هناك.

ورغم أن ماكرون قدّم بعض التنازلات السياسية لحفظ “ماء الوجه” قبل الانتخابات الرئاسية المزمعة بعد عامين، من قبيل التزامه بالكشف عن أرشيف الأعمال الحربية، التي توصف بـ”المذابح الإجرامية” ضد شعوب الدول، التي استعمرتها بلاده لأكثر من قرن في أفريقيا، إلا أن بعض المتابعين يعتقدون أنها خطوة غير كافية.

قبل عقود عرضت السلطات الفرنسية الرؤوس المقطوعة لعدد من مقاتلي المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي في ساحة أحد الأسواق أولا ثم نقلتها إلى قبو أحد المتاحف الخاصة في العاصمة باريس، ولكنّ ماكرون فاجأ المراقبين في يوليو الماضي حينما قرر إعادة هذه الرؤوس إلى وطنها الأم.

وعندما توقفت طائرة النقل العسكري الجزائرية في أحد المطارات كان قائد الجيش وأحد رجال الدين في انتظار 24 نعشا ملفوفة بالعلم الجزائري تضم رفات المقاتلين الجزائريين العائدة من فرنسا وكان هذا المشهد بالنسبة إلى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون اعترافا فرنسيا بالمذبحة التي وقعت منذ أكثر من 170 عاما.

وفسّر مراقبون نظرة ماكرون لهذه الخطوة على أنها جزء من محاولته تقديم صورة حديثة للدولة الفرنسية، في الوقت الذي تصاعدت فيه حدة الانقسامات العرقية في بلاده على خلفية الاحتجاجات على عنف الشرطة تحت شعار “حياة السود تستحق” الذي انطق من الولايات المتحدة. ولكن أيضا يريد إعطاء مفهوم جديد لدول شمال أفريقيا من خلال التعاطي مع قضية الإسلام والتطرف.

والحقيقة أن الرئيس الفرنسي، الذي يحاول أيضا جعل بلده قوة عظمى في منطقة الشرق الأوسط بتقربه من العراق ودعم لبنان في محنته، يكافح للمحافظة على الدور التاريخي لبلاده في جزء من القارة الأفريقية كان خاضعا لسيطرتها على مدى أكثر من قرن.

ويقول ماكرون إنه يريد إعادة الكثير من الآثار والتحف الأفريقية التي تم نقلها إلى فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية. كما يدعم جهود دول غرب أفريقيا للانفصال عن العملة الموحدة المدعومة من فرنسا، ويتعهد بفتح أرشيف الدولة الفرنسية بشأن المذابح التي ارتكبتها حكومة مدعومة من فرنسا في رواندا.

ومع ذلك، يعتقد المراقبون أن هذا لا يكفي، فقد أصبحت أفريقيا التي تضم أكثر من مليار نسمة وتشهد حركة تمدين متسارعة ونموا اقتصاديا قويا، منطقة جذب للقوى الصاعدة مثل الصين وروسيا ودول الخليج وتركيا.

ويعني هذا أن قادة القارة لم يعودوا مضطرين للاعتماد على فرنسا، في الوقت الذي تتعثر فيه جهود ماكرون لإقامة جسوره الخاصة بسبب التهديدات السياسية التي يواجهها في الداخل من مارين لوبان اليمينية المتطرفة، التي حصلت على المركز الثالث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها ماكرون عام 2017.

ويمكن القول إن التوترات الاجتماعية في المدن الفرنسية، وتراجع النفوذ الفرنسي في الخارج يعود إلى نفس المشكلة، وهي فشل باريس في مواجهة ماضيها الدموي والاستعماري، بحسب إبراهيم سنوسي، أستاذ الفيزياء في جامعة سرجاي بونتواز الفرنسية الذي قاد حملة استمرت 10 سنوات من أجل عودة رفات الثوار الجزائريين من فرنسا إلى بلدهم.

ونقلت وكالة بلومبرغ للأنباء عن سنوسي القول إن الرئيس “ماكرون يقف على الخطوط الأمامية في هذه المعركة ويسعى إلى إحياء دور فرنسا على المسرح العالمي”.

كان الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول قد أسس شبكة علاقات للحفاظ على النفوذ الفرنسي في أفريقيا بعد استقلال أغلب الدول التي كانت تحت احتلال فرنسا منذ أكثر من ستين عاما.

وتقدم فرنسا الدعم العسكري لأنظمة الحكم الصديقة في أفريقيا مقابل الدعم الدبلوماسي والصفقات الكبيرة من هذه الدول للشركات الفرنسية، في حين تغض باريس الطرف عن الانتهاكات المحلية التي تمارسها هذه الأنظمة. وحتى بعد استقلال الدول الأفريقية، تعرض الآلاف من الجزائريين للتسمّم الإشعاعي نتيجة التجارب النووية الفرنسية التي كانت تجري في الجزائر.

وقد اعترف العديد من الرؤساء الفرنسيين السابقين بهذه الممارسات القديمة، لكنّ أيّا منهم لم يتخذ أي خطوة أبعد من ذلك. ولكن ماكرون أول رئيس فرنسي مولود بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية يتحرك بشكل مختلف. فقبل ثلاث سنوات وفي أثناء حملته الانتخابية وصف ممارسات بلاده في الجزائر بأنها “جريمة ضد الإنسانية” وهي كلمات غير مسبوقة من مرشح للرئاسة.

ومن بين كل المستعمرات الفرنسية السابقة، كان رد فعل الجزائر الأقوى، فقد كانت فرنسا تتعامل مع الجزائر باعتبارها جزءا من الدولة الفرنسية، ولم تستقل إلا بعد حرب دامية استمرت سنوات وتركت ندوبا قوية على جسد المجتمع الفرنسي نفسه.

ويبدو هذا الأمر مفهوما، فأحد المسؤولين المقرّبين من الرئيس الفرنسي الشاب قال إن ماكرون يعتقد أن فرنسا ظلت على مدى سنوات تتعامل مع علاقاتها بمستعمراتها السابقة باعتبارها أمرا مفروغا منه، ولكن حكومته بدأت تنتبه إلى ضرورة التحرك للمحافظة على هذه العلاقات.

مطلع الشهر الحالي، ترك مربع الغموض حول هذه القضية الحساسة، فقد قال ماكرون إن بلده يحتاج إلى الوصول إلى فهم جديد لماضيه بحيث يشعر الذين عانى أسلافهم من الاستعمار بأنهم سيحصلون على حقوقهم من الذين استفادت عائلاتهم من معاناة الذين عانوا في الماضي.

وبدا حجم التحدي الذي تواجهه فرنسا مؤلما بالنسبة إلى الرئيس ماكرون أثناء زيارته إلى أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في جيبوتي خلال العام الماضي. فعندما تولى الرئاسة منذ ثلاث سنوات، كانت قطعة الأرض المجاورة للقاعدة الفرنسية في جيبوتي خالية.

ولكن عند زيارته القاعدة في مارس من العام الماضي، كانت الصين قد أقامت قاعدة عسكرية في قطعة الأرض الخالية، بهدف تقزيم الوجود الفرنسي. كما أن الرئيس الجيبوتي إسماعيل جوليه يقيم في قصر بناه الصينيون، ويربط خط سكك حديد بناه الصينيون، جيبوتي بجارتها إثيوبيا.

وهذا ليس كل شيء فتركيا، دخلت القرن الأفريقي وزادت من منسوب الاستفزازات مع فرنسا، ويظهر ذلك في عدة أمثلة حيث يصلي الجيبوتيون في مسجد مقام على الطراز العثماني باعتباره “هدية من تركيا لجيبوتي”.

وفي الوقت الذي كان فيه ماكرون يتحدث أمام مجموعة مختارة في عاصمة جيبوتي، قال أحد مساعدي الرئيس جوليه إن التركيز سيعود إلى الصين بمجرد مغادرة الرئيس الفرنسي للبلاد، لأن الصينيين يأتون بأموال حقيقية.

وما يعطي دولا مثل الصين وتركيا وكذلك روسيا، التي دخلت على الخط، ميزة في دول أفريقيا هو أنها لا تحمل أي تاريخ استعماري سيء كما هو الحال بالنسبة إلى فرنسا والدول الأوروبية الأخرى.

فرنسا

وعندما تفشت جائحة فايروس كورونا المستجد في العالم دعا ماكرون إلى تخفيف أعباء الديون على الدول الفقيرة وبخاصة في أفريقيا وأجرى اتصالات مع نظرائه الأوروبيين لمطالبتهم بموقف موحّد تجاه هذا الملف بحسب مسؤول فرنسي.

ولكن مرة أخرى تصطدم جهود ماكرون بحقائق الوضع الداخلي في فرنسا. وقد أدرك ماكرون حقيقة الثمن الذي سيدفعه لحديثه عن التاريخ، خلال حملته الانتخابية الماضية، حيث أثارت تعليقاته عن استعمار الجزائر انتقادات حادة من جانب مارين لوبان.

وبينما يعتقد جيرالد درامانين، مساعد الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي وحفيد أحد الجزائريين، الذي حارب إلى جانب الجيش الفرنسي في حرب الاستقلال، أن على ماكرون أن يشعر بالعار، قال فرانسوا فيلون مرشح اليمين الفرنسي إن “كراهية تاريخنا” لا يجب أن تصدر عن مرشح للرئاسة.

ومع اقتراب انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة عام 2022 يسعى ماكرون للنأي بنفسه عن تصريحات حملته الانتخابية السابقة، بعد أن اكتشف أن التعامل مع ملف التاريخ الاستعماري لبلاده سيكون باهظ الثمن.

العرب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..