مقالات ثقافية

لواء أركان حرب

عبدالحميد البرنس

كانت تشير إذن إلى حوالي الخامسة مساء.

وكان ديريك مولر لا يزال يجر عبء جثته، حذاء واجهة بنك إسكوتشيا، قادماً من مرآب السيارات، متجهاً صوب مكتب الأمن هذا، حيث ظللت أمارس وظيفتي، من بعد ترقية الحارس ديفيد مور المتوقعة تلك، مراقباً لسير الأحداث، كما لو أنني ملِك الخفاء، لا شيء يقوم به الأغلب، سوى تتبع ما ظلّ يمارسه العالم من نشاط داخل المبنى ومحيطه الخارجي، مستخدماً شاشات المراقبة لهذا الغرض.. تلك النوافذ الإلكترونيّة المعلقة قبالتي على الحائط تمنحني ميزة أن أرصد العالم دون أن يتمكن من رصدي. وهذا عمل ظللت أقوم به لسنوات دونما أي صلاحية هناك تذكر، غير المراقبة ورفع “مثل هذه التقارير”. “لا بدّ أن ديريك مولر هذا قد واجه مجدداً بعض العفاريت في المرآب”. ذلك ما قد خطر لي، بينما أراه وهو يحثّ خطاه الأخيرة تلك باتجاه المكتب. لم أكد أكفّ قبلها مستعيداً من ذاكرتي أحداث تلك المرة، حين قام ديريك المرتاب هذا نفسه بتقديم النصح لي وفق ذلك النحو بعدم السير على جوانب الشوارع ليلاً، زاعماً بجدية أن بعض “أوغاد تلك الأيام الملتبسة”، قد “نشروا سلوكاً سيئاً، يا هاميد. إنني لا أعرف حتى إلى أين سيقودنا مثل هذا السلوك”؟

حين يقدّم لك ديريك مولر هذا نصيحة ما فغالباً ما قد يُثبّت عينيه المتشككتين ربما في مدى تقبلك لروايته داخل عينيك اللتين من الواضح جداً حين تزوغان هكذا كثيراً أنّهما تعانيان بصورة جدُّ مريعة من كتمان ضحكة لا سبيل إلى كتمانها طويلاً.

سألته:

“ما هو ذلك السلوك، يا ديريك”؟

قال:

“تصوّر! أولئك الأوغاد! شرعوا في القفز ليلاً على أكتاف المارة من البلكونات القريبة، دون أي سبب واضح لي، يا هاميد”!

قلت:

عجباً!

قال:

عجباً!

يا رب السماء، حين تتحول الضحكة، في الأعماق، إلى سيل عرمرم، يتدافع بصخب، خلف ستارة رقيقة من خيط العنكبوت. ومع أن العالم وقتها، ذلك العالم المترامي الأطراف، كان لا يزال يواصل العيش مبتسماً كعادته إلى جوار حوالي 15 ألف قنبلة نووية “موزعة في 9 دول”، إلا أنني وافقتُ، على أي حال، بإيماءة رصينة من رأسي، على خطورة ما قد وصفه لي ديريك مولر هذا للتو من “تصرف شيطاني لهؤلاء القافزين من البلكونات القريبة على أكتاف المارة دون مبرر”. هكذا، أو أغلب الظنّ، حين يرتسم تعبير الرصانة على صفحة وجهي ككل، فقد لا يعني عندها هذا سوى شيء واحد:

“إن الذي يحدث أمامي لا حظّ له من ذكاء”.

قال:

“لك أن تتصوَّر تلك الكارثة، إذا لم يخطيء ذلك الشاب الهدف بالكاد، واستقرّ، كصخرة هاوية من السماء، بالفعل، على كتفيَّ”.

كان ديريك مولر المرتاب هذا لا يزال يحاصرني بعينيه اللعينتين، لما وجدتني أقول كما لو أنني شخص آخر يتحدث بلساني:

“لم أكن أتصور يا زميلي ديريك مولر أن السير ليلاً على جوانب طرقات هذه المدينة قد صار من الخطورة بمكان هذه الأيام”.

لا بدّ أن تعمل على تحميل كلامك إلى أي “مواطن محكوم بالهواجس” بمثل ذلك القدر العالي من الجديّة حتى يطمئن، ويعقّب: “بالفعل، السير في الليل أضحى خطراً، على جوانب الشوارع، في وجود أمثال هؤلاء “القافزين على غفلة منك. أبناء الزانية! تركوا كل شيء في العالم، ولم يعد من شيء هناك ليفعلوه، عدا القفز من البلكونات على كتفيّ أقرب عابر سبيل”. أغلب الظنّ، لا أحد من بين أولئك الحرّاس كان يُعامل أقوال ديريك هذا بأي قدر من الجديّة. كان مستر ديفيد مور مثلاً ينظر إليه ببساطة شديدة نظرته تلك إلى أي إنسان آخر من الغباء برتبة “لواء أركان حرب”. الحقّ، كان ذلك يزعجني على صدقه نوعاً ما. لكن الأمر لم يتوقف أبداً عند هذا الحد. وقد ظلّ مستر ديفيد مور هذا في سعيه ذاك للبرهنة على غباء ديريك يوجه للأخير تلك الأسئلة. كأن يسأله، مثل شخصيّة خارجة للتو، من رأس مكتشف البكتيريا، قائلاً:

“لِمَ نأكل، يا ديريك، وماذا يفعل جسدنا، بالطعام، في النهاية”؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..