مقالات سياسية

فنانو بلادنا والسياسة

فنانو بلادنا والسياسة

صلاح شعيب
[email][email protected][/email]

علاقة مبدعينا بالسياسة دائما مشكلة. الإشكال يأتي من ناحية أن السياسي مثل السيسي سياسي، والفنان مثل ابوعركي فنان، وبينهما أمور مشتبهات. والمشتبه فيه دائما ما يقود إلى إنزلاق الادباء والفنانين إلى مكان تزداد فيه خشامة وإزدراء السياسيين، حيث يغدو المغني موظفا للسياسة بدلا من أن يكون الفنان إنسانا يستشرف الآفاق، وهو من بعد صاحب مشروع للتغيير بأدواته.
الأدوات الفنية، طبعا، تتمايز في التأثير. وإن كان المعروف في الماضي أن القلم أمضى سلاح، فإن القلم تمت الإستعاضة به بالكيبورد، أما الصوت فلا إستعاضة به إلا بالصوت.
فنانونا منذ الحقيبة ظلوا يتعرضون للإغراء السياسي، وكان السيد عبد الرحمن يحاول التقرب إلى آل البنا، بينما كان السيد علي يحاول أن يجد ضالته في مبدعين أخرين. وإلى يومنا هذا يحاول الحزبان التقليديان ـ أو الثلاثة ـ خلق وجود في ساحة الفنانين من خلال إستمالة بعضهم. المؤتمرالوطني ليس له فنان يذكر ولكنه يريح تعبه بإستئجار بعضهم.
بعد الشيوعي كان حزب الأمة هو الأكثر معرفة بأهمية المبدعين، عموما. ولهذا يرى السيد الصادق المهدي جهارا وهو يحافظ على علاقات متينة مع المبدعين. وآخر تمظهرات هذه السياسة زيارته للشاعر الكبير محجوب شريف. طبعا تتمازج النوايا السياسية بالثقافية في تلك الزيارة العصرية. ولكن الأهم القول إن هذه ليست المرة الأولى أو الأخيرة لتجليات الإمام الكبيرة. فكثيرا ما لا يرى السيد محمد عثمان الميرغني وقد ضرب بأرجله نحو تحية مبدع في منزله، أو حضور فاعلية ثقافية، أو إفتتاحها، أو المحاضرة فيها حتى.
والحقيقة أن الناس ملكات، وقدرات. ولا يعني هذا أن الميرغني لا يحوز على ملكات أخرى حتى لا يحاول مجاراة المهدي في مساعيه الإنسانية والثقافية النبيلة هذي. ولكن ربما فضل الميرغني أن ينحصر في صوفيته التي يساوقها، ويسايسها، وبطريقته الخاصة، وبتأن وتؤدة حتى يكتب عند الله أقرب من الذين يناصرون فضاء المزامير.
عموما موضوع الفنانين والسياسة طريف، وعميق، ويستحق بحوثات حوله لمعرفة مسار هذه العلاقة، وتعاريجها، وخباياها، وهكذا. ولكن الأهم ـ أيضا ـ للبحث التقرير بنتيجة مؤداها أن الفنان السوداني ثلاثة أنواع.
ــ فنان يحاول أن يكون سياسيا، إلتزاما، وطرحا، مثل وردي ومصطفى سيد أحمد وابوعركي البخيت، على مستوى الوسط واليسار، إن جازالتصنيف، وليس لليمين أهل غناء يذكرون.
ــ فنان ثان يحاول أن يشتغل فنيا بحيث أن يهتم بالناحية الجمالية والدخول والخروج من بوابة التلفزيون والإذاعة. سواء كانت هذه الأجهزة معشعشة ديموقراطيا، أو ديكتاتوريا. هنا لا يهم الوطن الأهم هو الذات..الذات الروح، والذات المبدعة. ومن هؤلاء الكابلي، وحمد الريح، وعلي إبراهيم اللحو، وأخيرا سيف الجامعة الذي بدأ تحرريا، وحداثيا، وأقرب لوسط اليسار، ولكنه كبا هو وجواده.
ــ فنان ثالث وهو ذاك الذي يستطيع أن يغني للشمولية من يومها الأول، وأن يوظف جانبا من غنائه للثورة – الإنقلاب. كما فعل وردي سابقا ولكنه إتعظ، ومن هؤلاء ترباس، وحسب الدائم، وفرفور، وبقية الشاكلة غير الماجدة.
بمنهج الفن: من واجبنا ألا نطالب الفنان بأكثر مما يجب. فوعي الإنسان معسر أو ميسر له. بمنهج السياسة: علينا أن نعنف هؤلاء الذين يخونون القضية، وعلينا أن نذكرهم أن الود أبوعركي أشرف منهم جميعا، لكونه لا يذل، ولا يهان، عند أبواب السلاطين. علينا أن نذكرهم فقط بهذه الشرافة ولوح الشرف حتى يدركوا أن شخصا اسمه محمد المهدي المجذوب مات مبدعا شريفا.
كان المراحيم سيد خليفة وبرعي محمد دفع الله والعازف الملحن علي ميرغني قد تعرضوا لهجمات ثابتة وأحيانا مرتدة حين سقطت مايو. واذكر أن وردي فرض على الجماهير الهائجة بالملعب الشرقي لجامعة الخرطوم القبول بعلي ميرغني وسط الأوركسترا التي أتقنت لحن (عريس الفدا). إذ لا يمكن إلا أن يكون هذا التصرف من وردي. لأن علي ميرغني ذلل الكثير من صعاب وردي حين جاء إلى الخرطوم. وكان قد لحن له، وفتح له منازل في قلبه، وبروجا في بيته حتى صار نجما.
ولكن للأسف كان وردي حادا تجاه برعي الذي لحن لمايو الكثير، والمغني كان سيد خليفة. هاهنا الوفاء غلب المبدأ. ومع ذلك لا نحفظ لكل هؤلاء الراحلين إلا المشرق من أعمالهم الفنية التي تعلت بالتوازي مع سقوط السياسية منها. والوضع هكذا لا يريد الفنانون الآن..الذين يتساقطون كالفراشات أمام ابواب السلاطين إلا عدم الإعتبار من التاريخ القريب.
والواقع أن السقوط في معمعة السياسي النزق ليس له حدود حتى وإن كنت سياسيا محترفا..إلا من رحم ربي. فمنهج السياسة ليس هو منهج الفن الذي يعتمد على رقائق المفردة، وجزالة الأداء، ونداوة اللوحة. السياسي الذين تعرفون نموذجه الاسوأ لا يني من الكذب، والقتل، والسرقة، والفساد، وتوجيه جنوده نحو الإغتصاب، بينما أن الفنان الشريف يستخدم أدواته لنماء الإنسان، وبقاء فضيلة الحرف الاخضر اكثر جاذبية، وجعل تدهين اللوحة السوريالية مضمخة بأمل الغد.
الكلام كثير حول تأويل العلاقة بين الفن والسياسية. ولكن البعض الآن ينادي بضرورة تكوين حزب الفن على إعتبار أن هذا الحزب الذي يفصل في العلاقة بين الدين والدولة يمكن أن يقود الناس إلى بعض فضائل حزب البهجة الذي ضحكنا على مؤسسيه أيام نشأته في فترة الإنتفاضة غير الاخيرة. وحزب البهجة كان قد دعا الناس إلى تبهيج الناس لا نرفزتهم بسياسة الضرب في حال اللبس القصير، أو بسياسة حمل الموظفين السمان آنذاك للصلاة مع المسؤولين كتفا بكتف حتى يكتبوا عند الله غيرعلمانيين، وبالتالي يؤمنون أنفسهم من سياسة عمنا صالح العامة.
توصيات الكاتب، وهو غير (سيافني)، هي أن نترك الفنان يمارس في تورطه السياسي الشمولي حتى يسقط على خيشومه، على أن تدمغ سيرته بأنه سادن بجانب أنه فنان حلو الصوت. وعلى أن تتجمل ذكراه بتجربته التي لا بد من الإعتراف بها فنيا.
فإبن خلدون على جلال ما قدم للإنسانية، إذ أنه مؤسس علم الإجتماع السياسي، إلا أنه مثقف غير غرامشوي. بمعنى أنه كان يسير بهوى سياسيي زمانه. إذا تزندقوا تزندق وهو العالم. وإذ ناموا في رفاهية العيش ورغده ترغد، مع أنه ضمير الفقراء. وكانت العطايا تصله وهو في مرقده هانئا ومرتاحا بينما أن الرعية تتضور جوعا من تظلمات الحكام.
الاشرف لأبي عركي أن يتضور جوعا ويرتدي بذلات ليس انيقات كما بذلات المشترى من أهل الفن، والأشرف لعركي أن يدلف بعربته كل اسبوع نحو الميكانيكي من أن يبذل حنجرته بثمن بخس. السياسة والفن يلتقيان ولكن عند حافة الأخلاق تختبر آدمية التطريب. ومطرب بلا آدمية كرجل بلا كرامة.

تعليق واحد

  1. شكرا استاذ صلاح

    كنا نتمنى ان يكون المقال اشمل ليذكر تجارب خالدة في الحقيبة وما بعدها آثرت التغني للوطن لا الشخوص والأنظمة وحافظت على ذواتها وقيمها معا

    عفوا ولكن أظنك لم تضع حمد الريح مع القائمة المناسبة وهو في الحقيقة من كبا جواده

  2. حان الوقت للقاء الاستاذ ابو عركى مع السودانى محجوب شريف , الشعب يريد الشعب فى الميدان

  3. سلامات صلاح عهدناك دوما شفافا في كتاباتك المرهفه عن الفن والفنانين لربط اواصر صداقه بين جيلين – جيل فد هرم وجيل عولمجي اي ىجيل ام بي 3 اي ليس لديه الوقت لماع شيء من ذاك القبيل ………. ودام قلمك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..