إندك أُسمان هسين

بشفافية
إندك أُسمان هسين
حيدر المكاشفي
في ذكرى رحيله الثانية عادت بي الذاكرة الى ذلك اليوم من أيام شهر يونيو من العام قبل الماضي حين كانت الدموع لا تزال تملأ المآقي حزناً ولوعة على رحيل الفنان الفذ عثمان حسين عطّر الله قبره، وكان مكتبي المتواضع يومها قد استحال الى مايشبه صيوان العزاء ضم ثلة من الزملاء والزوار جمعهم حب أبوعفان واجتمعوا لرثائه بلا إتفاق غير أن اللحظة قد وافقت ذاك الحدث الجلل، هذا يتناول مأثرة من مآثر الراحل وذاك يضيف معلو مة، إلا عمّار فقد كان للغرابة مطرقاً وساهماً رغم دوشته المعروفة، ولكن لم يمر على صمته المريب ذاك سوى هنيهة إذا بصوته الجهور يجلجل إسمعوا هذه القصيدة…..
وكانت «حليل عثمان» قصيدة في رثاء فقيد البلاد الفنان المطرب المبدع عثمان حسين، خرجت من بين فرث الحزن على فراقه ودم حب الناس له الذي سرى في وجدانهم مسرى الدم في العروق، حتي صار عثمان شاديهم وحاديهم الأقرب إليهم من حبل الوريد، وقد نال مكتبي المتواضع بالصحيفة شرف (عبقريةالمكان) بشهوده لميلاد هذه القصيدة التي سارعت عدة صحف لنشرها وقتذاك، لما فيها من شجن أليم وما انطوت عليه من حزن نبيل لفنانٍ جزيل العطاء، وهكذا دائما تخرج الاشياء الصادقة في يسر وسهولة وسلاسة، حيث لم يستغرق الاستاذ الزميل عمار محمد آدم، ناظم هذه القصيدة سوى دقيقة بعد أن أطرق لبرهة لينطلق بها لسانه كاملة ومتكاملة على النحو الذي طالعه القراء حينها، وكعادة عمار الذي لا يبالي بما يقول ولا يكترث لما يفعل، بل يلقي كلامه أو يأتي بأفعاله بكل عفوية وكيفما إتفق ثم يمضي لحال سبيله غير آبه بعقاب أو طامع في ثواب أو مبالٍ بأية ردود أفعال، بطريقته هذه كان قد سألنا عمار بغير مبالاة، رأينا في القصيدة وكأنه لم يكن ينتظر منا قدحاً لها أو مدحا، ولكنه سُرّ أيما سرور عندما اقترح عليه الزميل اسماعيل حسابو الذي كان احد شهود ميلاد القصيدة أن يستبدل كلمة (قاعدين) التي أوردها عمار في آخر البيت الأول بكلمة ساكنين، فاستطابها عمار وسارع إلى تغييرها رغم اعتراضي على التبديل ومطالبتي بالابقاء على كلمة (قاعدين) التي جاءت في سياق يقول (أُعزّى مقاشي والناس الهناك قاعدين)، وحجتي أنها تناسب المقام في الريف ـ كل الريف السوداني ـ وليس مقاشي وحدها، فالاقامة هناك في رأيي (قعاد) أكثر منها سكنى، فالحال الذي آل إليه الريف يُغنى عن أى تفسير، بل العاصمة نفسها أصبحت أم الارياف يهرب منها المقتدرون للعواصم الأخرى للاصطياف أو العلاج، أو ليشهدوا منافع أخرى تفتقر إليها عاصمة بلادهم وتلك مرثية أخرى…
لقد شقّ علىّ نعى أبو عفان، مثلي مثل الالوف المؤلفة التي ألّف بين قلوبها حب عثمان، ولهف قلبي على زميلنا بالمرحلة الثانوية إبراهيم الملقب بـ (شلن) لصغر حجمه الذي كان دائما ما يتباهى ويتفاخر في تلك السن الباكرة بأنه لا يعرف إلا ثلاثة (الله والهلال وعثمان حسين)، ومن عظمة عثمان وعبقريته أنه استطاع بمقدرته الفذة على النفاذ إلى سويداء القلوب والسيطرة على المشاعر أن يغزو قلب شيب وشباب ونساء وعذارى قبيلة رعوية مثل قبيلة الامبررو، لها كل التقدير والاحترام، قبيلة لا تغشى الحواضر إلا لماماً، وكل حياتها بين الدغل والسهل ولا يهمها مافي الحياة من بهرج وزخرف إلا أبقارها ذات القرون الطويلة المميزة، وما تنتجه من لبن وسمن وزبد وروب، وتستعين على قساوة الطبيعة ووحشة الاحراش بالاستماع لعثمان حسين، الذي يقال إن القبيلة كلها لا تهوي غيره من المطربين، ورجال الامبررو مستمعون وذواقون من الطراز الاول، ولهم ولع خاص بالراديوهات والمسجلات، وقلمّا تجد احدهم لا يتأبط راديو أو مسجلا بعد أن يتفنن في تذويقه وتجليده بجلدٍ فاخر أو قماش مختلفةٌ ألوانه، يسر الناظرين، وفي حب الامبررو لعثمان حسين تقول إحدى النكات إن امبرراوى دخل المدينة على عجل لقضاء بعض حاجياته المستعجلة ومن بينها بالطبع أشرطة لعثمان حسين، فوقف عند صاحب طبلية ممن يبيعون الاشرطة وسأله في لهفة (إندك أُسمان هسين)، قال (الطبّالي) نعم، قال الامبرراوى(خمسة جيب).. التحية لقبيلة الامبررو الذواقة الفنانة، فما يعشق عثمان إلا فنان، والرحمة والغفران لك أبوعفان، القامة الشامة، «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».
الصحافة