وهناك فقرٌ يشبه الغِنى….

كان أول نزولنا مع عمة لنا (نون بت بشير) في ديم التعايشة. عمتنا ن كان معها أبنها ع. وكان يكبرني بعامِ أو عامين ويعمل في مخزن المطار, ولكنه “مُلَحْلح عفريت, مجّربٌ الدنيا” برغم حداثة سنّه, لم أكن تعديت الثانية والعشرين. بهرني بذوقه وحسن هندامه واتساع علاقاته الاجتماعية مع ناسٍ كلهم من طبقة المترفين ورفاقهم ممن يدّعون الترف ويحسنون الحديث في الكرة وفي الموسيقى وحفلة “ام بارح, البارحة” و”يا راجل” “بالغتَ” “معقول؟!!” “يا أخي دا أنا أخوه بشتريتو من أثينا, سفرتي الفاتت مش القريبة دي, عايز تلعب بينا؟ فضينا, والهيغ” هيغ شنو يا عربي” ويدخل كالثعبان ويخرج دون أن يوقظ أحدا, وفي يده زجاجة ملفوفة بعناية, ملفوفة بقماش كتاني مبلّلٍّ (خيشة) كانت مدسوسة في الثلاجة بطريقة لا تجعل أحدأ يشك في أنها دواء. ويجلسون على الكراسي الخيرزان وأخرى وثيرة وقهقهة عالية ثم غمز بالأعين و”وسوسات” وعلى الطاولة الصغيرة “مزّة” جبنة رومي وفستق وأكلات لا أعرفها. أجلس معهم ولكني لا أستطيع مشاركتهم في شيء, بضاعتهم تختلف عن بضاعتي, أأبيعهم الدوبيت أو حسن نجيلة “زاتو”؟ وفؤاد بليبل أم كجراي. وينتصف الليل ويدخلون الحجرة الخارجية وينده (ينادي) ع. تلك الصفراء الجميلة الطافحة أنوثة وأدبا. كانت أجمل أهل البيت طرا, وآدبهم, ولكنها بنت خالتهم “مِلِّين”, لسوء حظها وربما لسوء عاقبتهم, وقد يشفع لهم ما طبّعوها من تعَفُّف. أسهر معهم وأنا في وديان وهم في وادٍ اعجمي وكانهم لا يطيقونني وفي ما عدا ذلك فإن ع كان كامل النخوة يقوم في شهر رمضان بتوزيع جرادل “الحلو مر” في المستشفيات وفي المساجد وفي الكناتين حيث يديرها “عزّابةٌ” أعاريب أغراب, ولما رحلت أمه ن استمر في ذلك اليرنامج. ولم يكونوا أثرياء. كانت الحورية بنت ملّين تعجن الدقيق إلى وقتٌ متأخرٍ من اليل وتخمٍّره جيدا ثم تجهِّز الصاج والزيت وتسحن السكّر ثم ترتمي في “العنقريب الجبّاد. سريرٌ خشبي فرشُه حبالٌ من لِحاء”. تنام كمن وقع عليه طرف صاعقة أدخله في غيابّاتٍ لا يستذكر بعدها أحلاما سعيدةً قط. وقبل البواح تُوقَظ الحسناء لترمي اللقيمات (الزلابية). هشً لا لُبَ فيه وفي حجم الكُفوف (الأكف) تملأ منه طستاً كبيرا, وقبل الشروق يكون التاكسي الأصفر أمام البيت في انتظار زبونته ن يشق بها الطريق خطفا للمستشفى الكبير. وهناك ينتظر الزبائن, ممرضين وأطباء و معيّة مرضى, ولا تلبث إلا زمنا يسيرا ويرجعها التاكسي للبيت. حصيلة جيّدة توزعها بين اصلاحات البيت وأكرام الضيف فبيتها لا يخلو من زائر يستحق المساعدة, طلاب يفدون في أيام الجُمَعِ وأقرباء وقريبات أو ذوو عشرة قديمة, لا يرجعون وجيوبهم فارغة, وصدقت بت ابراهيم الجميعابي إذ قالت: “هناك فقرٌ يشبه الغِنى و هناك غِنىٌ يشبه الفقر”.
يتعشون, ويتسللوا إلي بيتِ جارتهم الخضراء أم “العُزّاب الأربعة” ويكملون بقية الليل مع الموسيقي. كان ب موسيقيا ماهرا يُجَلِّع” آلة الكمان (يُغَنِّجُها). لم استمع لعزفه لهم. لكني التقيت الرجل لاحقا لما استأجرت لوحدي. رأيت كنارا في جّثّة خرتيت (وحيد القرن) وتصاحبه انحرافات, لعلّهم شركاءه في تلك الميولً, وهو يفسّر فتور إطاقتهم صحبتي, واستغفر ربي إن جنحت. ومهما استعليت ? في داخلي ? على أولئك الشباب فإنني لا أنكر أنهم أمسكوا بواهنٍ من خيوط الحداثة الشكلانية قبلي. كنا نحسبها من مُمَيِّعاتِ المُدًن ثم تبيّن لنا خطلُ الصلف البدوي.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..