مقالات وآراء سياسية

المؤسسة العسكرية وتحديات الانتقال الديمقراطي (1)

شمس الدين ضو البيت

المحاولة الانقلابية الأخيرة لا تنفك عن محاولات مستمرة لفلول النظام البائد لإجهاض النظام الديمقراطي
طلاب كلية غردون والمدرسة الحربية كانوا نواة لطبقة الخريجين الحديثة وطرائق تفكيرهم لم تنفصل عن قضايا البلد والمواطنين السودانيين

جمعية الاتحاد السوداني بقيادة عبيد حاج الأمين كانت تعتبر تنظيماً وفكراً عن الخط المدني لخريجي كلية غردون، الذين ظلوا على دراية بواجباتهم في تغيير مجتمعهم ليلحق ببقية الشعوب.

السؤال المعضلة

أعادت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت (الثلاثاء)، المؤسسة العسكرية السودانية إلى دائرة اهتمام، لم ينحسر كلياً في يوم من أيام السودان، إلا أن السلطات أعلنت عن إحباط المحاولة بعد ساعات، وقالت إن الوضع أصبح تحت السيطرة. ومن جهته، قال وزير الإعلام إن السلطات ألقت القبض على مدبري الانقلاب الفاشل، وإنهم ينتمون لفلول النظام المباد، إلا أن المؤسسة العسكرية لم تحدد الجهات التي ينتمي إليها مدبرو الانقلاب، في الوقت الذي اعتبر فيه رئيس مجلس الوزراء أن ما حدث انقلاب مدبر من جهات داخل وخارج القوات المسلحة،

وهي محاولات لفلول النظام البائد لإجهاض النظام الديمقراطي.

وكانت الحكومة قد أبرمت اتفاقاً مع الحركات السياسية المسلحة، ينص على ترتيبات أمنية جديدة؛ في وقت وضعت فيه الحكومة الانتقالية الثانية إنشاء جيش وطني مهني موحد على رأس أولياتها،
وتأتي هذه الأحداث بعد ثورة مدنية ديمقراطية هي الثالثة ضد نظام عسكري في السودان.. مما يستدعي السؤال المعضلة حول كيفية تحقيق المواءمة بين الحاجة لمؤسسة عسكرية قوية بما يكفي لحماية البلد.. وفي الوقت ذاته ضمان ولاء هذه المؤسسة للديمقراطية وللسلطة المدنية ..
هذه السلسلة محاولة لابتدار نقاش حول المسألة..

تطرق المقال السابق الى الادوار التي لعبها طلاب كلية غردون والمدرسة الحربية مع التاكيد على أن جميع الطلاب سودانيين، ونبه المقال إلى أن طرائق تفكيرهم لم تنفصل عن قضايا وتطلعات بلدهم ومواطنيهم السودانيين،
وأنهم أدرى بواجباتهم ومسؤولياتهم في تغيير مجتمعهم السوداني ليلحق ببقية الشعوب.

كما اشار دور جمعية الاتحاد السوداني بقيادة عبيد حاج الأمين والتي كانت تعتبر تنظيماً وفكراً عن الخط المدني لخريجي كلية غردون

في العام 1902م افتتحت السلطات الاستعمارية في السودان كلية غردون الجامعية.. وافتتحت بعدها، في العام 1905 المدرسة الحربية.. صحيح أن غرض المستعمر من المؤسستين كان خدمة مصالح بريطانيا في السودان، لكن بداية المدرستين كانت أيضاً، بداية طبقة الخريجين الحديثة في السودان.. جميع طلاب المدرستين كانوا من السودانيين، فلم يكن بالإمكان فصلهم ولا فصل طرائق تفكيرهم عن قضايا وتطلعات بلدهم ومواطنيهم السودانيين.. في الواقع ساعدت المؤسستان طلابهما في أن يكونوا أكثر معرفة وإدراكاً لما صارت عليه شعوب العالم من نهضة وتقدم.. وبالتالي أدرى بواجباتهم ومسؤولياتهم في تغيير مجتمعهم السوداني ليلحق ببقية الشعوب..

في العام 1920م، تأسست جمعية الاتحاد السوداني، بقيادة عبيد حاج الأمين، لتعبر تنظيماً وفكراً ومزاجاً عن الخط المدني لخريجي كلية غردون، وفي ما بعد عن السياسة السودانية الحديثة.. كان جميع من أسسوها تقريباً من خريجي الكلية، وقد اعتمدوا القراءة والاطلاع وسائل لتطوير معرفتهم بأوضاعهم وحال بلادهم، ثم النشاط الأدبي والثقافي والمذكرات الاحتجاجية والإضرابات وسائل لنشاطهم السياسي.. ورغم أن الجمعية حددت بوضوح أن هدفها السياسي معاداة الاستعمار، إلا أنها اختارت البدء بترتيب البيت من الداخل، بتركيز نشاطها السياسي والأدبي على معاداة من تعاونوا مع الاستعمار من السودانيين.. بالذات الزعماء الطائفيين ولجنة علماء السودان حينها، وشيوخ القبائل وكبار التجار..الخ.
في المقابل، تبدو جمعية اللواء الأبيض وتأسست عام 1923 بقيادة الضابط علي عبد اللطيف، أقرب إلى الفكر العسكري قيادةً وتنظيماً ومزاجاً. وبرغم أن اللواء الأبيض حددت بوضوح أن هدفها السياسي هو أيضاً محاربة الاستعمار، إلا أن عملها في الفضاء العام، بما في ذلك ثورة 24، كانت بمظاهرها وفعالياتها تعبر عن الروح العسكرية الحربية في تحقيق الهدف ذاته.. بدءاً بمشاركة طلبة الكلية الحربية في مظاهراتها بكامل زيهم العسكري وسلاحهم.. ومساعيها للتنسيق مع الجيش المصري بالسودان وقتها.. وحتى المواجهات العسكرية المباشرة لعبد الفضيل الماظ وصحبه مع قوات المستعمر ..

في السنوات المائة، منذ ذلك الحين روت مياه كثيرة حقول الفكر السياسي والعسكري السوداني. على مستوى المسار السياسي نجد مؤتمر الخريجين والحركة الوطنية.. نشأة الأحزاب ونضالات الاستقلال.. والفترات الديمقراطية الثلاث.. ثورة أكتوبر، انتفاضة أبريل.. نشأة الحركة النقابية والمجتمع المدني الحديث.. وأخيراً ثورة ديسمبر 2019.

على مستوى المسار الثاني، مسار جمعية اللواء الأبيض وثورة 24، نجد نضالات الهامش والأقاليم السودانية في الحركات المسلحة، وقد نشأت متأثرة بهذا الإرث الذي يستخدم أدوات وآليات عسكرية لتحقيق أهداف سياسية شعبية ووطنية.. أولاً في جنوب السودان (1955، 1983)، ثم في جبال النوبة والنيل الأزرق منذ 1983، ثم مرة أخرى منذ 2011 ودارفور منذ عام 2003. وقد تغذى هذا الاتجاه على أدبيات الثورات الريفية المعتمدة على الفلاحين والرعاة، التي كان دعا إليها وقادها بنجاح ماو تسي تونج في الصين.. ولكنها اختلفت عنها في أن القوات التي شكلت قوام حركات الكفاح المسلح السودانية في تجلياتها الجنوب سودانية، وفي جنوب كردفان ودارفور، كانت في الواقع إما انسلاخات من القوات المسلحة السودانية، مثل كتيبة الاستوائية في عام 1955 التي كانت نواة قوات (الأنيانيا)، أو الجيش الشعبي لتحرير السودان في عام 1983، بقيادة العقيد جون قرنق الذي كان ضابطاً رفيعاً في القوات المسلحة السودانية، أو أن القوات المسلحة كانت حاضنة لقوات (صديقة)، صارت في ما بعد هي القاعدة التي تأسست عليها أو ضدها حركة الكفاح المسلح، كما كان الحال مع حركات دارفور وقوات الدفاع الشعبي، التي عكفت الحكومة على تجنيدها لخوض الحرب الأهلية في الجنوب في سنوات حكم الحركة الإسلامية.

إلى جانب تأثيرات النشأة الأولى لقوة دفاع السودان عام 1925، كوحدة في الجيش البريطاني في أعقاب الأحداث آنفة الذكر المصاحبة لثورة 24، باعتبار أن مهمتها كانت حفظ الأمن الداخلي ومساعدة الشرطة في حالة الاضطرابات، بما في ذلك التصدي للصراعات القبلية.. كان لهذا المسار الثاني أثر كبير في تشكيل نوعية العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسياسة، بوضعه أساساً تاريخياً لتداخل العسكري في السياسي، ولتدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..