حين يستفيق الجنرال من غيبوبته

بعد قرابة الخمسة وعشرين عاماً من غيبوبته، يستـفـيـق أخيراً الجنرال السوداني عمر حسن أحمد البشير، الذي نصب نفسه رئيساً للسودان منذ إستيلائه على السلطة في 30 يونيو 1989 مدشناً منذئـذٍ عهداً جديداً من القتل والخراب الاقتصادي والسياسي والإقصاء والمحسوبية والفساد لم يشهده تاريخ السودان الحديث.
يستـفـيـق الجنرال المنهك بالكذب والأحابيل والوثبات الفراغية ليجد أنْ جرابه المقدود قـد فرغ تماماً من كل حيلة وشتيمة وأنَّ ما كان يُسمى بالسودان قبل إنقلابه المشؤوم ما عاد موجوداً على خريطة العالم وأن السواد الأعظم من أهله قد تشردوا أو قتلوا أو سجنوا أو هاجروا بسبب حروب الجنرال الداخلية ضد المدنيين وبسبب حماقاته وسياساته الجوفاء الهوجاء وشتائمه التي ما تركت مصطلحاًّ في قاموس العربية الكلاسيكية أو العامية السودانية إلا واستعارها وأطلقها على عامة الشعب الذي رأى عبوب الجنرال وجهله وقبح أفعاله وسياساته ورعونة أقواله وتصريحاته وهو متدثر بثوب فرعون لا يغطي عوراته.
الجنرال المستبد، والذي ردد في مدينة القضارف في ديسمبر الماضي (2013) وعيده للمعارضة بأن عام 2014 هو عام حسم التمرد ولحس الكوع لمن يطالبون بوطن حر وديمقراطي ويتطلعون لإنهاء عهد التمكين والتخريب والفساد والانصرافية الذي جاء به الجنرال، يأتي مساء الأثنين 27 يناير 2014 بخطاب استفاق فيه من غـيـبوبته وغطرسته ليحدثـنا عن انجازاته الحقيقية على أرض الواقع، عن تركته الثقيلة، عن وطن أفـقـره واقتصادٍ متهاوٍ وحروب تنزف دماً أشعلها وزاد أوارها، وعن وهوية سودانية مفقودة كان هـو عـراب هدمها ونخرها كما السوس ولم يكن آفة تلافيها كما قال شاعر الغلابة الراحل حميد. يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته الطويلة ليحدثنا عن خيار جنوب السودان ? سابقاً ? ليقول كلمته في وقت لم يعمل الجنرال على جعل الوحدة جاذبة بين الشمال والجنوب لأن مبتدأ الجنرال ومنتهاه كان جهاداً كاذباً وسمسرة دبابين وقتلة بإسم الدين لفرض هوية واحدة على أرضٍ تتمتع اليوم بإستقلالها المجيد بسبب حماقات وسياسات الجنرال المولغ في الدمار والخراب وتمكين من حوله ليقتلوا حُلم وطن كان من الممكن أنْ يظل موحداً وقوياً وفاعلاً ومتفاعلاً مع المحيط الإقليمي والعالمي. مثلت دولة جنوب السودان انبثاق وطن جديد ? مُـستحق – لم تستطع آلة الجنرال المستبد وجحافل مجاهديه ودبابيه من اخضاعه في بيت طاعة إسلامعـروبي.
يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته الطويلة ليتحدث عن وطن تسمو فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وهو من عمل معاول الهدم في كل حقٍ جاعلاً من الحقوق أداة ابتـزاز وترغيب يستعملها متى وكيف شاء كما أموال البلاد رغم زخم دستوره للعام 2005 بهذه المفردات السامية. فعن أي حقوق وواجبات مواطنة يتحدث الجنرال وقـد أفرغ دستور أمسه من محتواه وجعل “وثيقة الحقوق” خاوية المحتوى ؟ كما أزكى الجنرال النعرات الجهوية والقبلية بنجاح يحسده عليه أي مستعمر لئيم، ورهـن وطنٍ بكامله لفئة متأسلمة في إطار تمكينٍ قضى على الحقوق الأصيلة والمؤسسية وقذف بأبناء وبنات الوطن المؤهلين إلى دائرة التشرد مستبدلاً لهم ولهن بولاءات إنقاذية وإسلاموية كذوبة .
يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته ليجد أنِّ صراخه ووعيده للمعارضين السياسيين وتنكيله بهم في معتقلات أمنه، والاسطوانة المشروخة التي ظـل يرددها طوال ربع قرن عن انجازاتٍ وهمية تعشعش في عقله المسكون بالخواء والكذب، وجـد أنها لن تقيم دولة الرسالة السماوية على أعمدة من الكذب الصراح وقتل وظلم وفساد تنأى وتخجل عن حمله الأرض. يستـفـيـق الجنرال المستبد ليرى تركته الثقيلة من الآلام والأحزان والأوجاع والفقر والفساد في وطن كان موعود بالكثير قبل وصوله للسلطة قسرياً.
يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته بعد ربع قرنٍ من الزمان ليعلن في خجلٍ مستـتر وبلاغةٍ بلهاء للعالم أجمع أنَّ مشروعه الحضاري المزعوم ما كان لدين ولا لإلهٍ سوى عجل إسلاميين متعطشين للسلطة، عبدوه من أجل الدنيا والثراء الحرام والرقص فوق أشلاء وجماجم ضحاياهم وفوق أشلاء وطن يتفتت تحت قهقهة دواخلهم الجوفاء. لغة خطابية جوفاء تعدت أربعة آلاف كلمة، كان يمكن اختصارها في كلمتين فقط: إعلان الفشل.
يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته كالملسوع ليعرف أن سياسة الـتـنـطع بلحس الكوع أرتدت إليه كما داعي الشر. يحاول الجنرال في استفاقـة الهنيهة هذه التدثر بثوب الوطنية الناصع الذي مزقه طيلة خمسة وعشرين عاماً متلفعاً خلالها بثوب حركته الإسلامية المهتريء.
يستـفـيـق الجنرال من غيبوبته العدمية التي عاشها طوال ما يقرب ربع قرن أوصل فيها الوطن لحد الهاوية، ليدخل في غيبوبة أخرى. غيبوبة رسم المستقبل. وكأني بالجنرال يخرج لسانه للجميع بأنه هو المنقـذ لما دمره هو وأنِّ حواء السودان ما عادت ولود. أي سفهٍ يعيش فيه هذا الجنرال المستبد الذي ما أنْ يخرج من غيبوبة إلا ليدخل أخرى. أي خبلٍ هـذا وأي عبث هذا؟ والواهمون يقفون على مسرح العبث هذا لقياس فترة الغيبوبة القادمة ومكانهم فيها.
يبقى الأمل في القوى الوطنية التي ما تزحزحت عن مواقفها، منافحة من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والتنمية والسودان المتعدد الإثنيات والعرقيات إنْ أرادت تحطيم معبد العبث هذا، أنْ تـفرض شروطها هي، شروط الوطن، لا شروط الجنرال المستبد والمؤتمر الوطني. شروط وطن لا يعرف الإنبطاح والاستسلام ولا يعرف المساومة بدماء الاف الشهداء والضحايا والناجين من سفه وعسف الإنقاذ وحق هؤلاء وحق أسرهم في عدالة أرض قبل عدالة السماء. شروط وطن يتطلع إلى مكانه بين الدول المحبة للسلام والتنمية والعدل وترسيخ الحقوق كافة، للجميع كافة دون تمييز أياً كان نوعه أو مصدره أو مقصده.
في السلك يا سُمعه ..
الجنرال في متاهته الأخيرة ، أضاع الفرصة على نفسه ، فقد بات اليوم اقرب لـ (لاهاي) أكثر من يوم الأحد الذي سبق
ذاك الخطاب الأجوف الذي افرغ فيه المستهبل المدعّي أمين حسن عمر و صحبه عصاره فكرهم المريض الملتوي الساذج والإقصائي ،
والذي وضعوا فيه ـ دون قصد منهم ـ نهاية عهدهم وعهرهم الطويل .