مقالات سياسية

ديسمبر المجيد – بأي حال عدت ياعيد؟

اسماعيل عبد الله

 

     العام الثاني من عمر ثورة ديسمبر المجيدة يعلن عن انقضاءه، والبلاد تتأرجح بين مطلوبات الحكومة المدنية وغطرسة العسكريين، وتراوح مكانها بين استحقاقات كتاب السلام والتزامات الوثيقة الدستورية، والبعثة الاممية في الطريق الى بلاد السمر على خلفية الحزم الامريكي العازم على تحجيم الدور التحكمي للبزة العسكرية وحلفائها من المدنيين الهابطين ناعماً على مطار السلطة المنتقلة، وتبدلت معانى المفردة الملحمية التي شدا بها العطبراوي وفارقت مسارها فاصبحت (كل ارجاءه لنا محن)، فالشرق ينزف والغرب يأمل والشمال يئن والجنوب الجديد (جبال النوبة) تتقاذفه خلافات ابناء العمومة، فضلاً عن التمركز النخبوي في العواصم الثلاث واللهث وراء الحصول على قطع من الكيكة، والكل يتباكى على دماء الشهداء المسفوكة غدراً وغيلة، ويترحم عليهم امام عدسات كاميرات الشاشات البلورية ويتمرغ على تربة قبورهم، لقد امست الدعوات المباركات للشهداء الميامين بان يحشروا في جنات الخلد في أعلى عليين، هي جواز السفر الاحمر للعبور الى المواقع والمناصب الدستورية، ذهبت الارواح الطاهرة مهراً للخلاص الوطني الكبير ووهبت كضريبة مدفوعة مقدماً لبناء الوطن الذي يأمل ان يستظل تحت ظله الجميع، ولم يكن الشهداء يعلمون ان السودان بعد موتهم سوف تتنازعه الرغبات الخاصة وتتقاسمه الشهوات المكبوتة، وها نحن نرقب ونتوجس وتتأهب جيوشنا ومليشياتنا وحشودنا لخوض معارك اضمرتها الصدور قبل ان تخفيها الابتسامات الصفراء، فالكل مصفر الوجه يتبسم في وجه اخيه تكلفاً وتصنعاً وليس تصدقاً ليصدر بيانا لاذعاً في المساء يقصم به ظهر تلك المجاملات الفاترة.

     الثورة الديسمبرية المجيدة تقضي عاميها الاول والثاني والاحياء من الثوار يحتشدون يوماً بعد آخر لتجييش الشارع بالهتاف المشحون بمعاناة الناس التي طالت واستطال امدها، وما يزال هنالك من يؤمن بقوة البارود وشرر المدفع، ويوجد ايضاً من يقبض على جمر القضية السلمية التي ارعبت الدكتاتور الذي كان ممسكاً بزناد المدفع الكبير، ولم تجديه المدافع ولا المنافع  فطرحته ارضاً هذه (السلمية) بذخائر معنوية فاتكة قدمت من قاع حناجر الشعوب الهادرة والمزمجرة بصوت الحق، ديسمبر قدمت طرحاً ثورياً مغايراً ففرضت انموذجها على من حمل السلاح واجبرته على الدخول في السلم اعزلاً مجرداً من (الكلاشنكوف) و(الميم طاء) وممتشقاً للقرطاس والقلم، وهزمت معنويات المراهنين على فوهات البنادق بصدقها وامانتها مع الشارع الضاج بصرخة شعار الحرية والسلام والعدالة، ثورة مثل هذه سوف تظل عصية على  القنابل والالغام أن تمتطي ظهرها ولو كره المسلحون، فقد ارست هذه العاصفة المجيدة دعائم الحكم المدني رغم كيد الكائدين وتشدد المهووسين وتربص المتربصين، وربما يستمر تلكوء العسكر الى حين لكن لن يقدر احد على أن يهزم هذا الحراك الشعبي الذي مازال شبابه متمسكاً بمبدأ (المدنيااااو)، ومتكأً على التعبئة الشعبية المسنودة بالمواقف العالمية المؤيدة لانجاز منظومة الحكم المدني الرشيد، التي ستبقى خير معين لها حتى تبلغ غاياتها المنشودة.

     الاستقطاب المضاد الذي تحاول ان تفجره بعض القوى المناصرة للسلام لا يصدر الا من قاصري النظر، فديسمبر لم تكن صفوية ولا جهوية وانصهر في بوتقتها القاصي والداني من الجهات الاربع دون تصنيف ولا تطفيف، وبعد دخول السودانيين في السلم كافة عليهم ان يكفروا بنظرية المؤامرة ويحتفلوا جميعهم بعيد ميلاد ثورتهم في شمعته الثانية، وحينما انطلقت شرارتها الاولى في الدمازين ثم القضارف واصابت عطبرة والمدن الاخرى بسرعة اشتعالها وقوة احتراقها، وكانت رسالة بليغة لكل من في نفسه مرض وزيغ العنصر والجهة فالجمت اصوات اقوام وافراد وجماعات كانوا لوقت قريب يساومون بالجهويات، وما على حملة لواء السلام سوى التضامن مع موجهات الهبّة المسقطة لرمز الظلم والطغيان بتحكيم صوت العقل المنادي باولوية تحقيق دولة الحكم المدني، وعدم التماهي مع دعاة عسكرة دواوين الحكم التي يجب ان تؤسس على مباديء العدالة الاجتماعية، والمطّلع على سير واخبار البلدان العملاقة باقتصادياتها الناجحة يرى المسافة الواضحة التي تفصل جيوشها عن مؤسساتها المدنية الرائدة والقائدة لاسباب رفاه الشعوب، ويلحظ البون الشاسع بين دور المؤسسة العسكرية المتعلق بالمهنية والتخصصية في هذه البلدان وبين توغل هذه المؤسسة في البلدان التي على شاكلة وطننا الحزين.

     الثورة انطلقت هتافات رددتها الملايين في التاسع عشر من شهر ديسمبر في العام الفين وثمانية عشر، وسار قطارها غير مكترث لعثرات الطريق الممثلة في عدوان عاشقي السير على دروب الهوس الانقاذي الكارثي الذي فتك بالمواطنين، وابحرت سفينتها لا تبالي برياح البائدين النادمين على ازاحة حزاء الطاغية من رقبة الشعب الكريم، فالبون واسع بين من يعشق تنسم نفحات الحرية والسلام الاجتماعي واولئك الماسوشيين الراغبين في العيش تحت أنين مركوب (البوت) وآلامه، والمعركة بين قيم التمدن وعته وجنون التخلف ازلية اسالوا منها الشعوب التي خرجت من غياهبها الجبّيّة، وتاريخ القارة العجوز يحدثنا بمافعلته الهتلرية بسكانها في عهود البربرية والظلام، فمن الصعوبة والاستحالة ان تتمكن من اخبار خادم المنزل الامريكي انه مع خادم المزرعة متساويين في الخصيصة الاجتماعية في ذلك الزمان الغابر، إلا بعد حدوث الصدمة الكهربائة العظمى ذات الفولتية العالية عندما غضب انصار الحقوق المدنية وقلبوا الطاولة على وجوه الطغاة المتجبرين ملاك المزارع والمنازل.

 

اسماعيل عبد الله

[email protected]

16 ديسمبر 2020

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..