أخبار السودان

حول مفهوم الدولة وأنواعها وتعاطى كل نوع مع القضايا المصيرية للسودان – الشريعة الإسلامية مثالاً (3-4) .

حسين أحمد حسين

توطئة
سيتناول هذا المبحث مفهوم الدولة المتعلق بتوصيف ما تقوم به من مهام، كما أنَّه يتطرق لأنواع الدولة؛ الدينية منها والعلمانية والمدنية. وسننظر فى ميراثنا من كل نوع، وكيف أجاب كل نوع على أسئلة السودان المصيرية خاصةً تلك المتعلقة بالشريعة الإسلامية.
مفهوم الدولة
الدولة هى: “حزمة الأجرآءات القانونية والمؤسسية المعبرة عن مجتمع بعينه، على بقعة أرض بعينها، بالكيفية التى تُكسبها إعترافاً دولياً وسيادةً على تلك البقعة من الأرض” (لنستحضر ولادة دولة الجنوب – رغم قيصريتها – حتى نتبيَّن تعريف الدولة). وهذا التعريف البسيط يخضع بالطبع لشروط التشكل الإقتصادى الإجتماعى والتى تُفَسِّر لنا صيرورة الدولة ومسيرة نضجها منذ ولادة الحاجة إليها قبل نحو 10 ألف سنة حتى يوم النَّاس هذا.
وبالطبع هذا المفهوم هو التعريف العلمى الذى يستخدمه أىُّ نوع من أنواع الدولة (دينية، علمانية، مدنية) لإنجاز الحقوق والواجبات المتبادلة بينها وبين مواطنيها. وبعبارة أخرى هذا التعريف يُمثل الشروط العلمية لإنجاز مهام الدولة فى أىِّ مكان، وعلى أىِّ دين/لا – دين كانت. كما أنَّ الدولة بهذا التعريف ليست معصومة من التعاطى مع معتقدات النَّاس. بل إنَّها تتأثر بمعتقدات شعبها وتؤثِّر فيها، فى إطارٍ من الجدل الحميم والمحتدم. ويجب ألاَّ يتوقع السياسى الناضج إجابة سهلة على عواقب إقحام الدين فى الدولة أو فصله عنها؛ فالمخاض طويل. والمهم فى كل ذلك هو أنْ تتعاطى الدولة مع معتقدات شعبها بالطريقة التى لا تخل مطلقاً بالحقوق الأساسية لكافة مواطنيها، وأن تتعامل معهم على قدمِ المساواة.

ثالثا،ً الدولة المدنية

لاشك أنَّ بدايات السلوك المدنى نبعتْ من أول أسرة من لدن سيدنا آدم عليه السلام، ثمَّ من المصادقة على عقد إجتماعى للعشيرة، ثمَّ للقبيلة ثمَّ فى نهاية المطاف آل الأمر للدولة. لقد كانت الغرائز وحدها – لاسيما الشجاعة والخوف – على أيام العهود البدائية قبل ولادة الدولة هى التى تدفعُ بالنَّاسِ للصراعات وتكفِّهم عنها (Jean Jacques Rousseau 1913). ثمَّ استطاعت الأديان – خاصةً التى بقِيتْ خالية من الهوى والغرض فى التأويل والتحريف البشرى – أنْ تمدَّ الإنسانية بأنصع العقود الإجتماعية التى قد أسَّستْ للحال المدنى الذى أنجب الدولة الدينية، فالدولة العلمانية ثم مؤخراً الدولة المدنية. وعبر هذه الصيرورة قيَّدَ الفردُ نفسَه، من حال التعامل الغريزى مع محيطه، بحال مدنى/بعقد إجتماعى فصله عن التعامل البوهيمى مع ذلكم المحيط.

ويجب علينا أن نوضِّح هنا بأنَّ عبارة الـ (Civil State) التى ظهرت فى كتابات جان جاك روسو 1712- 1778م، ما كانت لتعنى الدولة المدنية، بل تعنى الحال/الوضع المدنى خاصةً إذا علمنا أنَّ جينولوجيا الحديث عن طبيعة الدولة الرأسمالية نفسه هو حديث ورد فى التاريخ المعاصر (بدائياته عند أنجلز ولينين، عميقه عند الماركسيين البنيويين وغيرهم من اللاحقين كما بينَّا سابقاً). وفوق ذلك فإنَّ الغربَ لا يعرف مصطلح الدولة المدنية، ويعتبره مصطلحاً شرقياً. ونحن هنا نؤكد بأنَّ مصطلح الدولة المدنية، كمقابل لمصطلحى الدولة الدينية والدولة العلمانية، هو مصطلحٌ سودانىُّ الجنسية وأبوه (The father founder) هو المفكر الجليل محمد إبراهيم نقد رحمه الله (محمد إبراهيم نقد، حل مشاكل السودان يتمثل فى دولة مدنية، الحوار المتمدن: العدد 425، 15/03/2003، محمد إبراهيم نقد، حوار حول الدولة المدنية 2012).

وأقول ما أقول، لأنَّ كثيراً من الكتابات التى طالعتُها تحاول أنْ تُمصِّرَ المصطلح، أو تُسَوِّرَه، أو تُمغرِبَه، أو تُبغْدِدَه؛ وذلك لأنَّ الغرب قال أنَّ مصطلح الدولة المدنية مصطلحاً شرقياً؛ فالكلُّ هبَّ لينسبه لنفسه؛ ولكنَّه، شاءَ من شاء وأبى من أبى، فهو سودانىُّ الجنسية. وصحيحٌ أنَّ هناك العديد من الكتابات التى تناولت المجتمع المدنى وأهميته فى الثلاثة عقود المنصرمة فى المنطقة العربية والإسلامية (راجع مثلاً: عزمى بشارة، محمد الغيلانى، الحبيب الجنحانى، عبد الإله بلقزيز، إلخ)؛ وفى الغرب منذ أزمنة سحقية؛ إلاَّ أنَّها كلُّها لم تنفذ إلى حقيقة الدولة المدنية كما كتب عنها المفكر محمد إبراهيم نقد.

تطور المصطلح

من المؤسف أنَّ مصطلح الدولة المدنية مازال مهزوزاً فى أذهان النَّاس رغم ظهوره كبرنامج عمل للمعارضة الديمقراطية (الحزب الشيوعى السودانى) لحل مشاكل الدولة الدينية المتمثلة فى حكومة الوفاق أبّان الديمقراطية الثالثة عام 1988م. ومرد هذه الإهتزاز لسببين فى تقديرى المتواضع:

الأوَّل: عدم ربط المصطلح بشروحات وتفسيرات من أوجده (Lack of symptomatic reading) تحت شروط ظرفه التاريخى المحدد الذى هو الكفيل الوحيد (أى ذلك الظرف التاريخى) أن يُضفى على المصطلح دلالته؛ بعيد عن التَّذهُّن والتَّكهُّن الَّذَيْنِ يُحاولان جعلَ المصطلح مصطلحاً لقيطاً؛ أى بلا واقع تاريخى مادى محدد، وبالتالى يُمكن أن تمتد إليه يدُ السرقة الأدبية. غير أنَّ المصطلح يرتبط بجدل المجتمع والدولة فى صيرورة مادية ديالكتيكية وتاريخية فى الواقع السودانى غايتها المواطنة والحرية والديموقراطية (عزمى بشارة 2012).

والثانى: تجيير أيديولوجيا أهل اليمين وأهل اليسار معاً للمصطلح ليخدم أغراض أيديولوجية تسئ فهم دلالة المصطلح التى عناها مُوجِدُهُ. فاليسار صار يرى فى مصطلح الدولة المدنية مخرجاً من لعنة الإلحاد التى تلازم علمانيته. وبالتالى فإن مصطلح الدولة المدنية قد يُساهم فى زيادة عضويتهم فى مجتمعات أغلبيتها متدينة. أما اليمين فيتوارى بالدولة المدنية من أيديولوجيته المتهافتة “الإسلام هو الحل”، والتى أفرغتها الممارسة الفعلية للإسلام السياسى فى السودان ومصر وغيرهما من معناها.

وسوف نرى فيما سيأتى إنْ شاء الله، بأنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد لم يكن يضع نصب عينيه هذه التُّقية الأيديولوجية النَّزِقَة حينما تكلَّمَ عن الدولة المدنية، بل كان يعنيه إيجاد حل لمأزق أمته التاريخى المتعلق بإهدار حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وضياع الديموقراطية والحريات العامة وإعاقة التنمية لثلاث مرات فى: 1958، 1969، و1989، فابتكر لذلك مصطلح الدولة المدنية، وهو ابتكار له حجته المعرفية والعملية كما سنرى بمشيئة الله.

الخلفية السوسيوسياسية لولادة الدولة المدنية فى فِكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد

هناك العديد من الأسباب فى الواقع السودانى التى تشكل دافعاً مهماً لكلِّ سياسى سودانى جاد فى البحث فكرياً عن مخرج يعالج قضايا المشكل السودانى، وما أكثرها. ولم يذهل المفكر نُقُد بِنُقُد السياسى عن مشاكل السودان التى أصبحت معقدة بعد الإستقلال، وصارت أكثر تعقيداً منذ ظهور الجبهة الإسلامية القومية فى الأرينة السياسية السودانية. كما أنَّ الفكر اليومى لم يَلْهِ المفكر نقد عن الفكر المُنْتِج للمعرفة الذى يضع حلولاً مستدامة لقضايا السودان، وقد نظر الرجلُ ثاقباً فى بعض القضايا الإجتماعية السياسية التى شكَّلتْ وعيه باتجاه الدولة المدنية، ومنها:

1- فشل النخب السودانية فى إيجاد حلول لمشاكل السودان المصيرية (التنمية، الهوية، فصل الدين عن الدولة، تقرير المصير، كيفية الحكم فى السودان، وغيرها) عن طريق منظور الدولة العلمانية (بواكير النظام المايوى) والدولة الدينية (نظام الإنقاذ حالياً). وبالتالى كان هذا الواقع أكثراً تذكيراً للحادبين، من أمثال المفكر محمد إبراهيم نقد، على مصلحة هذا الوطن من أن يبتدعوا حلولاً مستدامةً لهذه القضايا.

2- المفكر نُقُد على علم بأنَّ السلوك المدنى والحال المدنى، لم يَقُدْ إلى الدولة المدنية فى المجتمعات الغربية، وذلك ببساطة لأنَّ العلمانية أغنتهم عن ذلك؛ أى وفَّرت لهم حقوق المواطنة والحرية والديموقراطية دون المساس بعقائدهم الدينية؛ وتلك هى غايات أى مجتمع مدنى. ولكن بالرغم من أنَّ مجتمعنا السودانى على وجه الخصوص (والشرقى عموماً) غنىٌّ بالسلوك المدنى/السلوك الأهلى، لكنَّه ماانفكَّ، لعقود مضت، عاجزاً عن خلق وضع مدنى/مجتمع مدنى يفضى للمواطنة والديموقراطية لتخوُّفِهِ من أنَّ العلمانية التى أذبلت الدين فى الغرب، من الممكن أنْ تُذْبِلَه فى السودان (فى الشرق). وبالتالى هذه العلمانية كثيراً ما يتم تصورها بواسطة الأيديولوجيا الدينية على أنَّها أداة غربية لمحاربة معتقدات النَّاس.

هذا الأمر إضطرَّ الغرب لاستزراع العقيدة المدنية وسط القوى الحية فى بعض المجتمعات العربية إختباراً، خاصةً فى مناطق شمال افريقيا وأنفقت على ذلك أكثر من 5 مليار دولار، وهذا الإختبار للأسف لم يشمل السودان لعوامل كثيرة معلومة لصانعى القرار الغربى (د. الصديق عبد الباقى 2011). وبالطبع كان الغرض من كلِّ ذلك هو تثوير التشكل الرأسمالى فى هذه المنطقة ليواكب رأسمالية ما بعد الحداثة.

غير أنَّ ذلك لم يفضِ بعد إلى دولة المواطنة والديموقراطية أى إلى العلمانية؛ فالقوى الرجعية مازالت متمسكة بالسلطة وتحارب كافة محاولات التغيير (باستثناء تونس إلى حدٍ ما، والتى مُنِحَتْ نوبل للسلام من أجل هذا الصنيع). وبإنغلاق الأفق على دولة المواطنة والديموقراطية، كان لابد من البحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخى الذى كان ومازال أكثر إحتداماً فى السودان؛ فكانت الدولة المدنية.

3- لم يكن العرب عبر تاريخهم المجيد ذوى إهتمام بالفكر إذا ما قارنا ذلك بإهتمامهم بالسلطان، وبالتالى كانوا أكثر ما يُعالجون قضاياهم بالسياسة لا بالفكر. ولا عجب إذاً، أن نجد أنَّ معظم الذين أضافوا للفكر العربى والإسلامى فى السابق هم وافدون من أطراف الدولة/الإمبراطورية الإسلامية إلى جزيرة العرب، لا سيما الروّاة الستة الأشهر من رواة الحديث على سبيل النذر لا الحصر. كما أنَّ كل محاولات المُفكرين المُحدثين الذين أَثْرَوْا المدرسة الفكرية بالحديث عن الدين والدولة (محمد عابد الجابرى) ونَقْد الدولة الطائفية (مهدى عامل) والدولة فى التاريخ المعاصر وفى محيط أزماتها الراهنة (سمير أمين) وغيرها، لم تتجاوز رؤاهم الفكرية المطلب الغربى فى خلق مجتمع مدنى؛ وبالتالى هى الاخرى لم تنفذ إلى مطلب الدولة المدنية كما نفذ إليه المفكر محمد إبراهيم نقد.

4- نشأت فكرة الدولة المدنية عند المفكرمحمد إبراهيم نقد من واقع محك عملى غير متوفر للكثير من الدول العربية أبّان فترة الديموقراطية الثالثة (1985- 1989). وهذا المحك هو الديموقراطية نفسها، وتحديداً حين أحكمت الجبهة الإسلامية القومية خناقها على رئيس وزراء السودان الأسبق السيد الصادق المهدى وإرغامه على توسيع حكومته لتشمل الجبهة الإسلامية القومية بقوانينها السبتمبرية الشهيرة، فكان أنْ أعلن الصادق حكومة الوفاق فى عام 1988.

ولتجنيب البلد متاهات الدولة الثيوقراطية التى تحمل الجبهة الإسلامية القومية جرثومتها من الديانتين الإسلامية والمسيحية البروتستانتية الكالفينية، عرض المفكر محمد إبراهيم نقد مفهوم دولته المدنية لأول مرة فى ذلك العام (1988) “خلال المشاورات التي أجراها مجلس رأس الدولة مع الكتل البرلمانية” بغرض التوسيع المذكور بعاليه.

5- كان للأُستاذ المفكر محمد إبراهيم نقد رأى فى العلمانية الإلحادية؛ علمانية الإتحاد السُفياتى القُحَّة، لما تنطوى عليه من مفهوم لقمع الحريات وبالأخص الحريات الدينية، وكان هناك تخوُّف بالمقابل من أنْ تستغل الجبهة الإسلامية القومية هذا المفهوم وتُروَّج له أيديولوجياً لتصادر الديموقراطية والحريات العامة بموجبِهِ (وللأسف قد كان).

ولعلَّ سقوط الإتحاد السوفياتى عام 1989م قد أفردَ مناخاً معافىً ليتخلص العالم من وِزر الأيديولوجيا الثقيل، وبالتالى إنهار المفهوم العلمانى الصِّرف بكل تناقضاته، فنأى المفكر نقد بنفسهِ عن العلمانية المُقيِّدة للحريات فى كتاباته اللاحقة بشكل صريح (محمد إبراهيم نقد، حوار حول الدولة المدنية، 2012)، ونأى كذلك عن العلمانية المتبنِّية للأديان كعلمانية إنجلترا (راجع أنواع العلمانية أعلاه)، وانتهى الأمر بالمفكر نقد إلى التركيز على الممارسة الديموقراطية والحريات العامة والتى تُغذِّى مفاهيم الثورة الوطنية الديموقراطية بشكل مباشر؛ والثورة الوطنية الديموقراطية هى السياق المعرفى للدولة المدنية.

6- لقد كانت البلد أبَّان فترة الديمقراطية الثالثة (أعادها اللهُ على الجميع باليمن والبركات) مشحونة بحالة من الإستقطاب الأيديولوجى الحاد بين خيارات الدولة العلمانية والدولة الدينية، وكلاهما لا يخلو من المحاذير التى يتخوف منها المفكر نقد كما جاء بعاليه. وقد تجلى هذا الإستقطاب فى رغبة الكثيرين فى إلغاء قوانين سبتمبر 1983، الذى ناحرته الجبهة الإسلامية القومية فى حكومة الوفاق بقوانين بديلة.

هذا الإستقطاب الحاد (الذى قاد إلى إنقلاب الجبهة الإسلامية فيما بعد) هو الذى ألهم مُفكرنا نقد، فى إطار بحثه الدؤوب لِإيجاد حل لمشاكل السودان، لابتداع الدولة المدنية. وهذه الدولة المدنية ليست وليدة الفكر اليومى كما أسلفنا، ولكنها ترقد بشكل جنينى فى رحم أدبيات الماركسية السودانية خاصة فى حديثها عن الماركسية وقضايا الثورة الوطنية الديموقراطية، ورؤيتها عن النقابات كمنظمات مجتمع مدنى. كما توجد تجليات لهذه الدولة المدنية فى كثير من القوانين السودانية الشرعية والمدنية (القانون المدنى وقانون المعاملات المدنية)، وغيرها من القوانين التى تنظم العمل الطوعى ومنظومات المجتمع المدنى.

وبالتالى إلتقاط هذا المفهوم من قِبَل المفكر محمد إبراهيم نقد وإضافته لقاموس الفكر السودانى والعالمى ليس مستمدَّاً من أىِّ حالة من حالات النزق السياسى، ولكنَّه نابع من وعى عميق بمسطورات التاريخ وحيثيات تشكل واقعنا السودانى؛ وبالتالى المفردة ليست وافدة.

7- لعلَّ مفهوم الدولة المدنية قد إستند على الفكر الحر والتفكير الحر الذى كان يوجِّه المعارضة الديموقراطية فى برلمان 1986، والذى كان يقوده المفكر محمد إبراهيم نقد بنفسه من داخل ذلك البرلمان. وذلك الفكر الحر لم يكن ينعم بالحرية فى أىِّ دولة من دول المحيط العربى ولا الأفريقى فى ذلك الوقت، وقد كان يعمل تحت سطوة السياسى.

وحتى فى الوقت الذى إنعدمت فيه الحرية فى السودان بمجئ الإنقاذ للسلطة، ظلَّ الحزب الشيوعى السودانى يبشِّر بالدولة المدنية عن طريق عضويته فى المعارضة السودانية فى الخارج، المتمثلة فى التجمع الوطنى الديموقراطى، بعد إنقلاب الإنقاذ فى عام 1989؛ الذى تبنِّى مضامين الدولة المدنية وضمنها فى دستور السودانى الإنتقالى الذى إنعقد بصدده التجمع الوطنى الديموقراطى فى 26 يناير ? 3 مارس 1992 بمدينة لندن.

وقد كان أمر هذه الدولة المدنية أكثر وضوحاً فى إعلان نيروبى الذى إنعقد فى 17 أبريل 1993 حول علاقة الدين بالدولة، وأكثر دقةً فى مؤتمر القضايا المصيرية الذى إنعقد بأسمرا فى يونيه 1995. وعن طريق هذ الفعاليات بُذلت الدولة المدنية لمحيطنا الأفريقى والعربى والعالمى قبل أن يصدُر بشأنها كتاب السيد محمد إبراهيم نقد “حوار حول الدولة المدنية” فى عام 2012.

ليس هذا وحسب، بل أنَّ التجمع الوطنى الديموقراطى المعارض قد استمع فى عام 1999 لورقة الحزب الشيوعى السودانى “قضايا إستراتيجية” المقدمة من عضويته فى الشتات والتى تحدثتْ عن: “فصل الدين عن الدولة المتأسِّس على التسامح والإحترام للمعتقد الدينى الذى ينتهى بالأمة للمساواة فى المواطنة؛ حيث لا تخضع المعتقدات لمعيار الأغلبية والأقلية، وأنَّ الدين يشكل مكوناً من مكونات فكر ووجدان الشعب السودانى، ومن ثمَّ رَفْض كل دعوة تنسخ أو تستصغر دور الدين فى حياة الفرد.

وعلى خلفية هذا الواقع الموضوعى وتأسيساً عليه تستند الديموقراطية السياسية السودانية فى علاقتها بالدين على مبادئ النظام السياسى المدنى التعددى، والتى تشكل فى الوقت نفسه فهمنا لمعنى العلمانية. فمصطلح النظام المدنى أقرب لواقعنا من مصطلح النظام العلمانى ذى الدلالات الأكثر إرتباطاً بالتجربة الأوروبية. وبالتالى طرح الحزب الشيوعى السودانى للدولة المدنية يرتكز على أسبقية الديموقراطية والتأكيد على أنَّ العلمانية ليست بالضرورة ديموقراطية (مثال دولة ستالين، موسيلينى، وبونيشيه)، وكذلك الدولة الدينية” (الشريف، سودانيزاونلاين/ محمد إبراهيم نقد، مجلة البيان 28 أغسطس 2002).

هذه هى منطلقات الدولة المدنية فى فكر الأستاذ محمد إبراهيم نقد، التى منبعها التجربة الفكرية الثَّرَّة، وحيثيات الصراع الإقتصادى الإجتماعى فى السودان. وفى هذا الأثناء، كانت كل الدول العربية من حولنا ممنوعة من التفكير الحر، والسياسة ? لا الفكر ? هى من يوجه صراعاتها. ونتمنى من الذين يَدَّعون بولادة هذا المصطلح خارج البيئة السودانية أن يأتوا بِبُرهانهم.

إرث أهل السودان من الدولة المدنية

لقد رأينا بعاليه أنَّ الدولة المدنية دولة سودانية خالصة وأنَّ المرحوم المفكر محمد إبراهيم نقد هو مبتدع هذا المصطلح، ولن نُكرِّر ذلك هنا. غير أنِّى هنا بصدد البحث عن تناص فكرة الدولة المدنية مع بعض الآراء السودانية المطروحة عبر التاريخ، لا سيما أنَّ المرحوم نقد قارئ نهم ومطلع على دقائق التاريخ؛ وقديماً قال أبو البنيويةِ إبنُ عمتنا عنتر بن شدَّاد الكوشى: “هل غادر الشعراءُ من مُتَرَدَّم”. فمثلاً:

1- أشك فى أنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد قد ابتدع دولته المدنية دون أن يمر بمنحوتة الأمير خاليوت بن بعانخى التى كُتبت قبل آلاف السنين قبل الميلاد، والتى تقول:

(إنَّنى لا أكذب، ولا أعتدى على ملكية غيرى، ولا أرتكب الخطيئة، وقلبى ينفطر لمعاناة الفقراء، إنَّنى لا أقتل شخصاً دون جرمٍ يستحق القتل، ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعى، ولا أدفع بخادم استجارنى إلى صاحبه، ولا أُعاشر إمرأة متزوجة، ولا أنطقُ بحكم دون سند، ولا أنصب الشراك للطيور المقدسة “أو أقتلُ حيواناُ” مقدساً، إننى لا أعتدى على ممتلكات المعبد – الدولة، أُقدمُ العطايا للمعبد، إنَّنى أُقدم الخبز للجياع، والماء للعطشى، والملبس للعُرى. أفعلُ هذا فى الحياة الدنيا وأسير فى طريق الخالق، مبتعداً عن كلِّ ما يغضب المعبود، لكى أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدى فى هذه الدنيا وإلى الذين يخلُفُونهم وإلى الأبد).

ويقول الأستاذ أحمد طه عن هذه المنحوتة: “إذا استبعدنا طيوره وحيواناته المقدسه.. يصلح هذا النص لنا نحن أحفاده وللإنسانية جمعاء (دستوراً) لتأصيل القيم والاخلاق صاغه ملكاً بيده السلطه والقوه ولكنه كان رحيماً بشعبه” (أحمد طه، جبل البركل، وشامخات النخل والمهيرة، الراكوبة 24/12/2014).

وعن ذات المنحوتة يقول الأستاذ صلاح هاشم السعيد عن جزئية “ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي”: “أنَّ ما قاله هنا “في هذه الجملة تحديداً” يدل على وجود دولة مدنية مؤسسية بأنظمتها الإدارية والعدلية ـ بدليل إمكانية خرقها ـ على افتراض وجود أداء شرعي وآخر غير شرعي ـ” (صلاح هاشم السعيد، موقع البركل، 14/10/2009).

وعلى العموم أقل ما يمكن قوله عن منحوتة خاليوت بن بعانخى الذى كان زاهداً فى السياسة أنَّها قسمٌ كوشىٌّ عاكس لدولة راسخة القدم فى المؤسسية، والكفاية والعدل، والقضاء الشفاف، والتوحيد والقيم الرفيعة. إذاً، فهى دولة مواطنة، خاصةً إذا علمنا أنَّها دولة سابقة لنزول الأديان (قبل 7000 سنة قبل الميلاد كما ذكر ذلك أحمد طه).

نعم قد إختطَّ لنا جدنا خاليوت بن بعانخى، نحن الأحفاد، طريقاً معبدةً بتلك القيم والأخلاق والمؤسسات إلى الأبد، والمفكر محمد إبراهيم نقد ليس بِدعاً من أحفاد خاليوت البررة، فهو متشبِّع بتلك القيم. أمَّا من حادوا عنها، فحُقَّ لنا أن نسأل من أين أتى هؤلاء!

2- إنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد يعلم علم اليقين بأيقونة الأستاذ المفكر الشهيد محمود محمد طه – وهذا الشبلُ من ذاك الأسد البعناخوى ? القائلة: “الحُرِّيَّة لنا ولِسِوانا”. وهذا القول الباسق الشاهق إذا تمَّ تفكيك كبسولته وتمَّ تنزيله على أرض الواقع، فلن تستوعبه بالطبع الدولة الدينية لأنَّها عدوة الحرية، ولا الدولة العلمانية الإلحادية (ولو مؤقتاً) لأَنَّها ضد كل ما هو دينى؛ ولكن فقط يستوعبه سياق الدولة المدنية.

لكلِّ هذه الأسباب السوسيوسياسية والسوسيوثقافية فإنَّ السودان يُشكِّل بيئة خصبة لنشوء الدولة المدنية، وذلك بما لديه من إرث تاريخى فى هذا الشأن، وبما لديه من مفكرين شُجعان بذلوا النَّفْسَ والنفيس فداءاً لفكرهم.

خاتمة

تتعلق هذه الخاتمة بالسؤال الراتب وهو: إذا كانت معتقدات النَّاس ? حسب ما يقول الحزب الشيوعى السودانى – لا تخضع لمعيار الأغلبية والأقلية (وهذا فوت فكرى للحزب الشيوعى السودانى على الأحزاب الأخرى التى تنادى بديموقراطية الأغلبية)، فإنَّ الحزب الشيوعى السودانى لم يُخبرنا عن المخرج المدنى الديموقراطى لمناداة الأغلبية أوالأقلية بتطبيق شرائعهم عليهم. فمثلاً، أين تذهب حقوق الأقليات إذا كان الناطق الرسمى للحزب الشيوعى السودانى السيد يوسف حسين يقول: “إذا جاءتنا الشريعة الإسلامية بالديموقراطية فسنقبل بتطبيقها”.

وهذا يعنى أنَّ بعض الأقليات ستقبل بهذا التطبيق كَرْهاً فى حالة فوز الأغلبية المسلمة بالإنتخابات. وإذا بعد أربعَ سنوات خسِرَ دعاة الشريعة مقعدهم، هل سنمنع تطبيق الشريعة على من أراد أن يُطبقها على نفسه لأنَّ أقلية علمانية أو مدنية فازت بالسلطة؟ كيف العمل إزاء هذه القضية التى لا تقبل بأى تعسف فكرى أو سياسى كما يشير الحزب الشيوعى السودانى نفسه.

تعليق واحد

  1. لم يرد فى كتابك اى تعريف لمعنى الدوله المدنيه وظللت تردد ان هذا المصطلح اتى به نقد واحنا الان لا نعرف ماذا تقصد بالدوله المدنيه بعد الكلام الكتير ده

  2. قال كاتب المقال : ((إنَّ المفكر محمد إبراهيم نقد يعلم علم اليقين بأيقونة الأستاذ المفكر الشهيد محمود محمد طه – وهذا الشبلُ من ذاك الأسد البعناخوى ? القائلة: “الحُرِّيَّة لنا ولِسِوانا”. وهذا القول الباسق الشاهق إذا تمَّ تفكيك كبسولته وتمَّ تنزيله على أرض الواقع، فلن تستوعبه بالطبع الدولة الدينية لأنَّها عدوة الحرية، ولا الدولة العلمانية الإلحادية (ولو مؤقتاً) لأَنَّها ضد كل ما هو دينى؛ ولكن فقط يستوعبه سياق الدولة المدنية.))

    تعليق:
    1.اذا كانت دولتك المدنية ليست دينية و لا علمانية الحادية فهي اذا دولة علمانية بالمعنى الغربي المعاصر لأن العلمانية المعاصرة تفصل الدين عن الدولة و لا تتدخل في معتقد الفرد او حياته الشخصية ( هذا من الناحية العامة نظريا)
    المطلوب الدقة عند استخدام المصطلحات و الا اصبح الامر قصيدة عاطفية تمتزج فيها الحقيقة بالخيال!

    2.الم يلاحظ الكاتب ان عبارة لنا و لسوانا تعني ان قائلها يعتبر المجتمع المعني مقسم عرقيا او دينيا و بالتالي فهو غير مدني ؟!!!
    3. يبدو ان الكاتب من مدرسة محمود محمد طه حيث ان تقدسه للرجل جعله ينسي ان محمود محمد طه اعتمد على الدين و لكن مع تحريف للاسلام للوصول الى هدفه و بالتالي فانه بالرغم من ان محمود طه منحرف عن دين الاسلام فهو من وجهة نظر علمية رجل ديني متعاطف مع العلمانية, حيث ان الدين عند العلمانيين ليس شرطا ان يكون الاسلام , بل ليس شرطا ان يكون دينا سماويا

  3. يقول كاتب المقال ((وفوق ذلك فإنَّ الغربَ لا يعرف مصطلح الدولة المدنية، ويعتبره مصطلحاً شرقياً. ونحن هنا نؤكد بأنَّ مصطلح الدولة المدنية، كمقابل لمصطلحى الدولة الدينية والدولة العلمانية، هو مصطلحٌ سودانىُّ الجنسية وأبوه (The father founder) هو المفكر الجليل محمد إبراهيم نقد رحمه ))

    كلمة المدني او المدنية بمعنى غير ديني معروفة عند الغرب منذ ازمنة بعيدة و في الحقيقة فان الشرق او العرب هم الذين اخذوا هذا المعنى من الغرب , مثلا في اللغة العربية نجد ان كلمة مدني تعني غير بدوي او متحضر و من الامثلة على ان الفكر الغربي استخدم مصطلح مدني بمعنى غير ديني ما يلي:
    1.ذكر ميكافيللي في كتابه الامير عنوانا للباب التاسع هو الامارات المدنية. طبعا كلمة امارة تعني دولة

    2.قال جون لوك : ( ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمورالدنيوية ).

    3. مصطلح الحقوق المدنية معروف في الغرب و بالذات في الولايات المتحدة حيث انه استعمل بكثرة هناك قبل محمود طه استاذ محمد ابراهيم نقد
    4. في كليات الحقوق في الجامعات حتى عندنا في السودان يوجد ما يسمى بالقانون المدني في مقابل الشرعي و مصطلح القانون المدني مأخوذ من الغرب

  4. الدولة المدنية
    ظهرت فكرة الدولة المدنية عبر محاولات فلاسفة التنوير تهيئة الأرض ــ فكريا ــ لنشأة دولة حديثة تقوم على مبادئ المساواة وترعى الحقوق، وتنطلق من قيم أخلاقية فى الحكم والسيادة.. ولقد تبلورت فكرة الدولة المدنية عبر إسهامات لاحقة ومتعددة من مصادر مختلفة فى العلوم الاجتماعية.
    ولكى يبلور المفكرون طبيعة الدولة الجديدة لجأوا إلى تصوير حالة الطبيعة التى تقوم على الفوضى وعلى طغيان الأقوى. فهذه الحالة تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة ؛ فتفقد الروح المدنية التى تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك. إن تأسيس الدولة المدنية هو الكفيل بسيادة هذه الروح التى تمنع الناس من الاعتداء على بعضهم البعض من خلال تأسيس أجهزة سياسية وقانونية خارجة عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم شئون التعاقد، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم وانتماءاتهم.
    وتمثل الدولة إرادة المجتمع.
    يعنى ذلك أن فكرة الدولة المدنية تنبع من إجماع الأمة ومن إرادتها المشتركة.
    وإذ تتأسس الدولة المدنية على هذا النحو فإنها تصبح دولة توصف بأوصاف كثيرة من أولها أنها دولة قانون.
    فالدولة المدنية تعرف على أنها اتحاد من أفراد يعيشون فى مجتمع يخضع لنظام من القوانين، مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل. فمن الشروط الأساسية فى قيام الدولة المدنية ألا يخضع أى فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فثمة دائما سلطة عليا ـ هى سلطة الدولة ـ يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك.
    هذه السلطة هى التى تطبق القانون وتحفظ الحقوق لكل الأطراف، وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم. ومن ثم فإنها تجعل من القانون أداة تقف فوق الأفراد جميعا.
    ومن خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام مدنى من العلاقات التى تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، والثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. إن هذه القيم هى التى تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق؛ أى وجود حد أدنى من القواعد التى تشكل خطوطا حمراء لا يجب تجاوزها، على رأسها احترام القانون (وهو يشكل القواعد المكتوبة). وتأتى بعده قواعد عرفية عديدة غير مكتوبة تشكل بنية الحياة اليومية للناس، تحدد لهم صور التبادل القائم على النظام لا الفوضى، وعلى السلام لا العنف، وعلى العيش المشترك لا العيش الفردى ،وعلى القيم الإنسانية العامة لا على القيم الفردية أو النزعات المتطرفة.
    ومن ثم فإن الدولة المدنية لا تستقيم ألا بشرط ثالث هو المواطنة. ويتعلق هذا الشرط بتعريف الفرد الذى يعيش على أرض هذه الدولة. فهذا الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته, وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أى أنه عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. فإذا كان القانون يؤسس فى الدولة المدنية قيمة العدل، وإذا كانت الثقافة المدنية تؤسس فيها قيمة السلام الاجتماعى، فإن المواطنة تؤسس فى الدولة المدنية قيمة المساواة.
    فالمواطنون يتساوون أمام القانون ولكل منهم حقوق وعليه التزامات تجاه المجتمع الذى يعيشون فيه.
    والمواطنون هنا لا يجب أن يعيشوا كمواطنين لا مبالين، بل يجب أن يكون جلهم من المواطنين النشطاء الذين يعرفون حقوقهم وواجباتهم جيدا، ويشاركون مشاركة فعالة فى تحسين أحوال مجتمعهم بحيث يرقون بمدنيتهم على نحو دائم، ويخلصون إخلاصا كبيرا لكل ما هو «عام»: الصالح العام، والملكية العامة، والمبادئ العامة. فهم يحرصون دائما على كل ما يتصل بالخير العام.
    ومن ثم، فإن الدولة المدنية لها خصيصة رابعة مهمة وهى الديمقراطية. فالديمقراطية هى التى تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية. إن الديمقراطية هى وسيلة الدولة المدنية لتحقيق الاتفاق العام والصالح العام للمجتمع كما أنها وسيلتها للحكم العقلانى الرشيد وتفويض السلطة وانتقالها. إن الديمقراطية تتيح الفرصة للتنافس الحر الخلاق بين الأفكار السياسية المختلفة، وما ينبثق عنها من برامج وسياسات. ويكون الهدف النهائى للتنافس تحقيق المصلحة العليا للمجتمع (إدارة المجتمع والسياسات العامة بأقصى درجات الدقة والإحكام والشفافية والأداء الإدارى المتميز النزيه) والحكم النهائى فى هذا التنافس هو الشعب الذى يشارك فى انتخابات عامة لاختيار القيادات ونواب الشعب، لا بصفتهم الشخصية وإنما بحكم ما يطرحونه من برامج وسياسات.
    إن الديمقراطية هى الوسيلة التى تلتئم من خلالها الأفكار المختلفة والتوجهات السياسية المختلفة، للارتقاء الدائم بالمجتمع وتحسين ظروف المعيشة فيه، وكذلك الارتقاء بنوعية الثقافة الحاكمة لعلاقات الأفراد وتفاعلاتهم.
    بمعنى مختصر إنها الطريق نحو التقدم الدائم.
    ولا تتحقق الديمقراطية ألا بقدرة الدولة المدنية على تطوير مجال عام أو ميدان عام، وهو مصطلح يطلق على مجال النقاش والتداول العام الذى يحقق التواصل الاجتماعى بين الجماعات المختلفة والآراء المختلفة. ويضم المجال العام مجالات فرعية للنقاش والحوار، تبدأ من الصالونات الفكرية وتتدرج عبر الجمعيات الأهلية والمنتديات والمؤتمرات العامة وصولا إلى النقاشات التى تدور فى أروقة النقابات المهنية وجماعات الضغط والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية. وهذا الميدان العام يحافظ على استقلاله، بحيث يكون قادرا على طرح أفكاره على نحو موضوعى ومحايد.
    فالمجال العام هو الذى يلهم المجتمع الأساليب القويمة فى التفكير والتدبر العام والتواصل الجمعى. إنه يحول المناقشات المتفرقة إلى مناقشات تصب فى هدف عام، وتتم وفق قواعد وأصول عقلية بحيث لا يتحول النقاش إلى فوضى، طالما أنه يقوم على العقل والبصيرة والتدبر والقدرة على التفاوض وتقديم الحلول والمرونة فى الاستجابة لأفكار الأطراف الأخرى.
    ويتأسس المجال العام ـ بجانب عملية التدبر العقلى والتفاوض ـ على ما يطلق عليه الفعل التواصلى أو الاتصالى. إنه الفعل الذى يقوم على احترام أفعال الآخرين وأفكارهم، والاستجابة إليها على نحو عقلانى بحيث يتجه النقاش صوب المصلحة العامة دون إحداث صخب أو ضوضاء أو عنف أو تنافر أو تنابذ أو رفض.
    وأخيرا، فإن الدولة المدنية لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. إن الدين يظل فى الدولة المدنية عاملا أساسيا فى بناء الأخلاق وفى خلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. هذه وظيفة للدين أصيلة فى كل المجتمعات الحديثة الحرة.. ومن ثم فليس صحيحا أن الدولة المدنية تعادى الدين أو ترفضه. فالدين جزء لا يتجزأ من منظومة الحياة وهو الباعث على الأخلاق والاستقامة والالتزام، بل إنه عند البعض الباعث على العمل والإنجاز والنجاح فى الحياة. ينطبق ذلك على الإنسان فى حياته اليومية كما ينطبق على رجال السياسة بنفس القدر.
    إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية, فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذى تقوم عليه الدولة المدنية، فضلا عن أنه ــ وربما يكون هذا هو أهم هذه العوامل ــ يحول الدين إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة. من ثم فإن الدين فى الدولة المدنية ليس أداة للسياسة وتحقيق المصالح، ولكنه يظل فى حياة الناس الخاصة طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد فى حياتهم مبادئ الأخلاق وحب العمل وحب الوطن والالتزام الأخلاقى العام.
    وأخيرا، فإذا كانت هذه هى أركان الدولة المدنية فلا يصح أن نأخذ منها ركنا دون آخر، فهى أركان متكاملة متساندة، يدعم بعضها بعضا فى منظومة متكاملة تكاد تكون هى منظومة الحياة الحديثة
    نبيل شريف

  5. اشيد بالمقال و بالمداحلات التي تناولته وفي ذلك عصف فكري محمود و ارى ان مفهموم الدولة المدنية مفهوم حديث نسبيا قياسا على مفهوم الدولة الدينية و الدولة العلمانية وهو مفهوم وسطي و توفيقي فيما بينهما بنيويا و مفاهيميا و ادائيا حيث انه يؤسس و يؤصل لقيام الدولة و ادارتها على اساس علمي و عملي ديمقطراطي و لكنه بعيد من الدين في الوقت الذي ترعى فيه الدولة الاديان و تحفظ حقوق المتدينين وتستلهم القيم الدينية في ادائها العا بشكل ديمقراطي و على قدم المساواة على ضوء و في ظل سيادة حكم القانون النابع من والتابع لكل ما تقدم. وبغض النظر عن من هو مجترح او مقترح هذا الفهم او هذا المصطلح ، فهذه ليست القضية ، فمما لا شكل فيه إن المرحوم نقد قد انحاز له و كتب فيه و قدمه كمساهمة فكرية للتعامل مع معضلة فصل الدين عن الدولة او دمج الدين في الدولة وهي معضلة لم تكن موجودة و ما كان ينبغي لها ان تكون في بلد كالسودان و بسبب ذلك لم نحصل على دين ولا دولة بل مسخ مشوه اضاع علينا ديننا و دولتنا و ما زلنا نسير فيه دون علم ولا وعي و لا كتاب مبين والحل فيما ارى اعتماد الدولةالمدنية على النحو سالف الذكر من خلال ديمقراطية موجهة تناسب ظروف السودان السوسيوساسية و الجيوساسية على ضوء و اساس و بموجب دستور قاصد و موظف لتصميم و لخدمة و حماية هذه الدولة فكريا و بنيويا و ادائيا ولا ننسى تصميم ما يلزم ويناسب من آليات و اختيار من يلزم و يناسب من اشخاص لتصميم كل ذلك القيام به و لقيادة الدولة المدنية المرجوة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..