عبدالكريم الكابلى و ” عبدالعزيز جمال الدين ” و الأغنية اليتيمة .

بقلم : مهدى يوسف ابراهيم
كنت في منتصف الإيفاع الوجدانى ، طالبا في المرحلة الثانوية ، مفرود القامة و الحلم ، عندما استمعت إلى رائعة ” لو تصدق ” للمرة الأولى . كان الوقت نهارا وقتها ، و كانت المدينة تتقيأ عمالها الى الشوارع الجحيم عندما تدفقت مقدمة الأغنية عبر الأثير ، قادمة على صهوة راديو أسود صغير لتحولنى إلى ساحة لذكر مقدس . ذاك كان زمان الغناء الذى تحتسيه الأرواح ثملا ، لا زمان الأغنية الجسد التي تبتلعها عيوننا في اشتهاء جنسي غامر . كان “وردى ” حينها يجلد الزنازين بصوته . كان محمد الأمين يحول من كلمات شعرائه تراتيل . كان ” مصطفى سيد أحمد ” يتمرد على نصوص تكلست صورها زمنا ، أما البلابل فقد كانت كبابى الشاى التى تضعها كل أسرة سودانية أمامها ساعة ” المغربية ” . أذكر أننى كنت واقفا أقلب في صفحات كتاب ما ، حينما بدأت زخات اللحن تهطل في وسامة شاعرية ، مالئة مسام الغرفة الضيقة . جلست على كرسى خفيض حينما بدأ صوت الكابلى يتساقط كما حبات المطر على نافذة بيت ريفى . ثم بدأت الأغنية تتهادى في شرايينى كما يتهادى حصان فتى على دروب لينة حتى بلغت المقطع :
حتى الكلام لوجيتنا ما …………بنحكيهو بى نفس الحروف
كلماتنا تتفجر غزل ………… بين كل فاصلة تعيش ظروف
والشوق دوام يغري الخيال …………يسرح وبى حسنك يطوف
احلامنا تتناثر أمل …………في كل روضة تضوع قطوف
باغتتنى هذه الصورة كما يباغت الربيع ضفائر الربى البعيدة . كيف يزعم فنان ما أن الحروف التى يحادث بها حبيبته هى ليست نفس الحروف التى يتخاطب بها بقية الناس ؟؟ كيف يهرب عاشق من ذاكرة جمعية مهترئة الكلمات كما حذاء قديم ، ليعثر على لغة تخلق تفرده و خصوصيته مع حبيبته بل كيف تتناسل من عباءة صمته لغة هى نبض خاص و حرارة خاصة ؟ ثم كيف تعيش بين كل فاصلة حديث و أخرى ظروف مغايرة الظروف متجددة الملامح و الجرس ؟
غرقت فى دوامة الجمال فى المقطع أعلاه فهربت من رذاذ عبقريته الى أول النص :
أنا لو تصدق
يا شباب عمري المفتق
شلت كل الريد مشاعر حلوة نديانة و خصيبة
و اشتهيت يهلّ وعدك لي هناء و أفراح وطيبة
ما أجمل أن نصف حبيبا بأنه شباب العمر الذى يتفتق زهره في بواكيره . و ما أجمل أن نحمل كل العشق الذى في حنايانا و نهرول به صوب محبوبنا لأنه مدينة الاشتهاءات : اشتهاءات الطيبة و الأفراح و الهناء . غمرنى صهد المقطع السابق فتأرجحت على مرمر كلماته صوب آخر كما يتأرجح الطفل في حديقة عامة :
آه لو بتعرف
كيف تهش أشواقنا تهتف لى عيونك
كيف يلح الشوق و يسأل
و مع الآهة التى يطلقها الكابلى في تطريب عال تفتح مسارب الضياء أمامنا للتأمل ، يخضوضر عشب عند أقدام جبل جليل الصمت ، يتثاءب النيل مساءا و هو يودع الخرطوم بعد هدير يوم كامل ، تنعس نجمة ، تشهق وردة و تتراقص أضواء الكواكب في النهر القديم . هنا تتململ حبورا قارات الروح التى لم تصلها المراكب يوما ، تتمطى أسراب العصافير في فضاءاتها و تمتد السماوات دفاتر نكتب عليها ما يشاء لنا البوج من حنين :
و نحن من خلف المدى الفرقنا طول
لو بتعرف
نرسم الليل في البعاد جنة لقاء
نبني تعريشة حنان طول بدا
ونعانقو في اعماقنا باقات من مرح
تجعل صبانا الغالي زغرودة فرح
حينها نشد على يد الشاعر و هو يهتف أن المسافات و الغياب لا ينفيان صور الحبيب المرسومة في حواسنا ، نحس أننا – و نحن نستلقى على سرير الصمت في الليل – يمكن أن نتناول ريشة العشم و نرسم جنة لقاء حقيقية ، تعلوها تعريشة تضم عاشقين ، يتحول عمراهما الى زغرودة فرح تنطلق في ساحة عرس !!
لم تخلب نبضى عبقرية الكلمات فقط ، فلعبقرية الكابلى الموسيقية يد عظيمة فى تطريز هذه المفردات بجمال فريد . لقد وسد هذا الكبير كل حرف في الأغنية نمارق من نغم نضيد وثير آسر . ثم أتى صوته صهيلا هادرا من ضواحى الأغنية القصية ، قبل أن يتسربل بقطيفة وجد ناعمة ، و يهملج على شوارع الاغنية المطلة على ألف نيل شفيف . وهو بين كل مقطع و آخر يتمايل كما الحرير فى هذا العمل الفنى العظيم الذى يشبه أنثى مكتملة الجمال .
ظللت أبحث من وقتها عن شاعرها – عبدالعزيز جمال الدين- فلم أجد ما يشفى الغليل سوى انه عاش ردحا من الزمن فى ابو ظبى ? ثلاث عقود ? و أنه من مواليد امدرمان .
لكن من المؤكد أن عبدالعزيز خلد نفسه بهذا العمل
هى أغنية يتيمة ..لكنها تساوى دواوينا من الشعر الاصيل .
استمتعوا بها معى !!!
……………..
جدة
( [email][email protected][/email] )
يا سلام عليك .. انت انسان رائع جميل ، كل كلمة خطها يراعك فى هذا المقال تعكس صورة من الجمال والذوق الرفيع الذى يملأ نفوس أبائنا الذين شكلت وجدانهم وأحاسيسهم تلك الكلمات والألحان من ذاك العقد النضيد الذى ينتمى اليه الكابلى و عبدالعزيز جمال الدين .. لقد طفت بنا فى مقالك هذا فى عوالم من الصدق والجمال .
كلهم مبدعون، الشاعر و الملحن و المغني و كذلك من استدعى هذا الجمال في ظل الراكوبة، لك تحباتي
انت انسان رائع .. لقد طفت بنا فى عوالم من الصدق والجمال .
الله الله الله الله ……
ياسلام عليك يا اخ مهدي فعلا انه فن وغناء رصين من الصعب ان نجد مثله في هذا الزمان التحية للفنان المثقف الكابلي في امريكا والتحية للشاعر عبدالعزيز جمال الدين وهو موجود الان في السودان يسكن في مدينة بحري يا اخ مهدي .
بين كل فاصلة نعيش ظروف! هو إذاً كلام بحروف من اللسان بل عمل فعلي أي ليس من حروف ربما من عناق وماشابه، ولماذا لا يكون عبدالعزيز جمال الدين هذا هو الكابلي نفسه؟! هل سألت الكابلي؟
هكذا دوما هناك اناس مبدعون يحكون عن مبدعين يتسللون خلسة لانتزاعنا من وهدة الهموم ومحن الواقع السياسي والحياتي وغيرها
لله درك مهدي لا يغيب عن بالنا ابدا انك مسكون بالابداع نزعت منك نطفة قبل التشكل لتحيل نبضك من ثوان فارغة كفراغ واقعنا لتتحول الى شعلة فرح . اقرا ما شاء لك من شعر الرواد فانت تقراه بعيون لا تشبه عيون سائر البشر
لك امنياتي بتمام الصحة والعافية
الاستاذ عبد العزيز جمال الدين رجل متفرد عاصرته فترة من الزمن وكان قمة في الادب والظرف والاخوة الصادقة ولقد قطع مهجره منذ سنوات طويلة وهو في مدينة بحري الآن ….نسأل الله ان يعطيه الصحة والعافية
هذا هو الزمن الجميل وتتكامل الأدوار في جميع أركانه هذا هو السودان الحقيقي والان انحدر السودان جميعه الى الدرك السحيق بفعل هؤلاء المعتوهين الذين أفنوا البلاد والعباد
شكراً لك أستاذ مهدي وأن تحلق بنا في عوالم من الجمال والإبداع عبر تلك الأغنية العذبة (لو تصدق) .. فقد أجاء فيها وأبدع الشاعر الشاب (وقتها) عبد العزيز جمال الدين .. كما أجاد تلحينها وأدائها استاذنا كابلي..
أذكر أن (كابلي) قد ذكر في إحدي اللقاءات .. أظنها حلقة من (أيام لها إيقاع) بأنه كان يغني في إحدى الحفلات التي كان يقيمها طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم.. وفي إحدى وصلاته الغنائية .. أتاه شاباً نحيفاً حيياً مبشراً … ودس في يده (ورقة صغيرة) فوضعتها في جيبي .. يقول كابلي: وعندما وصلت إلى المنزل تذكرت تلك الورقة ففتحتها فوجدتها قصيدة (لو تصدق) وفي أسفلها اسم صاحبها (عبد العزيز جمال الدين ) ورقم تلفونه .. ومن فرط إعجابي الشديد بكلماتهااتصلت على الفور بالرقم التلفوني فجاءني رده .. فقلت له: (أحبك)……
التحية للأستاذ عبد العزيز جمال الدين وللعملاق كابلي ومتعهما الله بالصحة والعافية وحفظهما..
كابلي فنان مبدع لكنه للاسف لم يجد الاهتمام ولم يكرم من هؤلاء المجرمين . الا انهم يكرمون امثال سعاد الفاتح .. حسن عبدالوهاب الذين لم نعرف عنهم اي شئ قدموه للوطن
كل اصدقائى الذين مروا من هنا ، و تركوا عطرا وراءهم : عاطر شكرى و أجزله لكم ، و أنتم تقاسموننى التأمل فى قارورة العطر المسماة ( لو تصدق ) . أما كابلى فيظل قامة و هامة و إن امتد بيننا المحيط .
تحياتى لكم جميعا ..
مهدى يوسف ابراهيم عيسى
جدة
كل اصدقائى الذين مروا من هنا ، و تركوا عطرا وراءهم : عاطر شكرى و أجزله لكم ، و أنتم تقاسموننى التأمل فى قارورة العطر المسماة ( لو تصدق ) . أما كابلى فيظل قامة و هامة و إن امتد بيننا المحيط .
تحياتى لكم جميعا ..
مهدى يوسف ابراهيم عيسى
جدة