السادة في شارع القيادة

كانت ترتدي ثوباً ناصع البياض… إمرأة في أواخر الخمسينات من عمرها.. اختط الزمن على وجهها خطوطاً عميقة.. وأكسبها عزماًَ وتصميماً كان واضحاً في هتافها بأعلى صوت (حرية.. سلام وعدالة.. والثورة خيار الشعب).. الساعة الواحدة ظهراً.. الشمس على بعد نصف متر من الرأس.. العرق يتصبب من الجميع.. عندما صاح أحد الشباب (يا جماعة اقعدوا في الأرض).. جلست على الرصيف بالقرب منها.. قلت لها مشفقة: (الليلة التوب الأبيض حينتهي).. هزت رأسها وقالت: (ما كتير على الناس الماتت والأرواح الفقدناها).. فقدت القدرة على النطق.. إقشعر بدني وأحسست أنني صغيرة جداً لا يمكن رؤيتي بالعين المجردة.. توب شنو ولون أبيض شنو.. الناس بتموت.
عندما تحرك الموكب.. واهتزت الأرض بالهتاف.. واختلطت جماعات البشر ببعضها البعض.. فقدت للحظة من كانوا رفقتي.. تلفّت حولي في جميع الجهات ولم ألمح أحداً أعرفه.. لكن الخوف لم يساورني.. كانت الملامح حولي كلها سودانية مية المية (ديل أهلي).. وجدت نفسي أنساق مع الجموع.. حانت مني التفاتة إلى الخلف.. هالني منظر الموكب الذي امتد إلى ما لا نهاية.. مُدّ البصر.. قلت وكأنني أحادث نفسي بصوت عال (ما شاء الله.. شكلو فعلاً نحن مليون نفر).. ضحكت شابة صغيرة بجانبي :(لا يا خالتو.. نحن سبعين.. إنت نسيتي ولا شنو).. تعالت ضحكاتنا.. واصلنا السير.. وفقدت أثرها بعد ذلك فقد ابتلعتها الجموع الهادرة.
بلغ بي العطش مبلغاً.. تذكرت حينها السكري الذي لازمني مؤخراً.. وانتبهت إلى أنني لم أحمل معي أي قارورة مياه.. كان يوماً ساخناً بكل معنى الكلمة أحداثًا ودرجة حرارة.. مما جعل العطش يصيب الجميع.. واجتهد الشباب في توفير المياه.. لكن الطلب كان كبيراً.. من على البعد لمحته.. كان جندياً صغير السن.. يقف أمام البوابة.. ترددت لحظة ومن ثم قطعت الطريق إليه.. مددت له بقارورة المياه الفارغة قائلة (عليك الله يا ولدي ما تديني موية..) ابتسم في وجهي وأخذ القارورة قائلاً (جداً يا خالة).. شربت حتى ارتويت وكانت كلمة (خالة) في تلك اللحظة جميلة.. ولم يعد لها ذلك الأثر الذي يجعل الدم يغلي في عروقي..
تحت شجرة ظليلة.. اجتمعنا نحن مجموعة من النساء (الشابات).. وبدأ السمر.. قالت واحدة: (بتي كانت معاي بس ما عارفاها وين هسة).. يرن هاتف أخرى: (استودعناكم الله الذي لا تضيع ودائعه يا ولدي.. الله يغطي عليكم) تغلقه قائلة: (دا ولدي مع أصحابو قال وافقين في النفق).. أتت فتاة وطلبت منا صورة سترسلها إلى أمها لكي تشجعها على الخروج.. كلنا شاركنا في التسجيل وأرسلنا لها التحايا.. قلنا لها إن هذه الأيام هي أيام فارقة.. لا يمكن تكرارها.. هنا ستلتقي بأصدقاء المدرسة.. والجيران الرحلتي منهم قبل فترة.. والزملاء الذين باعدت بيننا وبينهم سبل الحياة.. هنا كل أطياف السودان تصنع التاريخ.. لا ترحمي نفسك من هذا المجد.. لا تتأخري في الانضمام للسادة.. في شارع القيادة.
الجريدة