الأستــــــاذ

بالأمس الموافق 18/2/2013م مرت الزكرى الأولى لوفاة والدى عليه شآبيب الرحمة والمغفرة، وحين يمتزج الخاص بالعام لا بد من أن يسمو أصحاب المكروه الخاص إلى مستوى ما يلازم عموم الناس من ألم وتبريح.
وعلى ذات النسق صادف يوم أمس الذكرى الأولى لرحيل سلطان الطرب السودانى وموسيقار إفريقيا الأول الأستاذ/ محمد وردى والذى تأبى قلمى أن يرثيه ? وقتئذ- لتزامن الفجع الخاص مع العام ، وللمفارقة كان يوم أمس أيضاً مصادفاً لمرور الذكرى الرابعة لوفاة أديبنا العالمى الطيب صالح، ولأن الحجود صار من ضمن الأزمات الإخلاقية فى زماننا البائس هذا فقد تقاصرت معظم وسائل الإعلام عن تنظيم ما يفيد إحياء ذكرى الأيقونتين (وردى وصالح) هذا إذا إستثنينا قناة النيل الأزرق وصحيفة الأهرام اليوم وقليل من الصحف الأخرى فيما يتعلق بوردى.
أما الطيب صالح فمنذ وفاته وحتى الآن كان إصدقاؤه والمقربين منه هم من يسعون سعياً حثيثاً لتأبينه وإقامة المناسبات التى تخلد إسمه، أما دولة الخلافة الراشدة فلم تستطيع أن تمن عليه إلا بإطلاق إسمه على شارع فرعى فى الخرطوم وبدون أدنى ذرة من الخجل قامت بعملية أشبه بالقص واللزق حينما نزعت عن الشارع مسماه القديم (أوماك) وكأنها بذلك لا زالت تدمن لعبة المراهنة على الزاكرة الخربة للشعب السودانى وإن فات عليها أن تلك الزاكرة قد تكون خربة فى أشياء معنية ولكنها لا يمكن أن تستبدل مثلا كلمة (كوبر) بـ (عمر المختار) أو ( أوماك) بـ ( الطيب صالح) ولا شارع (الستين) بـ (بشير النفيدى) ولا يمكن كذلك أن تننسى أن الأبناء اليافعين الموجودين داخل القصر المهورى هم أبناء( إبراهيم شمس الدين) وليسوا بأحفاد للحاجة (هدية) .
أما حبيبنا وردى فتلك حكاية تحتاج إلى مجلدات ورجل حكواتى كما الرحوم/ على المك ، فلا يمكن أن يرحل عن السودان والدنيا بإثرها رجل فى قامة وردى دون أن يتم رصد حياته لحظة بلحظة ، ووترا أثر وتر، ولحناً خلف لحن. فالرجل كان مجيداً لعمله وحرفته إلى حد الإدهاش والإمتاع لدرجة أن العاجزين عن عدم القدرة على إكمال السباق بنفس الوتيرة ظلوا على الدوام يرمونه بتهمة الغرور وما مكنَهم إحساسهم الكسيح أن يفرقوا ما بين الإعتداد بالنفس والثقة بها وعدم المجاملة فى العمل ? وبين ? النفخة الكاذبة ، هكذا كان وردى مبدئياً فى حياته، فعندما غنى لإنقلاب نوفمبر 1958 كان كذلك، وعندما تظاهر ضده إبان ترحيل أهالى حلفا لم يخجل من نفسه ولم يوارى (عوده) الذى عزف به على أوتار النظام بل إستخدم نفس العود للتظاهر ضده مما أدى لإعتقاله وبقاءه رهن المحبس، ذات المبدئية لازمته فى غناءه لثورة أكتوبر وإنقلاب مايو الذى وجد هوى فى نفسه لتطابق مبادئه الإشتراكية والثورية مع المبادى التى نادى بها فتيان الإنقلاب ، وعندما حادوا عن الطريق أخرج لهم ذات السلاح ( الوترى) للتصدى لصلفهم مما جعله يشير إليهم بأصبعه فى المسرح القومى حينما كان يغنى ( وآسفاى) وذلك لحظة وصله إلى المقطع: ( من ذى ديل وآسفاى)!! كان لا بد من إعتقال الفتى (محمد) حين إجهض إنقلاب يوليو 1971 يومها أبت الجرأة أن تفارق (الفتى) حين طلب من سجانه أن يحضر له العود ليشغل به نفسه من سأم المعتقل الشى الذى أدهش الجلاوذة آنذاك مستنكرين عليه مطلبه إذ لم يكن للرجل سلاح يعتقل بشأنه سوى العود، فلا مسدس ولا دبابة ولا طائرات نفاثة . ورغم ذلك هل إستكان؟! أبداً طالما كان محجوب (الشريف) متلازماً معه داخل أسوار المعتقل، فبالكبريت والدق على الأوعية الفارغة أخرج أفضل الأعمال والألحان ومن ضمنها خريدته (أرحل).
وعندما جاءت إنتفاضة 1985 كان الفرعون فارسها الأوحد (وزريابها) فألهب مشاعر الناس بجميل المعزوف والملفوظ من لحن وكلم.
الميزة الأساسية التى رفعت وردى مكاناً علياً هى الذكاء، أى والله، ذكاء فنى وإجتماعى ومسرحى، فالرجل كان يعرف فن الإختيار وهذا ضرب من ضروب الذكاء ، فلم يحصر نفسه فى شاعر معين أو قالب أوحد أو وتيرة معينة، كان فناناً وموسيقاراً شاملاً، والذكاء أبى أن يفارقه حين عاد للوطن فى العام 2002، كثير من اليساريين عابوا عليه ذلك ومادروا أبداً أن عودة وردى كانت بمثابة ( قبلة الحياة) التى من خلالها أنعش (الأستاذ) قلوب السودانين التى أضنتها سنوات من الحكم اللئيم . فمن من الحاضرين ينسى أويتناسى إستقبال الفرعون فى مطار الخرطوم ، فقد كنت حضوراً وشاهداً على ذلك، شهدت الشيب والشباب، رأيت أبناء جيلى وأجيال سبقتنى وأطفال زغب حواصل ، ثم رأيت دموع (ود اللمين)!!!.
من منا يسلى الثلاثية الذهبية التى أقامتها شركة دال فى شهر يونيو 2002؟ كانت باحة معرض الخرطوم الدولى تتماثل أمامى ناظرى كما النيل، نعم جمع البشر الحاضرين كانوا كأنهم النيل بعظمته وكبريائه وتموجه.
ثلاث ليال هى الخط الفاصل بين الغث والسمين، وبين اللهو والجد، وبين الطرب الأصيل والأغانى الدكاكينية، كانت حداً فاصلاً بين الحياة والموت .
الذكاء الذى زين عقل ووجدان (الأستاذ ) هو ما جعله يقتحم الحياة ( الرئاسية) ويغنى للسلطان وزمرته….. يومها باتت الصورة التى تم إلتقاطها للرئيس وهو طربان مبشراً حديثا فى المجالس ما بين مندهش ومستنكر….. يومها أخرج الأستاذ من نفوس الحكام الصدأ الذى عماها من ترهات (قيقم وشنان) وجعل وجوههم تماثل وجوه عموم السودانيين حين يغمرها البشر!
هذا الأمر أدهش الأستاذ أيما إدهاش الشئ الذى جعله يطلق صيحته المشهورة : ( لو كنت عارف الكيزان بينطربوا كدا كنت جيت من زمان)! نعم يا عزيزى بنطربوا للغناء ويتذوقوا الأطعمة ويحبون مخادع النساء، لكن هذا خفاء لا جهراً وعلانية فهم لا يملكون وضوحك وتصالحك مع نفسك ولا يقدرون أن يكون صادقين مع أنفسهم ناهيك عن الناس. ولا يستطيعون أن يكونوا متسامحين كما كنت أنت معهم.
الشئ الذى لا يعرفه كل الناس أن وردى تعرض لإعتداء بدنى من قبل أفراد الأمن التابعين للنظام فى بداية عهدهم بينما كان عائدا للمنزله ليلاً الشى الذى جعله بعد ذلك يصطحب معه أحد معارفه فى أى مشوار آخر حتى غادر البلاد بعدها ورغم ذلك حين أتى قام بالغناء لهم! أو يوجد بعد هذا تسامح يفوق ما قام به الأستاذ؟
لم لا فبمثلما قام بطل رواية (موسم الهجرة للشمال) (مصطفى سعيد) بغزو إنجلترا عن طريق الجنس والذى كان سلاحه الوحيد قام وردى بغزو القصر الجمهورى أيضا بالسلاح الوحيد الذى يمتلكه والذى من أجله كابد وعانى مع الدكتاتوريات، غزاه بذات (العود) الذى ظنوه يوماً مدفعاً رشاشاً، هذا الغزو يضاهى فى عظمته وبهاءه غزو المهدى للخرطوم ويتفوق عليه حين صفق الإعداء لوردى وهم لا يدرون أنهم باركوا هزيمتهم فى عقر دارهم (ستة صفر).
وردى …………….. مبروك الإنتصار .
شكراُ جميلا على السعادة التى منحتها للوطن الذى كان (حدادى)
شكراً لأنك فى حياتنا بفنك وعطائك ونضالك
ولا نامت أعين الجبناء ! محــمـود

تعليق واحد

  1. شكرا لك
    رحم الله العملاق وردي واسكمنه فسيح الجنان
    سيظل هذا الهرم السوداني في وجدان هذا الشعب خالدا محبوبا
    سيظل وردي احد قاماتنا السامقات التي نفتخر بها بين الشعوب

    اللهم ادخله مدخل صدق مع الصديقين والشهداء الابرار
    قولوا اميييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..