عمل روائي تتشابك فيه شعرية اللغة مع التجريب.. وقائع رجل اختار الهجرة

محمود حسني
تحيلنا رواية (الرجل الخراب) للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن (مؤسسة هنداوي ? 2015) على قصيدة (الأرض الخراب) للشاعر الأميركي ت. س. إليوت، التي لم يكن استلهام بركة ساكن لها- فقط- على مستوى اختيار عنوان العمل، ولكن في محاولته لخلق شخصية مفرّغة من الهوية والمضمون، تعيش عالماً عدمياً، وتعاني من مشاعر متناقضة متراكمة تصيبها، في نهاية الأمر، بالرُّهاب.
هذا ما كان عليه (حسن درويش)، الذي مثّل أنموذج (الرجل الخراب). حسن درويش، هنا، ليس بطلاً روائياً كلاسيكياً كما في أعمال ديكنز أو هوجو، بل تظهر شخصيته خالية من أية بطولة حقيقية بالمعنى الكلاسيكي؛ فهو رجل يهرب من مصر بعد أن يمرّ بتجربة اعتقال من قِبَل الشرطة لانتمائه، في السنوات الأولى من الجامعة، إلى إحدى الجماعات الإسلامية.
يهرب درويش إلى فيينا، ويمكننا، من خلال تتبّع مسار رحلته إلى أوروبا، أن نلتقط تفاصيل الحياة التي عاشها، وأن نكون في مواجهة واقع يومي بائس متمثّل في إشكالية الهجرة غير الشرعية للأفارقة، وأوروبا بكل ما تحمله من مخاطر وواقع يجعل الكثير يواجه احتمالية الموت مفضِّلاً إياها على استمرار الإهانة.
يحاول درويش الانسلاخ (ظاهرياً) عن ثقافته ليندمج كلّيّاً في المجتمع الغربي، حتى أنه غَيَّرَ اسمه من حسن درويش إلى شولز هاينرش. حاول قطع علاقته بكل من هو مسلم أو عربي منذ أن استقرّت أوضاعه في أوروبا، لا يريد أن ينظر إليه الناس على أنه مختلف عنهم في القيم التي يحملها، لا يريد المجازفة باغتراب آخر، يحاول محو تاريخه بعملية واعية للغاية؛ لهذا نجد الراوي يدعوه (درويش) في الكثير من المواقع بعد أن يستقرّ في النمسا، وكأنه يشير إلى أن عملية المحو الواعية هاته لم تنجح بعد.
لم يكن حسن درويش نبتاً شيطانياً، فطفولته التي عاش فيها حالة الاختلاف والتمييز لأنه سوداني لأمّ مصرية، يعيش مع والدته في مصر بعد موت والده، جعلته يجد نفسه أجنبياً. وبتراكم المواقف، التي واجهها وجدنا أنفسنا أمام شخصية مسلوبة الإرادة، ثقافته بسيطة تقترب من حدود معرفة عناوين الكتب الشهيرة ليس أكثر، حتى عندما سافر إلى أوروبا أصبح تابعاً لزوجته، ويخاف منها، رغم أنه المالك للبيت ولمجمل الثروة التي يعيشان منها.
يضعنا بركة ساكن، من بداية الرواية، أمام مشهد حيوي يقترب من قمّة الذروة عندما تخبره زوجته نورا بأن ابنته ميمي، التي تجاوزت الثمانية عشرة بأيام قليلة، وجدت صديقاً ستأتي به إلى البيت، تظهر على وجهه ابتسامة عريضة، لكنه، في الواقع، يغضب حائراً: كيف سيقبل بهذا الأمر؟: «ولم تظهر شخصيته الإسلامية العربية إلا حينما أصبح عليه أن يدفع الثمن من لحمه ودمه، والمقصود هنا ابنته، فكل ما هو بعيد عن الشرف يمكن التعايش معه». هذه الشخصية المتناقضة، مسلوبة القرار، هي التي ستودّي بنفسها إلى الهلاك، وهو ما يحيلنا إلى المشهد الأخير، حيث قرّر درويش قتل (توني) صديق ابنته.
لم يستطع درويش أن يندمج مع المجتمع الأوروبي، وزوجته نورا لم تحبّه قَطّ، وإنما كان زواجها منه مجرّد مصالح مادّية، تعترف أن درويش دمّر حياتها بالفعل، وسبّب عقداً نفسية لا حصر لها لابنته، وصنع منها مخلوقاً بائساً.
في هذا العمل الروائي تتشابك شعرية اللغة، عند بركة ساكن، مع التجريب في البناء الروائي. حالة الفصل بين الكاتب والراوي تأتي مع الاستناد إلى شخصيات العمل التي تحكي، بلسانها، جزءاً من الأحداث
اليوم التالي