أخبار السودان

اغتيال «أبو إيثار» تحول إلى ذكرى وطنية وبرنامج إستراتيجي للخلاص السوداني

محجوب حسين

في تضاريس سياسية سودانية معقدة ومغلقة، بل معلقة ? إن جاز التعبير- حلت خلال الايام التي سبقت مدخل العام الجديد، الذكرى الثالثة لاغتيال أحد رموز الثورة الوطنية السودانية في العصر الحديث، وكما وصفه أحد أهم مفكري الحداثة والعقلانية والتنوير في مدرسة الإنتاج المعرفي السوداني، المفكر حيدر إبراهيم.

إبان وقوع جريمة الاغتيال، سجلت شهادات ومواقف مهمة لصفوة من حقول المعرفة السودانية، كانت محل تقدير وإعجاب بطروحات ومبادئ الرمز الوطني السوداني خليل إبراهيم، مؤسس حركة العدل والمساواة السودانية، الذي اغتالته الخرطوم في عملية استخباراتية تورط فيها عدد من دول الإقليم بمشاركة قوى سودانية داخلية، أستطيع وصفها بـ»العميلة « للخرطوم. وقع الاغتيال في ديسمبر 2012 بإقليم كردفان أثناء ما أسميه «هجرة» الحسم الوطني لخليل إبراهيم من دارفور إلى إقليم كردفان، قصد تعبيد الطريق أمام صياغة جديدة لقوى التحول والتغيير والديمقراطية ، لاتخاذ القرار التاريخي بالتقدم والزحف نحوالخرطوم، سلما أو حربا أو بالاثنين معا، في عملية أثبتت السجلات السرية «لهجرته» أنها نهائية للخلاص السوداني لغاية وطنية، الغرض منها تسليم البلاد لأهالي السودان ومن ثم على الشعب السوداني تنفيذ برنامج أهله، أي ما يريدونه هم وما يقررونه طوعا واختيارا ورغبة وتجربة، بدون إملاءات أو شروط أو وصايا من أي أحد.

يقول إنه لا يستطيع أي أحد أن يحدد للشعب السوداني مساره، لا سودان جديد ولا قديم ولا مندثر، لا سودان عروبي ولا أفريقاني، لا شيوعي أو إسلاموي أو طائفي، «أهل السودان» هم المعنيون برسم أسس بناء دولتهم التي يطمحون إليها.

خصوصية هذه الذكرى الوطنية السودانية التي ظلت تؤرخ لها حركة العدل والمساواة على مدى ثلاث سنوات في أدبياتها بـ»يوم الشهداء»، أنها ذكرى جماعية وطنية مهمة يسترجع فيها الشعب السوداني محطات مهمة لمسيرة السفر الخالد في تاريخ نضاله الوطني من أجل قيم أكثر تقدما وحداثة وتنويرا ومواكبة بالضروة يجب أن تقع لأجل بناء الدولة وانتقالها من مشروع «الدولة» المتخاصم مع ذاته إلى»الدولة المتصالحة مع ذاتها». «يوم الشهداء» ايضا هو حفر في الذاكرة الجماعية لمسلسل طويل وبرموز ودلالات لأحداث وشهادات ووقائع، ليس بمفهوم السرد التاريخي للتجربة والبكائيات الحزينة الماضوية، بقدر ما هو مساحة نقدية مهمة لكل التجارب، باستلهام عبرها ودروسها التي تقتضي إقرار صحتها التي لولاها لما دفع هذا الكم الهائل روحه وحياته ثمنا لأجل سيادة مبادئ إنسانية عوض لاإنسانية الأيديولوجيا والحكم.

هذا الحفر النقدي للتراث النضالي قد ينتج معرفة نضالية نوعية ومختلفة تُمكن الشعب السوداني من فك الجنزير الذي وضعه البشير على أرجل الشعب السوداني بجانب جنزير «عشر» في سجن كوبر الذي امتد إلى سبع سنوات في انتظار محاكمة شخصية وأيديولوجية لمنظومة فكرية كاملة في شكلها ومحتواها ونتاجها، باعتبارها مخالفة وضلالية، تستعمل الإله لقهر وخضوع العامة، وتحت ستار هذه الضلالية تمت سرقة كل المقدرات المادية للشعب السوداني وإلغاء قدراته وإبداعاته المعنوية تجاه أي ردة فعل وطنية، مع الإبقاء عليه يتلقى الفضلات السياسية والاقتصادية.

تحولت ذكرى أيقونة ثورة الحداثة السودانية خليل إبراهيم إلى ثيمة وطنية تستدعي المراجعة والتوقف والتذكير بالقول، إن الرجل كان شجاعا ومثاليا مع ذاته والآخرين، شفافا لا يعرف للخجل طريقا في السعي لأجل الحقيقة والعدل، كصفة ربانية، والعدالة كنمط لتنظيم قيمة إنسانية كونية متفق عليها. خاض تجارب كشأن كل البشر وتعرف على إخفاقاتها وعدم صلاحيتها عن قرب، رفض كل الأساطير والاختزالات التي منعت الشعوب السودانية من النهوض ووضعتها في هامش الحضارة الإنسانية، فكان طبيعا أن يخرج من تابو المألوف الذي يفسر بانه خروج عن طبيعة الأمور، التي أرستها الطبيعة السودانية. الرجل ظل يؤمن بقوة المشروع وصدقية المبدأ، ليس بقوة السلاح والبندقية، كما يتصور كثيرون ولكن يبقى السلاح بجانبه عندما تتنكر وتتعالى قوى التسلط للحقائق وتتعاطى بلامبالاة مقصودة حول ماهيتها. لأجل هذا وذاك يلاحظ الراصد لفاعليات الذكرى الثالثة لـ»يوم الشهداء» الذي أقامته قطاعات واسعة من الشعب السوداني في الداخل والخارج، كل على طريقته ومن موقعه وعلى غير العادة، تحول إلى ذكرى وطنية بامتياز، وسوف يتم التأريخ لها في سودان المستقبل عبر عملية استفتاء سودانية متى ما زالت السلطة الصنمية القائمة على عبادة «الأوثان» من البلاد، تأريخ التاريخ حق مملوك للشعب السوداني، فيه يسجل تضحياته وتاريخه كما يريد.

فيما الأهم وفي ارتباط مع حراك المقاومة السودانية المعارض بمخرجاته «إعلان باريس» و»نداء السودان»، جاءت الذكرى في برنامج وطني إستراتيجي للخلاص الوطني بالأهداف والأفكار والآليات ذاتها التي طرحها خليل إبراهيم قبل عقد من الزمن، بأن هناك ضرورة حتمية لوحدة الأجندة الوطنية، عبر وحدة كل القوى المدنية والعسكرية لإسقاط نظام العصبية السياسية وبناء المشروع الوطني السوداني، وفقا لإرادة أهالي السودان، في هذا هاتف وتحدث مع المهدي ومع كل قوى المجتمع السياسي، بدون فرز للحفاظ على ما تبقى من البلاد عبر عقد اجتماعي طوعي يدفع الهمم الوطنية للعطاء والنماء.
أبو إيثار كما رثاه شقيقه أبو ريان، كان متطرفا في قوميته ووطنيته ووحدويته، لا يؤمن بالتكتلات الجهوية والعرقية والإقليمية، رغم آلة التشويه الحكومية التي عملت ضده حتى يوم الاغتيال/ الاستشهاد. تلك هي مبادئ لا يحملها في فلسفته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية فحسب، بل ثبتها في فعل وطني إبان قيادته المباشرة لعملية «الذراع الطويلة» الوطنية لدك حصون العدو لفتح تمركز الاستعمار في الخرطوم، ليس لأجل السيطرة على السلطة وإقامة الإحلال والاستبدال كما قرأ كثيرون ? إنما لغاية هدف وطني كان أسمى وأعلى مرتبة وهو إجهاض سيناريو تقسيم البلاد المعٌد والجاهز وقتئذ من طرف عصبة الحكم تنفيذا لخطتين أساسيتين، أولاهما خطة وهمية، تتعلق ببناء سلطوي/ أيديولوجي أبدي في الشمال الجغرافي، وهو ما لم يتحقق. وثانيتهما الخضوع وتلبية متطلبات المنظم الدولي في تقسيم البلاد كعربون للعمالة مع الأجنبي، وهو ما لم يقع أيضا، هكذا كانت القراءة مخصية في الفكرة والهدف، فيما أثبتت التجربة بطلانها سريعا على أرض الواقع، فيها «جوبا» لم تسلم و»الخرطوم» تورطت في أزمة أكبر منها. في هذا السياق أذكر موقفا لخليل إبراهيم جاء في خطابه الشهير عام 2010 الذي تلاه أمام جمع دبلوماسي دولي وإقليمي كبير في العاصمة القطرية الدوحة، بحضور كل من أمير قطر السابق والرئيس السوداني، وهو يتلو خطابه الرسمي أمام الجمع، وفي فقرة ضمن الخطاب تتعلق بالوحدة الوطنية، توقف فجأة عما كتبه وأعده، في تحول وانفعال داخلي عميق قائلا للرئيس بالدارجة السودانية، بدون أداة التعريف «أل» للاسم، مؤشرا إليه، أو «مورورا» بالعامية بقوله «يا بشير أوصيك بعدم فصل السودان أو تقسيمه»، لأن مشكلتنا الحالية كما فهمت من السياق- مقدور عليها ولكن فصل الوطن ليس من الأمور المقدور عليها. إنه «يوم الشهداء» يوم سوداني وطني، ملك لكل الشعب السوداني.

٭ كاتب سوداني مقيم في لندن

محجوب حسين
القدس العربي

تعليق واحد

  1. الدكتور خليل إبراهيم – رحمه الله – هو أحد الدبابين الذين قتلوا اخواننا الجنوبيين في أحراش الجنوب وكان مقربا جدا من الدكتور حسن الترابي وعلى قمة الهرم في تنظيم الجبهة القومية الإسلامية، ولكن كاتب المقال لم يحاول أن يشير أو ينوه إلى هذه المعلومة التي يعرفها القاصي والداني. وكان الدكتور خليل أحد أعمدة حكومة الإنقاذ منذ بدايتها لكن الكاتب حاول تزوير التاريخ فلم يشير قط إلى ارتباط دكتور خليل بالحكومة الحالية. قام دكتور خليل بتأسيس حركة عنصرية جهوية وقرب إليه أهله وعشيرته وعندما قتل في ود بنده بكردفان خلفه أخوه في رئاسة الحركة. وكان الدكتور خليل عند مقتله يحاول الهروب إلى الجنوب ولم تكن لديه أي خطط لإجتياح الخرطوم، لأنه يعلم صعوبة أن يسيطر عدة مئات من المرتزقة على عاصمة البلاد والتي يسكنها 15 مليون نسمة. والآن لا يوجد جندي واحد لحركة العدل والساواة في دارفور، لقد نزحوا إلى الجنوب يحاربون مع قوات سلفا ضد مشار. لقد ماتت عندهم قضية دارفور والهامش والهمشين. اللهم أرحم دكتور خليل وأسكنه فسيح جناتك .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..