فكي ( دقوس ) في عصر المعلوماتية ..!

فكي ( دقوس ) في عصر المعلوماتية ..!

بقلم :الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(كثيرون هم الذين اتخذوا من الأوهام
والمعجزات الزائفة وخداع البشر تجارة لهم..).
– دافنشي-

.. لي صديق (تفتيِحه)، كل شيء فيه ينطق بالطرافة والغرابة .. يقرأ ويكتب بالكاد، لكنه متخرج من مدارس الواقع بامتياز ومكافح لا يشق له غبار ..ضاقت به الأيام وسدت في وجهه السبل وهو في خريف العمر .. هداه تفكيره الفطري الي العمل كعراف وضراب مندل وطبيب روحاني (فكي) فهو عمل سهل ومجز لا يحتاج إلي جهد ومال ولا يطوله قانون أو تشمله ضريبة، عمل هو وليد الحاجة وغريزة البقاء في ظروف اجتماعية مواتية وشروط خاصة مناسبة جداً، يلجأ إليه المحتارون والهاربون من الواقع المر (وما أكثرهم) يدغدغ أحلام النائمين عن العلم والعمل، ويختصر الطرق الطويلة الوعرة ويفتح الآفاق المسدودة أمام قطعان البائسين واليائسين .. جاءني ذات يوم قد وقد سميته فيما بيني وبينه (فكي دقوس)، وقال لي : ألا تبارك لي يا أخي ؟! فقلت له ..أبارك لك في ماذا ؟ فقال : لقد تزوجت البارحة ! فقلت له : افعلتها أخيراً يا ؟ فقال لي : نعم فعلتها يا ؟! فقلت له : ومَنْ هي ؟ فقال مفاخراً : إنها ابنة ملك الجان !! فانفجرت ضاحكاً ثم استعذت بالله منه وسألته ساخراً : وكيف التمت عليك فقال لقد قرأت كتباً كثيرة ، آخرها استقدمته من بلاد المغرب (يقصد تلك الكتب الرخيصة التي تباع على قارعة الطريق، وتحكي عن الروحانيات والغيبيات والتي أصبحت الأكثر مبيعاً ورواجاً في بلاد اللامعقول ) ، قال : نعم قرأت كتباً كثيرة منها ، هدتني إلي (الكجور) ، وإلي الطريقة التي دخلت من خلالها إلي عالم الجن . وتعرفت فيه على ملكهم وتزوجت ابنته وصار لي منهم خدم وحشم استعين بهم في عملي الدنيوي لحل الألغاز وكشف الأسرار، وتيسير الحاجات ، سكت برهة ثم أخذ يهمهم ويتمتم ويغيب ويحضر .. يريد أن يوهمني أنه في عالمه الخاص . فقلت له : كف عن هذا يا رجل نحن من قبرناه معاً ( اقصد أنني أعرف حقيقة قصته )، فقال لي غاضباً لئن لم تنته عن ذلك لأربطنك وأسرجنك أو اعقد لسانك .. فتحديته إن يفعل فراح ينفخ علَيّ وينفض يديه في وجهي ويدعو خدامه ! فاختشيت حقيقة وأحسست بقشعريرة فهجمت على يديه أقبلهما بين الجد والهزل طالباً منه الصفح والغفران ومستعيناً بذلك بما عندي من نحس يكفي بلد بحاله ؟؟! .. ثم مضى بعض الوقت إلي أن انفجر باكياً فقلت له : ما خطبك يا شيخ ؟ فقال : لقد فاتتني صلاة العصر ؟! فقلت له : ألهذا الحد وعهدي بك لم تتجه إلي قبلة من قبل ؟! قال : نعم وأكثر، فقلت له : إذاً لم يعد هناك ثمة مجال للمجون والأفون ولا من يفرحون ؟! فقال : لا.. ليس هذا على الإطلاق (فكل شيء بحسبان) صدق الله العظيم .. أقول : وهكذا درج حظ الشيخ وكثر رواده ومريدوه وانهمر الخير على رأسه مثل الرز .. ولسان حاله وحال أطنابه يقول : حلال على الشاطر .. وأكل العيش يحب الخفية وفَتح مخك تأكل ملبن إلي آخر ما هنالك من الأقوال والأمثال المألوفة والمتداولة وما أكثرها في ثقافتنا الشعبية، والتي تعكس بوضوح الأنانية المتجذرة في مجتمعاتنا وما يتولد عنها من غيرة وحقد وعدوان وكره للآخر وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع قيم ومتطلبات الحضارة .. وإنني إذ اعتذر لفكي (دقوس)، وكل من أعيته الحيلة في تدبير رزقه بأي طريقة فإنني أعتبرهم ضحايا الواقع المر والظروف الصعبة وليس العكس .. فقد أصبح العمل (تدبير راس) ووسيلة لسد الكفاف وأحياناً أخرى كثيرة لجمع المال بأي طريقة ومعولاً يهدم لا قوة تبني صرح الوطن . وفي الوقت الذي يشق هؤلاء طريقهم بنجاح إلي الثروة والسطوة والحظوة وترقيع الأوضاع الصعبة في حمأة واقعنا الآسن ترى آخرين كثيرين ممن شبوا عن الطوق من أصحاب العلم والفكر والأدب قد فشلوا فشلاً ذريعاً في التأقلم مع هذا الواقع، وفي الحصول على أبسط حقوقهم الطبيعية في العمل لسد حاجاتهم وصاروا عالة على مجتمعاتهم وغرباء عنها في وقت هي أحوج ما تكون فيه إليهم ولقيادتها إلي بر الأمان، ما حدا بهم إلي الانتظام في طوابير طويلة أمام السفارات للهجرة أو الهروب كيفياً في الزوارق الورقية والحاويات إلي بلاد الواق واق ؟ ولسان حالهم يردد قول أبي نواس :
اللهم أفقرتني لأجل فصاحتي .. اللهم ارزقني واجعلني من أكبر التيوس .. أكون ..!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الدكتور نائل اليعقوبابي جميلة هي صورك القلمية، وهي تشرح القهر في الواقع السوداني المُر، تعجبني مقالاتك.. سلمت وسلمت يداك يا رائع

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..