حكاية عمي الصول مع الحبشية

محمد سليمان الشاذلي
شرقي أمبدة شمال ، دبت الحياة في زريبة الخضار بدخول عم الصول قبل النبَّاه . فتحَ دكاكين الباعة الخشبية الصغيرة الواحدة بعد الواحدة، ومضى يكنس أرض الحوش الواسعة بلب شارد ودون اكتراث . مع انطلاق آذان الفجر دلفت لواري الزوزو والأبيض ضميرك والقناقة وبعض سفنجات البدفورد إلى حوش الزريبة ؛ بينما راحت ، في تؤدة ، قطرات الندى المكوَّرة والبيضاوية واللامعة ، جميعها ، تقطر من بطن اللواري وحمولتها الخضراء ومعدنها الصدئ .
بعد صلاة الرقبية وركعتي الفرض اكتظ الحوش بأصناف العتالة عليهم عراريق دمورية مهترئة وبقايا نعاس مع تعب خالد . عم الصول مضى يكنس ببطء بينما انهمك مساعدو اللواري في رمي حزم الخضار في دأب ونشاط وهم يغنون بصوت عال “الليلة ما جاء .. حناني ما جاء”
قدمت ست العيلة بائعة الشاي والزلابية فاشترى منها عم الصول كباية شُبْ مشلخة مليئة بالشاي والحليب والنعناع . ارتشفها وهو يقضم حبات الزلابية كأنها حبات بلي مضى في شربه ببطء وانتظام وشدقاه يتحركان وهما يلوكان ويلوكان . العتالة دبَّ النشاط فيهم ، واتسخت تبعا لذلك ، أكتافهم ومنابت الشعر الأبيض والأسود في رؤسهم وذقونهم وعوارضهم وشواربهم الغليظة الكثة . كانوا يلهثون ولكن لم تكن بهم تكشيرة واحدة .
وقف عم الصول متكئا على مكنسته الطويلة يتأمل أكوام الطماطم النابتة من البذزور الأفرنجية ، يتنشق أكوام طماط الله كريم ذات الرائحة الطبيعية النفاذة ، يتفرس في أكوام الملوخية والجرجير والفجل والعجور والبازنجان والكوسة والبامية ذات الشرى والأخرى غير ذات الشرى ، يحدّق في البطاطس والبامبي والقرع والرجلة والسبروق ، ثم ، إذ هو في حاله ذاك ، على حين غرّة برز ياسين بائع الحمام والدجاج البلدي . أربعون عاما وياسين يبيع البيض والحمام والدجاج ! لم يفكر أبدا في مهنة أخرى ولم يستهوه شيئ غير لعب الدافوري بالكرة الشراب في الزقاق مع صبيان يصغرونه بأكثر من ثلاثين عاما.
– ازيك يا يسين .
– أهلا يا عم الصول .
– ربنا يكتر الرزق اليوم .
– آمين
ردد عم الصول بعبارة غامضة
– أكيد . اكيد اليوم سعيد .
وضع ياسين أقفاصه ببيضها وحمامها ودجاجها وصفها على نحو جذاب أضفت عليه كأكأة الدجاج وغناء الديوك الصغيرة حيوية صباحية طازجة . ثم صاح:
– البلدي هنا البلدي هنا أوعك من الأفرنجي …
تعالى نداء ياسين يجتذب الزبائن بينما انهمك عم الصول في نفض الغبرة عن أكوام الخضار ومضى يكوّم أهرامات الكوسة والطماطم والبازنجان . التقط أنفاسه قليلا ثم القى على اللواريى التي كادت تفرغ حمولتها نظرة شاملة وتأمل المساعدين المتسخة عراريقهم وسراويلهم بالزيت الأسود المتسرب تارةً من الماكينة وطوراً من الجربوكس ومرة من الفرامل أو عجلات الحديد الهائلة الضخامة. راقبهم كشأنه كل صباح وهم ينططون ، يتسلقون ويهبطون ، يصرخون أو يزغردون. وقال في نفسه “في حياتي لم أرَ قبيلة مثل قبيلة المساعدين!” لتشابه حركاتهم وسحناتهم ظنهم قبيلة واحدة.
نقل بصره بين اللواري وهياكلها يتمعّنها كأنما يتمعن شخوصا بعينها . بدت أليفة فلاح الارتياح في وجهه حينا والامتعاض حينا ومرة ابتسم. في موعده قبيل شروق الشمس نزل الأمين شروم تاجر الجملة من عربته الهيلمان الحمراء . هلَّ ببشرته الداكنة وشلوخه المطارق على خديه وجلبابه الناصع البياض والعمامة الكرب الملفوفة بعناية . اتكأ على عصاه المحلب وقال بصوت جهوري :
– السلام عليكم ياجماعة .
وأدخل يده في جيبه الأيمن ثم نادى :
– عم الصول أمسك آلاف اليوم لحساب البضاعة لدينا أفراح وأتراح وطلبيات كبيرة اليوم من المطاعم.
– الله يباراك لك يا حاج شروم.
بسمل عم الصول وحوقل وهو يهمس في صدره “خلاص جاء وقت الفطور” وكان عمرين بائع الفول عند ود عرمان قد فتح قدرته فتعالى بخارها طازجا شهيا يدعو أن هلموا.
صاح في عمرين :
– ازيك يا عمرين .
ردّ عمرين التحية :
– أهلا مرتين .
سأل عم الصول:
– كيف قدرتكم اليوم ؟
فأجاب عمرين :
– قدرتنا في الشتا مدفيانا وفي الصيف مسخنانة وبنريدها زي سكر كنانة.
– طيب أدينا واحد فول مصلح يا عمرين …
– بالوادي ولا بالنص ؟
” بالوادي تعني بالسمن وبالنص تعني بزيت السمسم”.
– بالوادي يا عمرين.
– حاضر يا نور العين .
– وزيد الطرشي .
– مادام بتريدو طوالي نزيدو .
كان عمرين أسود نحيل الوجه والجسم يبدو نشطا رغم أن كاهله ينوء بخمسة وستين عاما . وفي الحقيقة كان زبائن الزريبة يقصدونه هو لا صاحب المحل المسمى ود عرمان والذي ناهز الثمانين. وكان ود عرمان دائما ما يشاهد جالسا على كرسيه البلاستيك مادا رجله اليمنى الملتهبة والمعصوبة أبدا بالشاش على ككر خشبي صغير مهترئ.
التهم عم الصول الفول والسمن والطرشي بشهية كبيرة ، مسح يده على عراقيه الدبلان واذدرد كوزا كاملا من ماء الزير البارد. ثم انطلق صوب الأمين شروم ليكمل واجب يومه في حساب اصحاب اللواري ؛ في طريقه مرَّ بمبارك الخضرجي المتخصص في بيع البطاطس والبامبية وسمعه يبصق ويشتم ” دنيا قرف” فقال له دون أن يتوقف “اتق الله يا راجل الدنيا صباح والصباح رباح”. ومرّ بجبارة بائع الطماطم والجرجير والذي يضحك كثيرا لكنه ضحك يداري به توترا مزمنا وهموما يومية . ثم ظهر علي ود ست العيلة الذي أكسبه البنقو ضربا من الغموض. وتبختر علي تنية اللوطي الذي يبيع اللبن والليمون الأخضر والأصفر والذي ينم تطلق أساريره على أنه لم يخرج بعد من نعمة الطفولة.
توافد مندوبو المطاعم وأصناف المشترين ، وتبختر الأمين شروم متكأ على عصا المحلب يذرع زريبته الآخذة في الاكتظاظ . بجيبه الصغير تعلق سلسل ساعته الذهبية ، وفي أصبعه الوسطى من يده اليمين استمسك بقوة خاتم ذو ياقوتة حمراء كبيرة . وكظله كان يسير إلى يمينه صبيه سمبو الذي يناديه الجميع بسمبو قلوطو جنبو . كان رقيقا نحيلا منحنيا منطويا على نفسه. وأخيرا حضر الشاويش أحمد المليجي ، ببردلوبته ووردائه القصير وحذائه البني الملمع بالورنيش والفرشاة. مشى محوطا بهالة من الوقار وفي يده مسبحة بقسْ.
وشيئا فشيئا ضجت الزريبة بالأصوات وخشخشات النقود وأوراق الخضار . شرع الجميع في العمل حتى سمبو انطلق من كوم الى كوم يلمع البازنجان والطماطم ويصيح “علينا جاي .. علينا جاي” وأقبل الصبية بائعو أكياس البلاستيك وأكياس الورق وانطلق بائعو الشاي والقهوة بصوانيهم المليئة بالجمر الملتهب يحفظون صاحب الشاي بالنعناع وصاحب الشاي بالقرفة وصاحب القهوة بالجنزبيل وصاحب القهوة بالقرنجال ، يحفظون عدد الملاعق التي يشربها كل زبون.
قال الشاويش أحمد المليجي وهو يفرد صفحة جريدة الصباح :
– ستكون السنة سنة فيضان خطير .
زفر الأمين شروم متأففا :
– يوه قرفنا من الفيضان وقرفنا من الحكومة ! والله ما عارفين نشتغل كيف! .
ابتسم الشاويش أحمد المليجي وقال بخبث :
– أدفع الفيها النصيب واتكل على الله. جماعة الجمارك ورسوم الانتاج نقول ليهم السوق واقف تَبْ.
وهتف سمبو دونما انذار :
– في سوق الخضار تلقى اللخمة والزحمة والناس المبسوطة والخضار يقول يا ليل.
كذلك تساءل خضر بائع التبش بصوت متحشرج :
– كيف أبيع التبش بالشطة ومدارس الأولاد كلها في إجازة؟ .
ولبث سمبو يرمي ببصره على باب الزريبة الكائن في الجهة الجنوبية يرصد دخول حلبية فاقعة السمرة ثوبها أحمر ، ساقاها ممتلئتنان وقدماها مخضبتان بالحناء.
وعاد الشاويش أحمد المليجي يقول بتشف :
– صدقوني يا جماعة فيضان هذا العام سيدمر الضفاف ويكسح الجروف والسواقي والخضروات وحياتكم التي هي أصلا في ستين دهية ستذهب في ألف داهية
وضع الأمين شروم وجهه على كفه وأمر سمبو بصوت لم يخلو من الارتباك :
– شوالات الملوخية والكوسة والبامية والطماطم والجرجير لمطعم الرياضيين في حي البوسطة ، الجزر والبازنجان لمطعم السطح جنب جورج مشرقي .
وصمت ثم قال يستحث سمبو:
– يالله اشحن الأغراض في البوكس التايوتا بتاع عبدالرحيم الحوتة.
وعكف الشاويش أحمد المليجي على صفحات جريدته التي بدت شائقة لعينيه وقال من بين أسنانه دون أن يرفع رأسه “كُسْ أمك يا شروم ما عايز تطلع واحد طويل! الله يزيد المطر ويرفع البحر” وإذا بعم الصول يعود بصينية مملؤة بزند مشوي وكبد نيئ مع سرويس ممتلئ بالشطة والملح والليمون وعلى جانبيه قطع البصل الأخضر والبصل الأحمر. ذلكم هو فطور الأمين شروم. أصاب شروم من طعامه وتجاوب تمطقه مع تصاعد الأصوات في الأركان . لم تتحول عينا الشاويش أحمد المليجي عن صفحات الجريدة التي بدت بين يديه وكأنها عشيقة عزيزة. ثم بغتة علا صوته:
– أضبط أمين خزنة بالمالية يختلس خمسة ملايين جنيه !
امتقع عم الصول وغمغم بعد أن انعقدت بين حاجبيه سحابة من القلق:
– يكون كلام جرايد ! ياربي كلام جرايد …
وهنا ناداه الأمين شروم :
– يالله يا عم الصول حاسب سواقين اللواري وخلي الولد عطية يظبط براد شاي بالنعناع.
– حاضر يا حاج .
ووقف عم الصول يرقب حاج شروم وهو يخرج عقودات أراضي ووثائق من حقيبته الجلدية القديمة ، بدت لعينيه الذابلتين مثل كائنات سحرية. وجاءت حّرّم بائعة السمن، وقريبا من جوالات البصل برز شحاذ ضرير رفع عقيرته بمدائح نبوية محفوظة مثل يا راحلين إلى منى بقيادي هيجتمو يوم الرحيل فؤادي. ازدادت الحركة في زريبة الخضار فورانا ونشاطا على حين مضى الأمين شروم يحتسي قهوته الممزوجة بالزنجبيل. ثم في وهلة نابضة ارتفعت شمس الصباح تضرب بحرارتها أكوام الخضار والباعة والمشترين. ولم يزل سمبو يختلس النظرت لسوق النسوة وخلاخيلهن. غاب عم الصول عن الأنظار وكأنه ذاهب لمحسابة سائقي اللواري. لكن غيابه طال إذ كان الأمين شروم ينتظر وصولات القبض التي يوقع عليها سائقو اللواري. وعلى حين غرة صاح سمبو وهو يلمح إمرأة فاتحة اللون ممتلئة الجسم : “أموت أنا في المنقة”. وتقاطر الزبائن وأصبحت أصوات الباعة أكثر حدّة.
وتساءل الأمين شروم رافعا فنجانه إلى فمه :
– ولد يا سمبو وين عم الصول؟
– للساعة ما رجع ياحاج.
– لكنه تأخر . ليه تأخر؟
– والله ما عارف ياحاج!
لحظتئذٍ مرقت نفيسة بائعة البيض تعرض بضاعتها على الباعة والمشترين فحيتها حرم بائعة السمن:
– ازيك الله يسلمك ويخلي ليك أولادك.
انتصف النهار وازدحمت الزريبة بصبية يحملون أكياسا من البلاستيك والورق يركضون بها خلف الزبائن هنا وهناك . وطاف صبية آخرون يحملون جرادل مملؤة بالماء والثلج وعلى أيديهم كيزان من الالمنيوم يضربون بها فوهات الجرادل وصفحاتها وهم ينادون بصراخ مدوي:
– برّد جوفك يا عطشان . برّد .. برّد.
ويصيح آخر:
– الكوز بقرش واحد. قرش بسْ.
وارتفع صوت الأمين شروم كرة أخرى :
– ولد يا سمبو روح شوف وين عم الصول غار. سواقين اللواري زهجو وزهجوني معاهم.
كما الحصاة من النبل انطلق سمبو إلى خارج الزريبة. نظر يمنة ويسرة ثم شق طريقه إلى زريبة البهائم وعاد يتمتم ويغمغم:
– عم الصول المخرف ده ما في ليه أثر! فص ملح وداب!
ولما مرت ساعة ثانية شقت الشمس سرّة السماء وأخذت تميل شيئا فشيئا صوب الغرب. أحسّ الأمين شروم أن ثمة شيئا غير طبيعي يكتنف الأمر كله.
صاح دون أن ينتبه لنفسه :
– أين ذهب هذا العبيط المجنون بآلاف الجنيهات التي أعطيتها له ؟
وأردف محتدا :
– زي كل يوم أعطيته خمسة آلاف جنيه من حساب بند السواقين ففي أي خرارة ذهب بها؟ .
قال سمبو :
– لعله تعب ورجع إلى بيته.
فصرخ الأمين شروم والاستياء يرتسم على وجهه وفمه ينفتح فيبدو من غير أسنان:
– يرجع قبل أن يعطي الناس حقوقهم! أصحاب اللواري هؤلاء مع السواقين سيسيرون عليّ مظاهرات الآن . لا حول ولا قوة إلا بالله … أرحمني يا إلهي. أرحمني يا ربي .
ساد صمت قصير ما لبث أن قطعه سمبو بضحكة مكتومة:
– تصوروا أنه يمكن أن يكون قد عاد للخدمة في البوليس!
صاح الأمين شروم :
– وكيف لشيخ هرم من عهد عاد أن يقبل في خدمة البوليس؟
كتم سمبو ضحكته
– ولكن ضعفه لم لم يثبت بعد. عمي الصول أنشط مننا جميعا. مني ومنك. ها.ها.ها؟
تنهد الأمين شروم وتأوه تأوهات مستنكرة بينما صاح سمبو وكأنه يكتشف اكتشافا مهما:
– يمكن تكون صدمته عربية مين عارف!
استغفر الأمين شروم وقال :
– حسبي الله ونعم الوكيل.
ولما آنس في الوجوه استياء استدرك قائلا :
– إنشاء الله خير.
وصمت ثم زفر بحدة :
– لكن من يدوس عم الصول اليوم فانما يدوس خمسة آلاف جنيه وعشرة لواري زوزو وتسعة لواري أبيض ضميرك وسبع سفنجات بدفورد.
فقال سمبو بضحكة:
– لا بد أن يكون قد فعلها كومر حكومة عجوز.
هنا ارتاح الأمين شروم إلى قوله تشفيا رفع فنجانه الفارغ ووضعه ثم نقر بسبابته اليسرى على عصاه المحلب محاولا قدر المستطاع ضبط نفسه. وكان في الحقيقة يداري قلقه المتزايد لكن سمبو تساءل رغم ذلك:
– أيه حا يحصل لألوفات الجنيهات ؟ يعني حا تضيع القروش ؟
ولم يجب شروم فعاد سمبو يتساءل:
– لو حصل وصدمه الكومر..
لم يأبه شروم فواصل سمبو هامسا :
– يمكن يسرقوها في الجوطة ويمكن يودوها لنقطة البوليس ويدسوها في خزنة الحكومة لحد ما يعرفوا الحاصل وعيش يا حمار لمن تقوم النجيلة.
وبدا أن فسحة الانتظار قد تساقطت ساعاتها ودقائقها وثوانيها. توترت الجباه واضطربت الأصداغ وتمطى الوقت كأنه كابوس يوم القيامة.
وتنهد شروم :
– على وجه من أصبحنا اليوم ؟
وذهب سمبو يبحث عن عم الصول كرة اخرى ثم عاد ووجهه يلعن قفاه.
صاح
– ما فيش زول شافه من ساعة الفطور.
وفتح شروم كفيه واسند رأسه عليهما وفي خلده تعج خوطر وكوابيس مزعجة . كيف يخسر اليوم خمسة آلاف وهو في حياته لم يخسر خمس قروش . إنه لا يصدق . ثم إن عم الصول رجل بوليس عتيد يشهد له الجميع بذلك قبل المعاش وبعد المعاش. لم يمتلك في حياته شيئا سوى البسكليتة الرالي السوداء . لا بد أنه سيهل على حين غرة عند الباب وسيقول إن فلانا من أقاربه أو معارفه قد قضى فذهب إلى المقابر من أجل التشييع ورفع الفاتحة . سيعتذر وستنهال عليه الشتائم.
وزفر شروم كرة أخرى :
– والله زريبة وكل شيء فيها جايط. لا بد أن القيامة قد قربت.
والتف من حوله سائقو الزوزو وسفنجات البدفورد والأبيض ضميرك.
صاح احدهم :
– يا حاج صبرنا كمل خلاص .
وعقب آخر :
– ونحن ناس على باب الله ورانا أشغال .
وقال ثالث:
– أعمل للك همة وادفع لنا من بند ثاني ده قلبك مردوم قروش.
فقال الأمين شروم :
– الله يجازي السبب .
فاستنكر صوت غاضب :
– وأيه دخلنا نحن؟
وانفجر صوت :
– عايزين قروشنا ها الساعة.
فارتجفت أوتار الأمين شروم واختلجت نبرات صوته وهو الذي لا يستطيع إخراج القرش إلا لمحله:
– والله الآن ما معاي شيء ، القروش بتاعتكم كلها عند عم الصول زي ما انتم عارفين.
وقال سائق الأبيض ضميرك :
– والله ما خصانا .
والتف حول المجلس جمع من الباعة وباعة الأكياس وبدا أنهم مستمتعون بما يرقبون . اطلق بعضهم قفشة أو قفشتين لكن الجو ظل اصفرا متوترا مكفهرا. وماتت الكلمات في الحلوق . صمت الجميع.
وتأوه سمبو :
– والله حاسي في شيء غلط يا جماعة . في شيء غلط.
ثم هب واقفا وهتف :
– سأسأل عنه في نقطة البوليس .
ثم أردف:
– مش الحكومة بتعرف كل حاجة؟
واختفى مهرولا ثم عاد يطمطق بصوت مكسور:
– ما فيش حادث ولا بلاغ ولا يحزنون.
تحشرج صوت الأمين شروم:
– أكبر مصيبة في حياتي كلها، لا يمكن لهذا المخرف أن يستخف بي ويسرقني في آخر عمري! وكم ؟ خمسة آلاف جنيه الجنيه يحك الجنيه؟ ده عم الصول طيب وما حصل سرق تعريفة أو أتى ما يستوجب الشك في ذمته.
وفتح كفيه ورفعهما إلى السماء وهو غير الورع وجعل يدعو:
– يا رب أنهي لينا يومنا بخير وسلام وأمان.
وشعر أن أنظار اللمة انصبت على وجهه كأسنة النيران فزأر كالأسد:
– عايزين مني أيه؟ يالله شوفو اشغالكم .. يالله انت وهو .
وصاح سائق الأبيض ضميرك بغضب لافح .
– نمشي وين يا حاج ؟ نحن عايزين قروشنا !
وسب أحد سائقي الزوزو :
– الله يلعنا ويلعن اليوم العرفنا فيه الزريبة .
وأضاف سائق سفنجة بدفورد :
– والله دي عمرها ما حصلت.
تأوَّه الجميع وانصبت عشرات اللعنات. اقترب سائقوا اللواري من بعضهم البعض حتى لاح وكأنهم يريدون أن يتكوموا بعضهم فوق بعض بحثا عن السلوى والطمأنينة.
ثم علت نبرات الشحاذ الضرير والذي كان قد كف عن المديح:
– أقبلوا قدر الله يا جماعا ده الله كريم ، صدقوني أنا المسكين العزير ، أنا العايش على لقمة يوم بيوم . اقبلو حكم الله . اقبلو حكمه . أقبلو قدر الله …
هنا أنتهره سائق الأبيض ضميرك :
– انكتم يا مأفون ، والله كمان مافضل الا انت عشان تفتينا كمان .
تمتم الشحاذ الضرير
– أنا قلت قدر الله!
فصفعه سائق الأبيض ضميرك ودفعه بقرف:
– اطمّ وأسكت ساكت ولا حا أقطع لسانك .
وبصق ثم همهم :
– والله حكاية. صدّقوا وآمنوا بالله حق الجازولين ما عندي .
وغمغم سائق سفنجة البدفورد:
– سترك يا رب ، البيت لا فيه لحم ولا سكر ولا قهوة ولا شاي والحل يا سيد شروم إنك تدفع لينا من بند تاني غير البند المعروف.
صاح الشحاذ الضرير مجددا:
– اللهم امنحنا ولا تمنعنا وصلنا ولا تقطعنا. آمين.
ولما علا صوت المؤذن من مئذنة جامع الشيخ عبد الغفار قام الجميع فتوضؤا وصلوا العصر في حركات ثقيلة جدا الا سمبو الذي جرى متسللا يقصد راكوبة كلو الحبشية بائعة الشاى والقهوة. هناك وجد البنابر والأكواب والفناجين والمنقد الملئ بالرماد والفحم المنطفئ.
سأل في اندهاش :
– وين مشت كلو؟
فأجابه ناركوك الذي كان يستنشق ويمتص قطعة مهترئة مبللة بالبنزين والسليسيون :
– كلو مرقت مع عم الصول .
سال مستنكرا :
– مع عم الصول ؟
– أيوه انت ما عارف؟ ديل عندهم قصة حب يا بطل، قصة حب ليها شهور…
وعلا صوت روكة الدوكة المشهور برقع اطارات البسكليتات:
– عم الصول خلّ البسكليتة عندي، وأنا شفتهم ركبوا بصات سفريات الشرق وكلوا قالت ماشين بورتسودان وحا يعرسو هناك. والله سمعتها تساله وين لقيت القروش؟ وهو يقول ليها سيبك يالله خلينا حانحصل البص ، انت الزيك لازم يعرسوه هناك جنب البحر بعيد هناك في بورتسودان . يالله … يالله الدنيا ما معروف أولها من آخرها. وسمعتها تقول ليه: خلاص خليني استحم وأغير هدومي وهو يقول ليها البص حا يتحرك وأنا حاشتري ليك أحلى وأغلى هدوم . حا تكوني عروس يا كلو . حا تكوني عروس .
قالت :
– طيب يا عم الصول لكن عاين منظرك! .
قهقه بأريحية:
– عراقي دبلان وسخان ومقدد وقطعة بنقو لكن عندي خمسة آلاف جنيه في جيبي صدقيني يا بنت الحلال.
يد في يد ركبا البص.
مصّ ناركوك قماشة البنزين والسليسيون ثم استنشقها وهتف:
– الأتاري يومداك شفتهم متحاضنين وعم الصول بيبوس فيها بوسة عطشان. أكيد حباها عشان غلفاء.
وتنهد روكة الدوكة :
– عجيب كلنا جربناها! كلو مفتوحة ليه عم الصول عايز يعرسها ؟
ضحك ناركوك وغنى:
– البنت حلوة والريد قسم يا عينيّ .
شكيت محنك .. الله لا كشحك
كلام عديم ادب وخاطئ لغويا ودينيا