مقالات وآراء سياسية

السودان ومصر مرة أخرى

بدر موسى

 

 

أبدأ مقالي هذا بتقرير حقيقةً، ربما لا تحتاج إلى تقرير، هي أن العلاقة بين السودان ومصر تمر اليوم بتحديات كبيرة، وتحيط بها ملابسات مزعجة، ومخاوف، وسلبيات، تنذر بتدهور خطير، إذا لم تتم معالجتها، بالحصافة وبالحكمة اللازمتين. فقد تتردى لتصل بالبلدين إلى مشارف العداوات والمواجهات العلنية المباشرة، والتي ستكلف الدولتين، وتكلف شعبي وادي النيل، الكثير جدًا ، وتضر بالمصالح المشتركة ضررًا بليغًا، قد لا تتوفر فرصة إصلاحه قريبًا.

السبب الأساسي، الذي لا يخفى على أحد، ويشكل خلفية هذه الأزمة، هو استمرار احتلال مصر لحلايب وشلاتين. فهو مكمن مرارة الواقع الذي في الغالب سيلغي تمامًا أي احتمال لتأسيس علاقات شراكات اقتصادية استراتيجية قوية، تحقق للبلدين، ولمصر بالذات، مصالح أكبر وبما لا يقاس ما يمكن أن تجنيه من احتلالها لحلايب. والذي سيقود مصر، في أحسن الحالات، إلى الدخول في نزاع قانوني و قضائي دولي معقد مع السودان، لا يعتقد خبير قانوني دولي بأنه يمكن أن ينتهي بحسم تبعية حلايب لمصر،  بينما المؤكد أنه سيظل يمثل خميرة عكننة مزمنة، ربما تكون أقل خسائرها هي أن تؤلب العداوة والبغضاء بين الشعبين، لعقود طويلة، بطول سنوات التقاضي والنزاع، حتى قبل أن يفض عبر المحاكم أو عبر المؤسسات التحكيمية الدولية.

إن عشمي هو أن يتحلى الرئيس السيسي بالحكمة عند إعادة النظر لهذا الموضوع، شديد الحساسية، والمستفز بأقصى الدرجات السودانيين، وأرجوه أن يجد العبرة، الجديرة بالاعتبار، في ما خلص إليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، سنة ١٩٥٨، حين قام وقتها بإرسال قوات إلى المنطقة لإثبات أنها مصرية، وعندما أصدر رئيس الوزراء السوداني الراحل عبد الله خليل أوامره للجيش السوداني بالتحرك فورًا لتحرير حلايب، واشتكى السودان لمجلس الأمن، أصدر الرئيس عبد الناصر أوامره لقواته بالانسحاب الفوري من منطقة حلايب من داخلها، ومن الحدود المصرية – السودانية، جنوب غرب مصر، وأكد أن الحكومة المصرية غير راغبة في إشعال حرب مع شعب تعتبره شقيقاً. وجاء في تصريحات لعبد الناصر آنذاك قوله: “ساهمت في إعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين، لأن صلة الدم التي تربطنا بأهل السودان أقوى من الماء”.

وأنا أرى كذلك أن من أكبر مسببات هشاشة هذا الوضع الحالي المائل في علاقات البلدين، هو أن هناك سوء فهم متبادل، ما كان يجب أن يكون، لو سلم الجميع، وقبلوا، حقيقة أن ما يصلح من نظام حكم لإحدى الدولتين، لا يصلح بالضرورة  في الدولة الأخرى.

السودانيون، مثلًا، وخاصة بعد انتصارهم التاريخي  في ثورة ديسمبر، لن يرضوا بديلًا عن الحكم الديمقراطي، لأنهم قد جربوا ظلامات ومرارات أنظمة الحكم العسكري لأكثر من نصف قرن، وثاروا عليها، ونجحوا في اقتلاعها ثلاث مراتٍ، كانت آخرها ثورة ديسمبر الظافرة، والحاضرة، التي شهد كثير من المراقبين في مختلف بقاع العالم بأنها أعظم ثورة سلمية في التاريخ الحديث.

والمصريون من الناحية الأخرى، عندما ثاروا ثورتهم السلمية في يناير ٢٠١١، تأكدوا من التطورات التي أعقبتها بأن تطبيق الديمقراطية في مصر لن يفرز غير حكم الإخوان المسلمين البغيض، فرفضوها. وهم أساسًا لم يكونوا من الذين يأبهون كثيرأ لها، ولم تكن من أولوياتهم، طوال تاريخهم القديم والحديث. وقد أثبت لهم الرئيس السيسي صحة قناعاتهم هذه، والتي توارثوها أبا عن جد، وعزز إيمانهم بأن الانتصار في معارك البناء، ومعارك توفير الغذاء، والمسكن، والتعليم، والصحة، والدواء، هو خير ما يجب أن يطلبون الآن، والبقية من حقوق الممارسات الديمقراطية ربما تأتي حينما يحين حينها، وتصبح من أولوياتهم.

إن هذا الواقع يثبت حقيقة يدور حولها جدال كبير، يطرح تساؤلًا حول صلاحية نظام الحكم الديمقراطي في كل الأحوال، وفي جميع البلاد، وليس هذا موضوع مقالي.

 

وأنا أريد أن أسجل كذلك اعترافا، أعلم أنه سيجلب لي غضبًا من معظم السودانيين الذين يطالعون هذا المقال، وهو اعتراف قلما ما نسمعه هذه الأيام من كاتب سوداني: أنا أحب مصر، وأعشق كل بقعة جميلة فيها، وربما بجنون! وأنا أتابع، بأكثر مما يتابع غالبية المصريين أنفسهم، تفاصيل ملاحم البناء والعمران التي انتظمت مؤخرا، بضراوة، كل ربوع مصر تقريبًا. وأؤمن بأن ما تم إنجازه في مصر خلال الست أعوام الماضية، يعتبر معجزة تنموية، لا أعتقد أن التاريخ البشري الحديث قد شهد مثلها في هذا الحيز الزمني الوجيز في أي بلد.

لقد عشت في مصر زهاء الخمس سنوات، هي من أجمل سنوات عمري، وقد انتهت برحيلي عنها في في الربع الأول من تسعينات القرن الماضي، ولا يزال عبق تلك السنوات يملأ خياشيمي، ولا تزال ذكرياتي مع أصدقائي المصريين العديدين، وخاصة أصدقائي من الكتاب، والرسامين، وأصحاب المطابع، تشجيني وتطربني. فقد كنت فيها ناشرًا ناجحًا، بدعمهم، وبحبهم لي، وتلك قصة أخرى أرجو أن أجد الفرصة لكتابتها يومًا.

لقد وفرت لي تلك التجربة سانحة ممتازة للتعرف عن قرب على بعض مواهب المصريين، ومتابعة مهاراتهم الفذة في العمل اليدوي، واستعدادهم الكبير والفريد للعمل الإبداعي، وتقديسه، ومحبتهم لممارسته لساعات طوال، بلا كلل ولا ملل. وقد ظللت أترقب لسنوات، وأتوق لأن يشهد لهم العالم بكل هذا، وذلك بأن يراه العالم إنجازا ملموسًا يستحق المتابعة، وقد آنت هذه الفرصة الآن.

ولكني أعترف أيضًا بأني لم أكن أتصور، ولم أكن أتخيل مطلقًا، أن يبلغ استعدادهم، وقدراتهم على الإبداع والبناء والتعمير هذا الحد الذي أتابع ملاحمه اليوم، في بناء أكثر من عشرين مدينة جديدة، من مدن الجيل الرابع، وعلى رأسها (العاصمة الإدارية الجديدة)، التي أؤمن بأنها أكبر معجزة عمرانية تشهدها إفريقيا والشرق الأوسط، إن لم نقل العالم أجمع، بدون أدنى مبالغة.

البعض يزعم بأن هذا كله قد تم على حساب التفريط في الممارسة الديمقراطية، وفي حقوق الإنسان، ويتهمون نظام الرئيس السيسي بأنه نظام ديكتاتوري، يمارس الضغوط على شعبه، ويجبرهم على خوض ملاحم البناء. ولكن هؤلاء يتجاهلون أن مستويات الإبداع، وروعة الإنجازات، وجمالها، لا يمكن أن تكون قد تمت بأيدي المكبوتين والمضغوطين الذين لا يحبون أن يعملوا، أو بأيدي غير الموهوبين، وغير القادرين، على تقديم هذه النماذج العمرانية الرفيعة، التي تتحدى أعلى المعايير العالمية.

ولقد اتهم من قبل بمثل هذه الاتهامات الرئيس بول كاغامي، قائد ورائد نهضة رواندا، والذي ظل، ولا يزال، يحكمها منذ أكثر من عشرين سنة، فأخرجها من أتون الحرب الفتاكة، وتجاوز بها عهد المجزرة العنصرية الأكبر في التاريخ الحديث، والتي راح ضحيتها أكثر من مليون رواندي، حتى أوصلها إلى حيث هي اليوم، واحدة من أكبر نماذج منجزات التنمية المستدامة في إفريقيا، والتي تحقق أعلى معدلات النمو الإقتصادي فيها، وربما في العالم أجمع. فهل سألوا شعب رواندا إن كان هذا هو ما يريدون، أو أنهم يفضلون نظامًا ديمقراطيًا يهدرون فيه الوقت، وهم يتجادلون، و يتبادلون الاتهامات، والسرقات، مثل النظم التي تشهدها الدول الإفريقية المجاورة لهم، من التي لا تنتهي فيها الانتخابات إلا بالمعارك المسلحة؟!

الشعب المصري هو حقيقة شعب يحب العمل، ولا يأبه كثيرًا للديمقراطية، ولا السياسة. وهو يحب الرئيس القوي، الذي يبني ويعمر، وقد وجد في السيسي ما ظل يشتاق إلى رؤيته في رئيسه منذ قرون، وربما منذ زمن الفراعنة العظام من بناة الإهرامات. ويمكننا أن ننظر لهذه الحقيقة من خلال شتى المناظير، ونردها إلى الكثير من الأسباب، السلبية والإيجابية، والتاريخية القديمة أو الحديثة، ولكنها تظل في كل الأحوال  حقيقة.

لقد نجح الرئيس السيسي في اكتساب أرضية شعبية كبيرة، وهي شعبية نامية، ومطردة النمو، لأنه أعطى المصريبن الفرصة لممارسة ما يحبون، وهو البناء، والإبداع، وسرعة الإنجاز، والاستمتاع برؤية مصر تخطو خطوات واثقة نحو أن تكون أيقونة عمرانية عالمية، تبرز تفوقها في الجمال والألق، والفنون. ولقد أصبح هذا بائنًا اليوم، وسيصبح أكثر وضوحًا للعالم بعد سنة واحدة من الآن، حين تنتقل الحكومة المصرية إلى (العاصمة الإدارية الجديدة).

ومن الناحية الأخرى، نجد الكثيرين جدا من السودانيين غاضبين من عدم اكتراث الرئيس السيسي، والإعلام المصري، بثورتهم الظافرة، والتي كان مهرها أرواحهم ودمائهم العزيزة الغالية، واخطر من عدم الإكتراث يشعرون بتربص نظام السيسي بثورتهم، وذلك بسبب ما يرونه من محاولاته المعلنة، والمستترة، لتشجيع الجناح العسكري في الحكومة الانتقالية للسيطرة على الحكم، ثم تكرار تجربة نظام حكمه في مصر، وهي التي يرون أنها  لا تصلح مطلقا للسودان! وكل يوم يمر يتأكد لهؤلاء من غالبية الثوار، من مجريات الأحداث، ومن زيارات رئيس المخابرات المصرية المتكررة للسودان، ومقابلاته مع الفريقين عبد الفتاح البرهان وحميدتي، بأن نظام الرئيس السيسي يتآمر مع الجناح العسكري في الحكومة الانتقالية ضد المدنيين، ويكره أن يرى ثورتهم تتقدم منتصرة، و يخشى من نجاحهم في إقامة الحكم المدني الديمقراطي، بدعم وسند دولي كبير، ويرون بأن المصريين قد ظلوا دائمًا ينطلقون في تعاملهم مع السودان من منطلقات العطف المعلن، والطمع المخفي. وهم لكل هذا لا يرون إنجازًا كبيرًا، أو شيئًا إيجابيًا وجميلًا يجري في مصر، ولا يحرصون على متابعة أي عمل فيها.

وأخطر من هذا أنهم صاروا اليوم أبعد ما يكونون عن القبول، والحماس لفكرة، التكامل الاقتصادي الاستراتيجي، الذي يشترط فيه أن يقوم على الندية، حتى ينجح في أن يحقق المصالح المشتركة، الضرورية والملحة للبلدين. فمن يلومهم؟!

إن من الخير للرئيسين، عبد الفتاح السيسي، ولعبد الفتاح البرهان، وكذلك للفريق حميدتي، أن يقبلوا ويسلموا جميعًا بحقيقةً أن ما يصلح في مصر لا يصلح في السودان، ولن يتم تطبيقه في السودان إلا على رقاب الملايين من الثوار، من أبناء،  ومن كنداكات، السودان، وربما بعد خراب مالطة.

فلكل هذا أنا أريد أن أناشد الرئيس السيسي كذلك بأن يستثمر في محبة الشعب السوداني، وفي القبول بخياراته، وفي مشاركته الفرحة بثورته، لأن بديل هذا خطير، وينذر بشر عظيم.  وأناشد الرئيس السيسي بأن يعتبر كذلك بما قاله شاعرنا الراحل العظيم، الذي يعتبره بعض المصريين مصريا، محمد مفتاح الفيتوري:

 

إنى أخوك فلا تعق أخوتي..

فتزيد بركانيتى وقدا

إياك..

لا تبذر بذور عداوتي..

فتعود تحصد شوكها حصدا

إياك لا تزرع حقولك عوسجا..

إنى زرعت حقولي الوردا

 

بدر موسى <[email protected]>

 

‫2 تعليقات

  1. من مصرى
    احترم رأيك فكل ما قلته سواء اختلفت معك فى بعض النقاط او اتفقت معك فى البعض الاخر، و اتمنى ان القيادات السياسية فى مصر و السودان ان يتوصلوا لحل عادل تتوافق عليه مصر و السودان فى مسأله حلايب و شلاتين.

  2. قرأت مقالا ممتازًا بعنوان مصر المطبعة مع إسرائيل ترفض تطبيع السودان!! .. بقلم: فيصل الدابي/المحامي، نشر بصحيفة سودانايل الالكترونية بتاريخ: ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٠، وردت فيه تصريحات عدد من (الخبراء) المصريين، لا شك عندي أن مصدرها الواحد هو (قلم السودان) بالمخابرات المصرية، وهي في حقيقتها توجيهات من يزعم يعرف مصالحنا أكثر منا، ولكنها للتمويه تصدر وتنشر في شكل (آراء خبيرة)، أو قل (نصائح)، ملخص مضمونها أن من الأفضل للسودانيين أن يرفضوا التطبيع مع إسرائيل، لأنه ليس في مصلحتنا، (التي يعرفونها طبعًا، ويحرصون عليها، بأكثر مما نعرفها نحن ونحرص عليها)!!
    فعلى الرغم مما ورد في المقال: (رحبت مصر، التي عقدت سلاما مع (إسرائيل) منذ 40 عاما، باتفاقية التطبيع الموقعة بين الإمارات و(إسرائيل) في 13 أغسطس/آب الماضي. ..وكتب الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي”، في تغريدة بتاريخ 13 أغسطس/آب، تعليقا على الاتفاقية: “سيجلب هذا الاتفاق السلام إلى الشرق الأوسط”.
    أورد المقال ما يؤكد المعارضة المصرية القوية و(الممنطقة) لتطبيعنا! مثل قول الباحثة المصرية في الشؤون السودانية “صباح موسى بأن: “إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يعني أن الولايات المتحدة ستستنزف الخرطوم ماليا) وقولها: (لا أعتقد أن تطبيع العلاقات مع (إسرائيل) سيكون مفتاح حل مشاكل السودان السياسية ومع ذلك، تميل بعض الأحزاب في السودان إلى الاعتقاد بأن هذا صحيح لكن هذه فكرة خاطئة، خاصة أن استثمارات (إسرائيل) في السودان ستفيد (إسرائيل) بشكل أساسي وتستنزف موارد السودان الطبيعية على وجه الخصوص)!!
    هل رأيتم استخفافًا وازدراء بقدرنا أكثر من هذا؟! ألا يستطيع مفاوضونا حول التطبيع تأمين مصالحنا وضمانها، مقدمًا، وقبل توقيع أي اتفاقيات مع أي دولة كانت؟!
    وإزاء حالنا المائل هذا، بماذا إذن ينصحنا هؤلاء (الخبراء) لمعالجة هذا القصور في مقدراتنا؟! هل يريدون منا، لا سمح الله، (تفويضًا) ليتفاوضوا بإسمنا، فنتبعه بالبصم على ما يقررون بشأننا، كما يفعل كل قاصر مع الوصي عليه أو ولي أمره العاقل الرشيد؟!
    إن حقيقة الأمر، ودوافع وأسباب قلق مصر، وخوفها، من اكتمال التطبيع مع إسرائيل هو علمها بأنها ستخسر كثيرًا من هذا التطبيع، إذا قدر له أن يتم. فهي تعلم أننا بتوقيعه سنقوى، ونتجاوز ما يكبلنا من عقبات اقتصادية، تكاد تهزم ثورتنا، وتعرقل انطلاقتها، وذلك بما يؤمنه هذا الاتفاق من دعم اقتصادي دولي، سريع ومباشر، وما يعقبه من رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والذي سيفتح بدوره أبواب التمويل الدولي على مصاريعها لإكمال مشاريع النهضة التنموية الحقيقية، كما سيحظى السودان بعد التطبيع على تأييد دولي، هام ومؤثر، ليدعم مواقفنا، وخاصة من حلفاء إسرائيل في الساحة السياسية الدولية، الذين نحتاجهم في معركتنا الحتمية القادمة لاسترداد أراضينا في حلايب وشلاتين التي احتلتها مصر وأخذتها عنوة نتيجة لغفلة وضعف الإنقاذ.
    وأكثر من هذا، وربما أهم، يعضد هذا التطبيع ويقوي ديمقراطية السودان الرخوة، لأن هذا الاتفاق سيكون مع الدولة الديمقراطية الوحيدة، والحليف الأكبر للولايات المتحدة، والحليف لأكبر الدول الغربية، في الشرق الأوسط.
    وكل هذا مما لا يعقل أن تقبله مصر، التي يمسك بتلابيبها نظام حكم عسكري ديكتاتوري باطش، تتهدده الآن مظاهرات المعارضين بقوة.
    لن يكون طعم ديمقراطية السودان عسلًا في فم مصر، الشره لكل ما تستطيع قضمه وابتلاعه من أراضي وثروات السودان، والتي لا يسهل عليها استباحتها إلا تحت ظل نظام حكم ديكتاتوري فاسد، ومهترئ، مثل نظام البشير، والذي تغولت في عهده في أراضينا بالإقليم الشمالي، وزرع خلاله الجيش المصري ملايين الأفدنة لمصلحة الشعب المصري، وبدون حتى علم الشعب السوداني. وتوقيع التطبيع يهدد بإلغاء كل اتفاقيات الفساد المشبوهة، التي عقدها المصريون مع الفسدة من عملاء الإنقاذ، والتي وصلت حد إقامة مصنع لتصدير اللحوم السودانية في توشكي، وسرقة الذهب السوداني في وضح النهار.
    كنت قد كتبت مقالا من قبل قلت فيه:
    (… إن حكومة مصر، العسكرية الديكتاتورية، والتي تحكم سيطرتها على شعبها بالقبضة الامنية، ولا تؤمن بالديمقراطية، ولا تعرفها، عبر تاريخها القديم، والحديث، لا قيادة ولا شعب، تعلم بأن مصلحة نظامها، العسكري، لا تكمن في نجاح الشعب السوداني في إقامة نظام ديمقراطي ناجح، وكامل الدسم، تحكمه حكومة قوية، ذات إرادة حرة، ومستقلة عن دائرة نفوذها، ستسعى غالبا، وبالضرورة، أول ما تسعى، لاسترداد حلايب، وكل المسلوب من أراضيها، واستعادة حصتها المائية الكاملة من مصر، والتمتع بإرادتها الحرة، وحقها في التعاون مع جارتها إثيوبيا، بما يحقق مصالح الاثنين، وتأييدها، مثلا، لإقامة سد النهضة، أو توقيعها على اتفاقية عنتيبي، وكلها تطورات ستكون خصما على حساب المصالح المصرية، التي كثيرا ما تتقاطع مع المصالح السودانية؟!
    (… وماذا عن احتمالات فقدان مصر للعملات الصعبة التي تصب على اقتصادها من السودانيين، وتضطرد زائدة كلما زادت الأحوال سوءا في السودان؟! إن السودانيين اليوم، وكما ظلوا منذ مجيء وبداية دمار الإنقاذ للسودان، بهربون إلى مصر، ويرفدون الاقتصاد المصري بعدة مليارات من الدولارات كل سنة.
    (… هذه هي البلايين التي لم تصدر بها أي إحصاءات مصرية رسمية توضح قدرها، وغالبا لا يعرف حجمها الكبير غير القيادة المصرية، والمخابرات، والخزانة المصرية. ولكن يمكننا أن نتصور ونقدر ما يرفد به السودانيون الاقتصاد المصري، وتقدير حجم ما يحولونه، من عملات صعبة، ويصرفونه في مصر، حيث يقدر عدد من ارتحلوا للإقامة الدائمة فيها بأكثر من ثلاثة ملايين سوداني، ويقدر عدد من اشترى شققا ومساكن منهم بأكثر من ستمائة ألف، على أيسر التقديرات، ويزور مصر سنويا، غير هؤلاء المقيمين، ملايين السودانيين، و المقتدرين خاصة، للتعليم، والعلاج، وللزيارات السياحية، لقضاء شهر العسل، ومقابلة أبنائهم المغتربين..).
    لماذا تفترض مصر بأن إسرائيل يمكنها بالتطبيع أن تستنزف مواردنا نحن فقط؟ اليست هى نفسها قد طبعت علاقتها بإسرائيل دون أن تستطيع اسرائيل استنزافها؟ ولماذا تبارك مصر تطبيع علاقة إسرائيل مع الإمارات؟ ودون ان تقول بان هناك خطر على الامارات من أن تقوم اسرائيل باستنزاف مواردها؟ اليست هذه مجرد اساءة للشعب السودانى؟ واساءة لعقولنا؟ ثم ما الذى تريده مصر من السودان ليفعله لاسرائيل؟ هل تريد منا أن نخوض حرباً بالوكالة ضد إسرائيل نيابة عنها؟ …. بدر موسى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..