المثقف وحيز الإنتماء

إيمان الرياحي

يطالعنا أمين معلوف في مؤلفه «الهويات القاتلة» بتعريف طريف لهويته إذ يعتبر نفسه لبنانيا وفرنسيا في الآن نفسه. كلما سأله الناس «من يكون؟» يجيب «أنا هذا وذاك» ويشرح الكاتب إجابته مبينا أنها لا تنبع عن حذر أو عن رغبة في تحقيق التوازن، بل هو صادق في ما يشعر به ويخبرنا عنه، فهو كيان عربي في أصله وفي بعض عاداته واحتفالاته، ولكنه في الوقت نفسه يعيش في فرنسا، وهي مقام كريم بالنسبة له.
إن هذا الكلام يباغتنا لأن الهوية تشير عادة إلى ما به تتحدد الخصوصية الجماعية، فيكون كل تعريف للذات مطابقا للانتماء الواحد ذاك الذي تتخذه الجماعة الثقافية نمطا في العيش ونموذجا يحتذى. ينتقد معلوف هذا التصور الذي ينتهي بالناس أحيانا إلى الانغلاق على الذات ونبذ الآخر المختلف وتنزيله في مرتبة دونية، واعتباره مصدر خطر محدق بالثقافة، وقد يؤدي هذا طبعا إلى التعصب والعنف والشوفينية، وليس أدل على ذلك من وجود مجموعات بشرية تتعرض للاضطهاد بسبب أصلها أو لونها، وأخرى تسفك الدماء لتثأر لنفسها وتنتقم من أولئك الذين مارسوا ضدها في السابق تمييزا عنصريا وخلفوا في ذاكرتها جرحا عميقا. ضمن هذا المنطق تُشن حروب عديدة بدعوى تأصيل الكيان أو إعادة الاعتبار للذات، وكم من مرة على مدى التاريخ تتحول الضحية إلى جلاد «عندما نحدث معاصرينا على تأكيد هويتهم مثلما نفعل اليوم في أغلب الأحيان، فما نقصده هو أن عليهم أن يجدوا في أعماقهم ذلك الانتماء الأساسي المزعوم، الذي غالبا ما يكون دينيا أو قوميا أو عرقيا أو إثنيا، ليرفعوه بفخر في وجه الآخرين».
تعطينا تجربة معلوف إذن مثالا على ما نصطلح عليه بـ»الهوية المركبة» التي تدل على التنوع الحاصل في إطار الوحدة. نفهم هذا عندما يوضح أنه لا يتحدث عن هويات عديدة، بل يتعلق الأمر بهوية واحدة متكونة من عناصر مختلفة، تجعل من حياته مسارا ثريا وفريدا ومتميزا. بهذا المعنى، هو يدعو إلى ضرب من المرونة في التعايش، لعلها تخلص الناس من الاستبداد وتجنبهم ما يسميه بـ»انحرافات الهوية القاتلة». نلاحظ هنا التداخل الحاصل بين السيرة الذاتية للمؤلف مع تصوره الفكري للثقافة. يذكرنا هذا حتما بالأكاديمي والناقد والموسيقار إدوارد سعيد، الذي يؤمن أيضا بتعدد منابع الثقافة وتطورها ونحن نعثر في كتاباته على تصور آخر مخصوص للهوية، تلك التي لا تتحيز في إطار المكان.
ولد إدوارد سعيد في فلسطين وأصله عربي مسيحي من أب فلسطيني متحصل على الجنسية الأمريكية وأم لبنانية، ثم هاجر مع عائلته إلى مصر، فدرس في القاهرة أيام طفولته الأولى ثم هاجر إلى أمريكا، حيث تحصل على الجنسية الأمريكية، وواصل تعليمه حتى صار أستاذا لامعا في جامعاتها. لقد أثر كل هذا الترحال عليه ولم يكن يعرف في الأرض مستقرا، لا بل إن تساؤله عن أصله راوده في سن مبكرة جدا، وتحديدا لما كان زملاؤه في المدرسة يتحدثون عن العودة إلى أوطانهم خلال العطلة الصيفية، وهو في المقابل لم يكن يفهم معنى ذلك على نحو دقيق. كان لا يعلم حتى إن كان ثمة بقعة على هذه الأرض يفترض أنه سيعود إليها أم لا؟ تتداخل في ذهنه مناظر قديمة وأخرى جديدة، إلى أن اعتاد على زوايا متعددة في السكنى والنظر والتفكير. بهذا المعنى، مثل له المنفى حيزا لإثبات ذاته ولتحقيق هويته «خارج المكان» كما يشير إلى ذلك عنوان مؤلفه. ذلك أنه حرره من نرجسية هوية أزلية ومن عصبية قومية عنيدة ومن نعرة حمية لا تفكر، بل استقل عقله حتى أبى أن يقيد تأملاته داخل إثنية واحدة، فأزال بذلك حدودا بين ثقافات رأى فيها ? على تنوعها ? نقاط التقاء كثيرة، وقد أدى كل ذلك في النهاية إلى نقد المركزية الثقافية والإمبريالية التي تنصب نفسها محور العالم. إن المثقف إذن هو ذاك الإنسان الذي تتسم أعماله بطابع الكلية. هو من يتطلع نحو آفاق شاسعة لأن المكان يتشكل أيضا في الفكر، هذا الذي يخبرنا عن الأوطان بدون الانغلاق في حيز مكاني واحد. إن القراءة بدورها فضاء مخيال وسفر وكما قال محمود درويش «كم من بلد أحببناه، دون أن نعرفه، لأننا أحببنا أدبه».

أكاديمية تونسية
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..