مقالات وآراء

التعليم العالي والموت البطيء

طارق يسن الطاهر

      تكابد جميع الأسر في رعاية أبنائها ، وتوفر لهم كل متطلباتهم  في سبيل تهيئتهم ليتمكنوا من دخول الجامعة، تلك الجامعة التي تعد حلما جميلا ، وهدفا نبيلا لكل طالب ، وهي مرحلة مفصلية في حياتهم وحياة الأسر ؛ حيث ترى الأسر أن عبء تحمل مسؤولية ابن من أبنائها قد أوشك أن يسقط عن كاهلها.
لكن المتابع لشأن التعليم العالي في السودان ، وحال جامعاتنا يجد عجبا ؛ فالرؤية ضبابية والطريق مظلمة ، ولم تعد المرحلة الجامعية هي التي تؤهل طالبا لسوق العمل ولا حتى تُشعر أسرة بدنو راحتها ، حين تظن أن ابنها أوشك على التخرج.
لن أتكلم عن تراجع تصنيف الجامعات السودانية ، وخلو اسم أية جامعة سودانية من قائمة أفضل جامعات العالم، فذلك أمر معروف، يعود لضعف  ما يقدم فيها ، وبالتالي ضعف مخرجاتها ؛  فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
حديثي هنا عن توقف مسيرة هذه الجامعات، وتعطل الدراسة فيها ، تعطيلا مبررا حينا ، وغير مبرر أحيانا.
يحس المشغول بهموم الجامعات السودانية أن هناك تدبيرا محكما ، وخططا ممنهجة، لتدمير التعليم العالي ؛ فقد بدأ ذلك في عهد النظام “غير البائد” – غير بائد ؛لأنه ما زال يحكمنا ؛ فالعقلية لم تتغير للأسف-  بدأ ذلك فيما يسمى زورا وبهتانا بثورة التعليم العالي ، وفتح عدد كبير من الجامعات بدون دراسة ولا تخطيط ، فأصبحت النظرة للكم وليس للكيف ، حيث ضعفت قدرات الخريجين ، وتضخم عدد حاملي شهادات الدكتوراه ،وهم لا يُحسنون تركيب جملة واحدة ، تسمع لأحدهم يتحدث ،فتحتقره وتزدريه؛ لتواضع معرفته ،ولضآلة قدراته ،وحينما ترى تلك “الدال” تزين  اسمه تتذكر قول الشاعر :
ألقاب مملكة في غير موضعها        كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
منحت الحكومة السابقة شهادات لغير مستحقيها ، واستشروا كالسرطان في الجامعات ومكّنتهم من إداراتها، وهم لا يستطيعون إدارة  بيوتهم.
لكن ، الآن نحن في عهد ثورة ووضع جديد ، كنا نؤمل كثيرا- خاصة أن أعضاء هذه الحكومة من حملة الشهادات العليا الذين يقيّمون التعليم ،ويقدرون له قدره –  أرى أنه لم يتغير الكثير في شأن التعليم العالي ، فما زالت الجامعات تتعطل لأتفه الاسباب ودون بدائل ، وهناك تراكم لدفعات لا أدري كيف تفعل بهم وزارة التعليم العالي ، وهناك طلاب تأخر تخرجهم لسنتين ، وليس ذلك لرسوبهم ، وإنما بسبب إغلاق الجامعات ،وعدم توفير البديل الموضوعي  .
كل الدول بسبب جائحة كورونا أغلقت الجامعات ، وأوقفت التعليم الحضوري، ولكن لم يتوقف التعليم تماما ، وإنما وضعت الحكومات المسؤولة بدائل لتستمر مسيرة التعليم، فكان التعليم عن بعد قادرا على أن يكمل معه الطلاب تعليمهم.
بنيتنا التحتية الإلكترونية هشة ، ولم تكلف الحكومة نفسها بأن تقويها لتستوعب الطلاب كي يستمروا في تعليمهم.
والآن تفاقم الأمر حين أعلن الأساتذة إضرابا مفتوحا بسبب رفض وزارة المالية صرف مرتباتهم بالهيكل الراتبي الجديد ،رغم أنهم ضمن موظفي الدولة الذين يستحقون ذلك،
توقف التعليم قرابة العام أيام ثورة ديسمبر المجيدة، ثم توقف حوالي نصف عام بسبب كورونا، والآن بعد أن أعلنت الجامعات عن عودة الدراسة تبادرنا وزارة المالية بمنع أساتذة الجامعات من حقوقهم ، فدخل الأساتذة في إضراب ، وتوقف معه التعليم قبل أن يبدأ ، والآن وقد حُلت المشكلة أرجو أن يكون الحل دائما تستعاد معه الدراسة بشكل مستقر !!!
المتضرر من كل ذلك هو الطالب المحروم من إكمال تعليمه ، والأسرة التي كابدت في سبيل توفير مصروفات ابنها كي يكمل تعليمه ، وتنتظر يوما تضع فيه حمله من على ظهرها ، لكن الحكومة  – للأسف – تطيل ساعات ذلك الأمل .
فعلا ، التعليم العالي يموت موتا بطيئا في بلدي ، والقاتل معروف والضحية معروفة ، ولو نظرنا بموضوعية لبعض الأضرار المترتبة على هذا الإغلاق المستمر والمتكرر ، نجد ما يلي:
أولا : ضعف مستويات الخريجين العلمية بسبب انقطاع الدراسة المتكرر.
ثانيا: تراجع قدرات الأستاذ الجامعي العلمية بسبب عدم انتظامه في العمل.
ثالثا : هجرة عدد من الأساتذة المتمكنين للخارج.
رابعا  :أضرار اجتماعية تتعلق بزيادة نسبة البطالة، وكثرة الجرائم ،والمشاكل الأسرية بسبب وجود هذا العدد الكبير من الطلاب دون شيء يشغلهم.
خامسا : تراجع عدد الطلاب العرب والأفارقة الذين يأتون للدراسة في السودان بسبب هذا التعطيل .
سادسا  :انصراف عدد كبير من دارسي الدكتوراه والماجستير من الدول العربية والإفريقية عن الالتحاق بالجامعات السودانية.
سابعا :فقدان الجامعات السودانية لدورها الريادي في المجتمع الداخلي.
كيف ينبغي لبلد أن ينهض،  والتعليم فيه متوقف ؟!
لذا على الحكومة أن تبادر عاجلا غير آجل بوضع الحلول الجذرية  ، وبمعالجة كل المشكلات وتذليل كل العقبات، كما عليها أن تقوي البنية التحتية الإلكترونية ؛ احتياطا ، حال توقف التعليم الحضوري .
وعلى الحكومة الحالية أن تضع نصب عينيها أنها ستلاقي من اللعنات الكثير من الحكومة القادمة ،كما لعنت هي  سابقتها ؛  لأنها ستورثها نظاما تعليميا متهالكا ، وخريجا غير مؤهل، وطالبا معطلا، وجامعات مغلقة ، ومسيرة تعليم متعثرة ، ، ويكون حالنا : كلما دخلت أمة لعنت أختها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..