مقالات وآراء سياسية

الصراع القبلي في دارفور: بين انتشار السلاح والواقع الاجتماعي

د. مهدي تاج الدين عبدالنور

 

غني عن القول أن نقول أن الانتشار الكثيف للأسلحة بين المواطنين زاد من ضراوة الصراع ، ولكن الصحيح أيضا أن مجرد امتلاك المواطنين للسلاح في حد ذاته ليس كافيا لاندلاع الحرب والاقتتال مالم تكن هنالك أسباب أخرى هي التي تؤجج الصراعات.
للوقوف على حالة الاقتتال القبلي في دارفور لابد من تتبع تاريخ تطور المجتمع هناك، وبشكل عام؛ فإن المجتمعات البشرية قد مرت أو تمر بثلاث مراحل متميزة هي: مرحلة المجتمع التقليدي ،مرحلة المجتمع الإنتقالي ومرحلة المجتمع الحديث. وأن لكل مرحلة سماتها المميزة وللأفراد فيها اتجاهات رأي وسلوكيات مميزة . نجد أن الاقتتال القبلي كظاهرة اجتماعية لا تعدو أن تكون اتجاه رأي وسلوك يفرضه واقع المجتمع التقليدي، والمجتمع الإنتقالي ، وأن تغيير الظاهرة يكمن في تغيير البيئة الاجتماعية أولاً، حيث يندر أن نجد الإقتتال القبلي بين المجتمعات الحديثة.
إن المجتمعات البشرية تتغير من تلقاء نفسها أحياناً ولكنها تتغير بوتيرة اسرع نتيجة التأثير الخارجي في اغلب الأحيان. في حالة المجتمعات الدارفورية فإن بروز السلطة الإقليمية أو المركزية كان له الأثر المباشر في تغيير تركيبة المجتمع المحلي وإكساب أهله اتجاهات الرأي والسلوك، بعضها كان إيجابياً والبعض الآخر سلبياً. خاصةً وأن ثقافة العنف ترتبط ارتباطاً عضوياً بالمجتمع في مرحلة التقليدية وقد يستصحبها المجتمع وهو يتجاوز هذه المرحلة.
كما أسلفت أن المجتمعات البشرية يمكن تصنيفها في محورين متقابلين متضادين هما المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث ، وبين المحورين تصنيف لمجتمع ثالث فضفاض في صفاته وتبعاته يعرف بالمجتمع الإنتقالي ، إن هذا المجتمع الإنتقالي هو الذي يجسد واقع المجتمع الدارفوري ولكن سماته ودلالاته لا نستبينه إلا بالتعرف على المحورين التقليدي والحديث وبالتركيز على المحور التقليدي لأن الجزء الأكبر من مواطني الأرياف مازالوا في هذه المرحلة وإن كان المجتمعات الحضرية قد دخلت في المرحلة الإنتقالية هذه من ناحية . ومن ناحية أخرى أن المجتمع الإنتقالي يستصحب معه العديد من سمات المجتمع التقليدي حتى بعد أن يتغير من الناحية الشكلية إلى الإنتقالية.
ولبيان ظروف مجتمعات القبائل في دارفور لابد من التوقف عند بعض ركائز هذه المقارنات :
أولاً – (الإسترابة في مقابل الحيادية): لأن طغيان الإسترابة يقود إلى الإقتتال والمقصود بالإسترابة،تحديداً هو ميل الفرد لرؤية الآخرين في إطار عاطفي فالآخر إما صديق أو عدو،خير أو شرير،يضمر السوء أو يجلب الخير. لامجال لحيادية الأشياء عند الإنسان التقليدي فهي إما صحيحة أو خاطئة ،مرغوبة أو مرفوضة ،كل ذلك تأسيساً على المنطلقات الذاتية للفرد.يتبع ذلك إفتراض أن الآخرين لايتصرفون بحيدة إزاء المواقف أمامهم.يعتقد الإنسان التقليدي أن الفرد الآخر يضع مصلحته في المقام الأول ومن العبط ألا يضع هو أيضاً مصلحته في المقام الأول.
نجد أن إنسان المجتمع الحديث يفترض الحيدة في الأفراد الآخرين وفي الأشياء من حوله ويتعامل معهم وفقاً لذلك .بينما نجد العديد من الشواهد الدالة على سيادة النظرة المستريبة للآخرين وانقسام الناس إلى (نحن) و(هم ) وسيادة التداعي التلقائي للمشاعر العدائية في مجتمع دارفور. ويمكننا تصور هذا التداعي التلقائي وكيف ينشأ ويتطور بين شخصين: أنا أتوهم أنك معادٍ لي ولذلك فإني أقابلك بشعور معاد.أنت،وبصرف النظر عن شعورك الأصلي،تشاهد مشاعر المعاداة من جانبي فترد بالمثل علي، أنا بدوري أجد هذا الشعور المعادي من جانبك يدعم إحساسي الأساسي بأنك تضمر لي العداء. وهكذا يتطور المشهد الذي يفضي إلى الإحتراب من مجرد التوهم.
وبالإمعان في الكثير من حالات الإعتداءات التي راح ضحيتها المئات من سكان دارفور إذا سأل القاتل لم قتلت لما امتلك إجابة شافية ، إلا أن استعداد الأفراد في المجتمع التقليدي للإحتراب لا يسببه فقط الشعور المتبادل بالعداوة ، إن هذا الشعور نفسه نتيجة وليس سبباً للأوضاع التي تسود في المجتمع التقليدي ، إذ أن علاقة الريبة والشك والعداء بين الأفراد والجماعات تسببه عوامل موضوعية يجدر التوقف عندها، إذ هناك سمتان أساسيتان تميزان واقع المجتمع التقليدي في دارفور هما: الإنعزالية وعدم الأمان. وتتخذ الإنعزالية ثلاثة محاور: الإنعزال المكاني ،الإنعزال الاجتماعي، والإنعزال الفكري، فالمجموعات التقليدية تعيش متباعدة عن بعضها البعض مكانياً ، قرى صغيرة أو فرقان أو دمر(جمع دامرة) تفصلها عن بعضها جبال وعرة ،صحارى ، وديان …الخ، ولأنها بدائية فهي لاتملك وسائل التغلب على هذا الإنعزال الذي يتطلب توفير وسائل الربط من طرق وكباري ومطارات.
أما الإنعزال الفكري فتسببه الأمية التي تسود وسط المجموعات التقليدية خاصة في الريف الدارفوري فتحجب انسياب المعرفة المشتركة ، ويجئ الإنعزال المكاني والاجتماعي ليرسخ هذا الإنعزال الفكري.وهكذا يتولد الإحساس بضرورة احتماء الأفراد بالأسرة وبالعشيرة في وجه المجموعات الأخرى المعادية.فتنشأ العصبية العشائرية لتلبية هذه الحاجة .وتلعب الأسرة في دارفور دوراً أساسياً في توفير الأمن لأفرادها في غياب أجهزة الدولة الرسمية. ومن ثم تتشكل الأسرة الصغيرة باعتبارها النواة الأساسية للرباط العشائري ثم تشكل مجموعة الأسر الممتدة كيان القرية الصغيرة أو الفريق ومن هذه الأسرة الممتدة تتشكل القبيلة والفروع داخل القبيلة،وبالنسبة للعديد من أفراد المجتمع الدارفوري فإن القرية أو الفريق هو عالمه، ولاؤه ونشاطه الاجتماعي قل أن يتعدى هذا النطاق الجغرافي الاجتماعي، وداخل هذا النسيج الاجتماعي فإن الأسرة تلعب الدور الأساسي في تنشئة الطفل وإعداده ليلعب هو الآخر دوره في مقبل أيامه.إن الأدوار التي يلعبها النشء ذاتها بسيطة ومحددة ، فالذكور يتقلدون آبائهم والإناث يقلدن أمهاتهن.من أهم القيم التي يتعلمها النشء في المجتمع التقليدي الدارفوري هي ثقافة ذلك المجتمع ، وما يعنينا من هذه الثقافة هو مايتصل منها بالنزاع والإحتراب ويمكن تناولها من خلال المحاور التالية:
أ – الريبة والتشكك في نوايا الآخرين ،أفراداً أو جماعات.
ب- العصبية والعشائرية
ج- الضجر والإحباط
د- العنف
– الريبة والشك في نوايا الآخرين:
يتشكل هذا الإحساس من واقع الإنعزالية التي سبقت الإشارة إليها. فالناس أعداء لما جهلوا.وتجئ التنشئة لتغذي هذه العداوة.فالطفل يحذر من ان يكون غافلاً وهو يتعامل مع الآخرين .وتروى له قصص الحروب والإقتتال مع المجموعات الأخرى وأنهم كجيل يعدون بقايا (قَتلة) .والناس مقسمون إلى (نحن)و(هم) أو (عرب) و (زرقة) تعني باللغة الدارجة (السود) أو (رعاة) و(مزارعين)…إلخ. وفي إطارها تنشب المعارك من مجرد توهم العداء كما سبقت الإشارة.
– العصبية العشائرية :
هي الحالة النفسية التي تنشأ من صلة الدم والنسب، تقوى كلما قويت هذه الصلة وتضعف بضعفها ، وهي تعود من جانب آخر إلى عدم الأمان الذي يسود في المجتمع الدارفوري التقليدي الذي شهد العديد من الصراعات عبر تاريخه الطويل فأصبحت هنالك حاجة الفرد إلى حماية الأسرة والعشيرة . وتلعب التنشئة دوراً مهماً في ترسيخ مفاهيم (نحن أو هم ) فيهب الفرد لنصرة العشيرة ويقتص لها من (الأغراب) ومن ثم اصبحت العصبية العشائرية قيمة اجتماعية بحد ذاتها منفصلة عن الحاجة المادية التي كان سببا في وجودها.
– الضجر والإحباط:
يوصف المجتمع التقليدي في دارفور بأنه بسيط والأدوار التي يؤديها أفراده واضحة ومحددة بالمقارنة إلى واقع المجتمع الحديث ذي التعقيدات والتحديات.ولكن ذلك لا يعني خلو هذا المجتمع الدارفوري من مسببات الضجر والإحباط ، بل إن الضجر قد يتولد من هذه البساطة نفسها . ثم إن المجتمع التقليدي كما هو في دارفور طبقي بدرجة عظيمة.فالحياة قائمة على علاقة تراتبية تقوم على الأمر والنهي،الصغار ينصاعون للكبار بلا جدال ،القرارات الهامة تتدلى دائماً من أعلى ، فلا مجال للخصوصيات الفردية حتى في أمور غاية في الأهمية مثل اختيار الزوج.كل ذلك يقود إلى الضجر والإحباط ويجد متنفساً له في الإعتداء على الآخرين.
– ثقافة العنف:
حالة عدم الأمان التي تسود في مجتمع دارفور ، تقود باتجاه الاستعداد النفسي والبدني لمجابهتها .صارت الشجاعة والإقدام قيمة اجتماعية وبخاصة لدى الذكور ، وتسود في مجتمع دارفور ثقافة(العيب).أكثر ما يتجنبه المرء أن يظهر معيباً عند الآخرين بخاصة ما يدل على الجبن أو الفشل في نصرة الأقربين. حيث نجد في العديد من القبائل النساء هن المحكمات على سلوك الرجال ، يتغنين بأفضال الرجال إذا كان مسلكهم يشرف القبيلة ويتغنين بهجاء الجبان ووسمه بالعيب.
ثانياً- التسلط الأسري:
إن الإنسان يولد ” صفحة بيضاء” ويكسب كل قيمه وتوجهاته من التنشئة الاجتماعية ، حيث نجد أن المجتمعات القبلية خاصة في دارفور التي تسود فيها علاقة القرابة وينتشر فيها نمط الأسرة الممتدة بأن الأسرة فيها (أوتوقراطية) مستبدة تكرس الاستبداد من خلال التنشئة ، كما تعود الفرد منذ طفولته الاعتماد على الأسرة بدلاً عن الاعتماد على النفس والاستقلالية ، فكثيراً ما يتم تزويج البنت أو الرجل حتى من دون علمه أو يطلق زوجته بالإنابة عنه ويكون أمامه خياران إما زوجته أو بقية عشيرته وأهله.
يتأثر الفرد بالبيئة التي يعيش في محيطها نتيجة للتفاعل الاجتماعي ، فيتأثر بثقافتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وتسهم كل ذلك في تكوين وتشكيل شخصيته وبالتالي تنعكس على اتجاهاته وطرق تفكيره والتعبير عن إنفعالاته وقدراته وسلوكه. وعليه فإن المهارات والهوايات يتم تعلمها من خلال التفاعل مع الوالدين ، على سبيل المثال أطفال الموسيقيين يميلون للموسيقى والذين يربون الأبقار (المواشي) غالباً ما يحثوا أبناءهم على رعاية مواشيهم .فالاتجاهات والمهارات التي يكتسبها الأبناء من الوالدين تماثل في أهميته تلك التي يتم تعلمها في المؤسسات التعليمية .
فالوالدين لديهم الفرصة لاعطاء أبنائهم رسائل واضحة وصريحة بأن العراك والعنف غير مقبول وتوضيح بعض البدائل لحل الصراعات. كما أن اتجاه الوالدين نحو العراك ذو تأثير قوي على سلوكيات أطفالهم العدوانية من أي عامل أسري آخر. وتبين بعض الدراسات أن الأطفال الذين يميلون إلى سلوك العنف يرجع إلى تعرضهم لظروف بيئية قاسية تعتمد على الأوامر والنواهي وتوقيع العقاب العنيف التي تقف دائماً في وجه رغبات الطفل فتمتلئ نفسه بقدر هائل من الحقد والغضب تنفجر في النهاية في شكل سلوك منحرف قد يكون غير مألوف على سلطة الوالدين الأمر الذي يعرض الطفل إلى سوء المعاملة والقسوة . ومثل هذه الظروف يعيشه معظم أطفال دارفور منذ عقود فكان من الطبيعي أن تفرز مثل هذه الممارسات إنساناً يميل لاستخدام القوة لحسم خلافاته . وحتى حمل الرجل الدارفوري للسكين يحمل في طيآتها إشارة إلى ” أنه راجل وود راجل والدايره يجربه”، ومما زاد الطين بلة إنتشار السلاح في أيدي هؤلاء المواطنين وغياب دور الدولة.

د.مهدي تاج الدين عبدالنور – باحث متخصص في الدراسات الإستراتيجية
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..