مقالات وآراء

الثورة السودانية .. إلى أين؟

 

عبدالمنعم عثمان
الأخبار التى تأتى من السودان بمختلف الوسائل بالإضافة إلى تلك التي تأتي عن السودان، تجعل الإجابة على سؤال المقالة من الصعب إن لم يكن من المستحيل. غير ان تاريخ الثورات عمومًا والثورة الديسمبرية السودانية على وجه الخصوص، لا يقبل غير إجابة واحدة مؤكدة وإن طال الزمن وكثرت التضحيات، ألا وهي الانتصار ليس إلا. ذلك لأنه بالنسبة للثورات في العالم فإن قانون التطور يؤكد ذلك، وهو ما ينطبق على الثورة الديسمبرية إضافة إلى ما ظللت أكرره في مقالات سابقة من أنها تختلف عما سبق من انتفاضات سودانية في 1964 و1985 إذ أن الوعي الذي اكتسبته الجماهير السودانية خلال كل معاركها منذ النضال ضد الاستعمار المباشر، ومرورًا بالاكتشاف المبكر لألاعيب الاستعمار الحديث والموقف من الحكومات الانقلابية… الخ، قد جعل ميزان القوى في هذه المرة يميل إلى فكرة بناء سودان جديد يتفادى كل ما أقعده في الماضي عن الاستفادة من موارده المتعددة، وعلى رأسها البشرية، لمصلحة بشره الذين صاغوا تلك الرغبة في شعارات الثورة العبقرية: حرية .. سلام .. وعدالة. ولعل الثلاث عقود من حكم الجبهة الإسلامية الذي مورست فيه كل ألوان الألاعيب المحلية والدولية تحت عباءة الإسلام، لعلها المحرك الرئيس لصمود الجماهير في الشارع وهى تردد شعاراتها: الجوع ولا الكيزان.. وكل كوز ندوسه دوس.. وهذا أيضًا ما يؤكد استمرارية الثورة حتى النصر.
ولكن لا بد من الرجوع إلى أسباب صعوبة الوصول إلى إجابة مناسبة لسؤال المقال: الثورة إلى أين؟
وجدت بالأمس تحليلًا جيدًا للموقف السياسي الحالي في السودان، وكانت نتيجته، من وجهة نظر صاحبه، إن الأمر أصبح بيد لجان المقاومة التى أصبحت جهة لا يمكن تخطيها من جانب أي طرف في العمل السياسي، بما في ذلك قيادة انقلاب أكتوبر التي أصبحت تغازل اللجان صباح مساء! ولكنه أعاب عليها عدم وجود قيادة سياسية موحدة لها يمكنها أن تخاطب وتخاطب من الأطراف المحلية والدولية والإقليمية. واقترح عليها في حالة تكوين هذه القيادة أن تمضي قدمًا في تكوين المجلس التشريعي وما يتبعه من تكوين لمؤسسات الدولة المختلفة. ومن جانبي أرى ان المقترح جيد ولكن مع التحفظ على عدم وجود القيادة، فهي موجودة ولكنها في نطاق اللجان فحسب ولكي تقوم بالأعمال التي يطلبها صاحب التحليل فلا بد من أن تمثل أيضًا بقية القوى الثورية من نقابات وأحزاب… الخ وهو ما ظللنا ندعو إليه بل ويدعو إليه الجميع من مختلف الاتجاهات ولكن لأغراض مختلفة ولذلك كان رأينا أن يستمر العمل الثوري الشعبي الذي لا بد أن يؤدي في نهاية الأمر إلى فرز واضح للمواقف القائمة على المصالح وكذلك هذا العمل هو الذي أفرز وسيستمر في إفراز قياداته.
كذلك بالأمس جاء خبر تكوين التحالف بين الحزب الشيوعي وفصيلي عبدالواحد والحلو، وهو أمر قد يؤدي إلى ما يطلبه الثوار من وجود جبهة موحدة على أسس بناء السودان الجديد، خصوصًا مع التوافق الواضح بين مبادئ التحالف ومبادئ القوى السياسية الثورية الأخرى من لجان مقاومة وأحزاب لها نفس التوجهات والمصالح التي لا تتناقض مع نفس مبادئ بناء السودان الجديد. ولعله من محاسن الصدف أن أشاهد بالأمس أيضًا لقاء كرسي الثورة الذي تم مع المنسق العام لمعسكرات اللاجئين والنازحين بدارفور. وقد أوضح المنسق، بدون لجلجة، قبولهم بالمبادئ التي طرحها الأستاذ عبدالواحد من قبل وهي تسير في نفس اتجاه مبادئ بناء لسودان الجديد وكذلك حذر بشكل واضح من أن الخمس ملايين من الدارفوريين الذين لا يزالون يقبعون في المعسكرات لن يغلبهم حمل السلاح في حالة فشل اتفاقيات السلام من كبح جماح المليشيات التي استمرت في ذبح الأبرياء والاستيلاء على أراضيهم بقوة السلاح!
وهكذا، بتكوين هذا التحالف بأهدافه المعلنة على الهواء من حيث الوقوف ضد الانقلاب مع رفض العودة إلى ما قبله، وتحديد الأهداف اللاحقة بأنها تختصر في بناء السودان الجديد، يكون قد نشأ القلب أو المركز لكتلة أفرزها تطور أحداث الثورة والثورة المضادة. وكذلك تكون الكتلة المضادة قد وضحت مكوناتها ومعالمها بشكل قاطع. وعندها لا يكون هناك مكان لموقف بين بين أو لمسك العصاة من المنتصف، فقد أصبح الصحيح بين والخطأ بين بدون أي أمور تتشابه لمن يريد اتخاذ الموقف الصحيح! ولكن.. و”لتكريب ” موقف التحالف أكثر، لا بد من ايضاح مواقف من هو بالفعل داخله ومن ينوي من قضايا أساسية، وذلك من مثل:
– الموافقة المبدئية والكاملة على استمرار تطبيق شعار الثورة الذي أبقاها متقدة وأعجز مناوئها عن إطفائها بكل الوسائل المتعفنة من اعتقالات وتعذيب وقتل، ألا وهو “سلمية .. سلمية ” إذ أن دخول الأطراف الحاملة للسلاح قد يوحي، وربما يغري في مراحل شدة متوقعة من استخدام السلاح أو حتى التفكير في العودة إلى شعار “انتفاضة محمية”. هذا طبعًا مع الاعتراف بأن دخول هذه الأطراف، التي اختارت في مرحلة ماضية حمل السلاح لمواجهة نظام الانقاذ، لا يعني غير تقوية موقفها بشكل عام في أي عمل سياسي قادم.
– يظل باب التحالف مفتوحًا لكل من يؤمن بمبادئه المعلنة بما في ذلك لاءاته الثلاثة مع نقد المواقف الماضية خصوصًا قبول التحالف مع القيادات العسكرية التي تدعي تمثيل قوات الشعب المسلحة أو القبول بانقلاب عسكري يرفع شعارات التحالف!
– رفض التدخلات الإقليمية والدولية في شأن التسوية اللهم إلا ما يتوافق منها مع شعارات التحالف والثورة في أسلوب التسوية وتحديد أركانها وكذلك في خطط بناء السودان الجديد التي تسعى لخدمة مصالح الشعب السوداني متعاونة مع الأطراف الإقليمية والدولية لمصلحة الطرفين.
كنت دائمًا لا أجد الإجابة المقنعة لمن يسأل عن جدوى استمرار الشارع في المظاهرات مع استمرار قتل الشباب دون أن يكون هناك ضوء في آخر النفق الذى يبدو شديد الإظلام. الآن وقد وجدت الإجابة المبدئية من خلال التطورات التي جاءت في صلب المقال، فقد جاء دوري لأطلب من أولئك أن يتخذوا الموقف الذي يعجل بالانتصار، فهناك من نتائج التخريب ما يصعب إصلاحه خصوصًا وأن بعض ذلك التخريب يجد دعمًا إقليميا ودوليًا كبيرًا وبعضه الآخر من النوع الذي ينفجر دون مقدمات إذا وجد الوقت الكافي. وفي حالة حدوث ذلك، لا قدر الله، فإن خسائر تأخير انتصار الثورة، الذي بانت معالمه، سيكون في رقبة من يؤجل اتخاذ الموقف الصحيح في الوقت المناسب!
وأخيرًا وتمهيدًا لمقال قادم حول إمكانيات التعاون بين سودان ما بعد انتصار الثورة والمجتمعين الإقليمي والدولي، سنتناول بعض القضايا الدولية، من مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها على العالم، خصوصًا في مجال توفير الغذاء وكذلك بعض القضايا الإقليمية ذات نفس الأثر من مثل مشاكل الحدود السودانية مع دول الجوار. وذلك لمحاولة سبر غور أثر انتصار الثورة على هذه القضية، قضية توفير الغذاء، التي أصبحت محور حديث الدنيا والأولى حتى في مؤتمر ديفوس الاقتصادي الدولي.
الميدان
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..