مقالات وآراء سياسية

الإنقلاب العسكري ضروري؟

الفاضل عباس محمد علي

تنمّر الجنرال البرهان، لما أفرط القحتيون في التلكؤ والتباطؤ وعدم
الاتفاق علي قائمة بالمجلس الوزاري المنتظر منذ نصف عام، وهدد بتجاوز الوثيقة
الدستورية وتشكيل حكومة تكنوقراط كما يشاء، علي جناح السرعة.
ولو حدث ذلك فهو انقلاب كامل الدسم، يصادف هوىً في نفوس الكثيرين،
وسوف يصطف وراءه كل من:
 الجيش نفسه الذي ما زال مؤسسة تابعة للإخوان المسلمين من رأسها إلى
أخمص قدميها، متمرغة في أوحال السحت، وواضعة تحت إبطها شركات
ومصانعاً ومشروعات واستثمارات وموارد تكفي لتمويل البلاد بأسرها.
 الفلول، أي الثورة المضادة وعناصر الدولة العميقة المؤلفة من قادة وكوادر
تنظيم الإخوان المسلمين الذي حكم السودان طوال الثلاثين عاماً المنصرمة.
 القوى الرجعية والرأسمالية الكمبرادورية المتضررة من ثورة ديسمبر المجيدة
وما بشّرت به من قيم جديدة كالشفافية وحرمة المال العام واستقلال القضاء
واستقامة الأجهزة العدلية presumably، وحرية التعبير وتعدد المنابر
الشعبية الثورية العاكسة لرأي الشارع، وحرية التنظيم النقابي…إلخ.
 القوات النظامية الأخرى – الشرطة والأمن والجمارك…إلخ – التي كانت تتمتع
بتشريعات وأوامر استثنائية وضعتها في نفس مرتبة القوات المسلحة من
حيث المخصصات والإمكانيات والرفاهية المبالغ فيها، وسط شعب فقير ذي
متربة.
 المليشيات التي فرّخها وقرّبها وميّزها النظام الآفل – تحديداً الجنجويد بكل
تحوراتها وتجلياتها – والحركات الحاملة للسلاح التي انخرطت في سلام تمت
هندسته بواسطة المكون العسكري وأشرف عليه قائد الجنجويد، نائب رئيس
المكون العسكري، الذي وضعها في جيبه، (عملا بقول المتنبي: ومن يجعل
الضرغام بازاً لصيده……تصيده الضرغام فيما تصيدا)، فما برحت نشوي
بهذه (البيعة) وألسنتها تلهج بالامتنان لتلك الجهات العسكرية وشبه العسكرية.
بيد أن انقلاباً من هذا النوع، وأي إنقلاب عسكري، مرفوض تماماً من
قبل الشعب الذي صنع ثورة ديسمبر، مهما تباطأت قحت وغرقت في لجج التفاصيل
الشيطانية؛ فالجرح لم يندمل بعد، ودماء الشهداء لم تجف فوق شوارع الخرطوم،

2

وبعض ضحايا فض الاعتصام الذي ولغت فيه الجهات العسكرية وشبه العسكرية
مفقودون وقبورهم في رحم الغيب. ويقيني أن ما تم في ميانمار البارحة لن يكتب له
النجاح في السودان.
رغم ذلك، ففي التجربة الميانمارية عظة لثوار السودان ودروس مستفادة
كما أشار العلامة شوقي بدري صباح اليوم بالأسافير، إذ شبّه السيدة أونق سان سو
تشي بحمدوك، ولعله يقصد قحت التي قبلت الجلوس مع اللجنة العسكرية بعد مواكب
الثلاثين من يونيو الترليونية التي ردّت الاعتبار للشارع المكلوم بفض الاعتصام،
والتي ارتجفت فرائص العسكر من جراء زخمها وتنوعها الجغرافي والإثنوغرافي
وتناسق شعاراتها ووحدة هدفها، فانقلب خطابهم المشحون بالصلف والوعيد إلى
تملق وانبطاح أمام قوى الحرية والتغيير، وخطبوا ودها وتهافتوا على استئناف
المفاوضات التي كان البرهان رئيس اللجنة العسكرية قد علقها بعيد فض الاعتصام،
في أجواء الزهو الكاذب والغرور الأجوف الذي تشبع به آنئذ.
وفعلا، تشابه الحال بين العسكريين والمدنيين في البلدين، السودان
وميانمار، من حيث الاتفاق علي معادلة تستوعب كليهما في مواعين الحكم، ومن
حيث البراءة الزائدة عن اللزوم في التعامل مع العسكر (وهو في حقيقته حلف بين
الذئب والحمل)؛ ولقد أخطأت سان سو تشي خطأ مميتاً حينما قبلت أسلوب العسكر
الوحشي في البطش بأقلية الروهنقة – إبادة جماعية وجرائم حرب واغتصاب جماعي
وتهجير وحرق قرى – تماماً كما فعل نظام البشير العسكري الكيزاني مع قبائل الزرقة
الدارفورية والأقليات المطحونة الأخرى بجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. ولم تهتم
سو تشي بسخط الرأي العام العالمي الذي كان قد فرح لما نالت جائزة نوبل للسلام؛ إذ
يبدو أنها أرادت أن ترضي العسكريين بأي شكل، إذا بهم رغم ذلك يغدرون بها
البارحة وينقضّون على الحكم ويزجّون بها في السجن الذي جربته من قبل لعقدين
من الزمان. والدرس الذي يذكر به شوقي هو أن العسكريين حيثما كانوا لن يقبلوا
التنازل عن مكتسباتهم الاقتصادية التي جنوها أثناء حكمهم باستحلاب الخزينة العامة
وبالاستئثار بموارد البلاد ورفض أي منافسة مع أي جهة أخرى، مهما أدي ذلك
لتهميش باقي المواطنين ولإفقار الشعب، كما ظل عليه الحال في كل الأنظمة
العسكرية التي شهدها العالم الثالث طوال سنوات الحرب الباردة، وفيما بعد ذلك
ببعض البلدان سيئة الحظ مثل السودان 1989 – 2019 وماينمار 1962 – 2015.
وتؤكد التجربة الماينمارية أن الشراكة المدنية العسكرية ضرب من
الأوهام والمشاريع الفاشلة بكل تأكيد، وهي أمر جديد علي التجربة البشرية العالمية
التي تدرجت من أنظمة إقطاعية وثيوقراطية وآحادية وملكية عضود ودكتاتورية

3

عسكرية إلي الديمقراطية (الواحدة دى) المعروفة، حيث الحكم المدني الكامل الشامل،
وحيث الفصل التام بين السلطات، وإمكانية محاسبة الحكام وتبديلهم كل حين، وضمان
استقلال القضاء وحرية الصحافة…إلخ، بلا خلط للأوراق.
ويكمن الخلل في التجربة السودانية في الاجتماع المشترك بين اللجنة
العسكرية ومندوبي الحرية والتغيير بعد مواكب 30 يونيو الهادرة، الذى خرج
بالمعادلة المعطوبة الحالية وبالوثيقة الدستورية الأكثر عطباً:
 فلم يضع المجتمعون في بالهم حقيقة التوازن الموجود بالشارع، الذي وضع
العسكريين في علبهم، والمختلف تماماً عن التوازن الذى تم إدخاله في روعهم
والذي تم بموجبه تقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين.
 ولقد وضع الشارع ثقته في المفاوضين بإسمه، لبلائهم طوال أيام الحراك
بالشوارع السودانية منذ ديسمبر 2018، ولكن لم يخطر ببال أحد أن يرى
المتهمين بفض الاعتصام في مجلس السيادة ووزارتي الدفاع والداخلية. وسكت
الناس على ذلك بسبب الظرف الدقيق والحساس، وبحكم معايش الجمهور التي
تعطلت لشهور طويلة، بانتظار محاكمة متهمي فض الاعتصام، علها تقوم بفرز
للقوى لم يقدر عليه المفاوضون.
وظلت قوى الثورة تدفع الثمن على خطئها يوماً بعد يوم، طوال العامين
المنصرمين، إذ عجزوا تماما عن انجاز استحقاقات الثورة الأساسية:
1. محاكمة مرتكبي مجزرة فض الاعتصام.
2. محاكمة رموز النظام البائد على الجرائم والسرقات المتهمين بها.
3. تسليم الأشخاص المطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية.
4. تكوين المجلس التشريعي.
5. تحقيق العدالة الإنتقالية.
6. تطهير الأجهزة الأمنية ودولاب الحكومة من الفلول.
7. رفع المعاناة عن كاهل الجماهير التي ظلت مدهوسة لثلاثة عقود.
واتضح بما لا يدع مجال للشك أن العسكريين هم سبب الجرجرة وعدم
انسيابية القرارات المتعلقة بالأجندة الثورية؛ وعلى الرغم من أن العسكريين لا
يشكلون أغلبية في مجلس السيادة، كانت القرارات الخارجة من المجلس ومن
الاجتماع المشترك (بين السيادي والوزراء) لصالح المكون العسكري، إذ تمكنوا من

4

استقطاب السيدتين ومدني آخر لمناصرتهم ظالمين ومظلومين. ويرى العديد من
المراقبين أن هذه الأغلبية الميكانيكية سوف يتم تدعيمها بواسطة مندوبي سلام جوبا
الذين أعلنوا اصطفافهم إلى جانب المكون العسكري (من واقع تصريحاتهم الكيزانية
الرجعية وغير المشربة بروح ثورة ديسمبر).
لذلك، أرى أن الانقلاب العسكري في السودان لا ضرورة له، فلقد ظل
العسكر يحكمون ويتحكمون ويجيزون ما يريدون ويعرقلون ما يحسبون أنه مهدد
لمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية؛ وفي نفس الوقت، يحملون حكومة جمدوك
أوزار المرحلة وأزماتها واختناقاتها. والحالة هذه، فالعسكر هم حكامنا ال(دي فاكتو)،
أو كما قال اللورد كرومر عن الحكم الثنائي البريطاني المصري للسودان 1899 –
1956، والذي هو في الحقيقة استعمار بريطاني محض تدفع فواتيره الخزينة
المصرية : (We are ruling Sudan by bluff).
وعلى كل حال، فلتتأكد قوى الثورة أن هذا الوضع لن يستمر هكذا؛ إما ثورة
جياع منفلتة، أو حرب في شوارع الخرطوم بين الجيش والمليشيات، أو كارثة ما
أخرى. وطالما أن الشارع لا زال حياً وبمقدوره أن يتحرك، فليفعل ذلك، لينجز الآتي
بلا أي لف أو دوران:
 الدولة المدنية كاملة الدسم وإبعاد العسكريين من السيادة.
 المحاكمة الفورية لمرتكبي فض الاعتصام ورموز النظام المباد.
 تكوين مجلس سيادة تشريفاتي من خمسة أعضاء، والمجلس التشريعي.
 رئيس وزراء جديد من (الواطين الجمرة)، ومجلس من عشرين وزيرا ثورياً
فقط.
 وضع لمسات مؤتمر مائدة مستديرة داخل السودان لتحقيق السلام الناجز
والنافذ والشامل.
 الخروج للشعب في أول يوم بالقرارات الثورية الاقتصادية المتعلقة برفع
المعاناة.

هذا ما أراه مخرجاً لبلادنا من وهدتها الكارثية الراهنة، وعلي الله قصد السبيل.

الفاضل عباس محمد علي

‫2 تعليقات

  1. هم عواليق الهبوط الناعم بجي منهم فائدة وله عواطلية الجبهة الغير ثورية ،،،،، دي كانت غلطة الثوار تسليمهم امر الثورة الباذخة لهولاء العواليق و العواطلية بدل تكوين حكومة انجاز ثوري بكل ما تحمل الكلمة لقطع دابر منظومة الجبهة الظلامية و منظماتها ،،،، معاك في كل ما كتبت ،،،، لك التحايا ،،،

  2. لا احد يريد انقلاب عسكري جديد لكن التجربه اثبتت ان الاحزاب والتنظيمات المدنيه هي عاجزه تماما عن إدارة الدولة ليس فقط بالعمل بل حتى بالشفافيه المطلوبة والعوده للحاضنه الثورية لتصحيح المسار.لهذا كله ليس مستبعدا عودة الحكم العسكرى مجددا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..