فنان الحيرة

قذفت بي ظروف العمل، إلى قرية وادعة هادئة من قرى جبال ساحل البحر الأحمر. أهلها البسطاء يحترمون الغرباء، ومن طيبتهم ونقاء سريرتهم، ومنذ الأيام الأولى لحلولك بينهم، تحس أنك أصبحت واحداً منهم.
بعد انتهاء ساعات العمل، تتمدد ساعات الفراغ، فان لم تجد ما تملأ به وقتك، أصابك السأم و الملل.
لذا اعتدت تمضية الوقت والسهر مع مجموعة متباينة من الأشخاص ساقتهم الظروف للعمل بهذه القرية. منهم الموظف بالسكة حديد والعامل والممرض والمدرس ورجل الشرطة،وآخرون. ولعدمية الخيارات، كنت مطربهم الوحيد، غناءً وعزفا على العود. حيث أني كنت أتوسم في نفسي شيئاً من موهبة الغناء، دعمتها بمحاولاتي لتعلم العزف على العود، نجحت في ذلك قليلا. نجاحاً كان كافياً لأحتضن عودي، في ليالي السمر تلك، وأرفع عقيرتي بالغناء. ما كان صوتي عذباً، إلا أنه ليس نشازا، و عزفي لا يرقى لمرحلة متقدمة من التطريب، لكنه مقبول. أصدقائي من حيرتهم وقلة حيلتهم، يوهمون أنفسهم بأنه ليس بالإمكان أحسن مما هو كائن. فيتقافزون طربا.كنت أعلق على احتفائهم بي ساخراً:
-ياجماعة ماتعملو من الحبة قبة، أنا مجرد فنان حيرة
ذات يوم، زارني بعض زملائي، ومعهم شخص قالوا انه ابن ناظر المحطة، وبعد التحايا وأداء واجب الضيافة، أسرّ لي أحدهم، أن ابنة ناظر المحطة، سيتم زواجها غداً، وأنهم يرغبون في موافقتي، لإحياء حفل الزواج .
نظرت إليه غير مصدق،مذهول، مندهش:
– يازول انت بتهظِّر ولاّ شنو؟
تحركت نحو الباب بدون وعي، وكأني أود الهرب، ثم عدت:
– ياجماعة انا عمري ما غنيت في حفلة، كمان حفلة عرس؟؟ ناس وبنات ورقيص ؟، لا لآ، أعفوني من الموضوع ده.
امسك أحد الزملاء بذراعي: وهمس في أذني:
– ياخي ما تحرجنا مع الراجل، نحن حكينا ليه عنك، وعن موهبتك، وأنك ما حتمانع .
جذبت ذراعي من يده بحدة:
– منو قال ليكم تحكو عني ؟؟ اتصرفوا صلحوا غلطتكم
وبخروجي المباغت،لم أترك لهم فرصة للمجادلة.
في المساء، استطاعوا إقناعي، وتهوين الأمر علي، وأنهم سوف يساندوني ويساعدوني:
– ياخي كلنا حنقيف ونشيل معاك، يعني كورس. بعدين مش جايز تكون دي، ضربة البداية لانطلاقتك الفنية؟
عزف المقطع الأخير من حديثه على أوتار غروري، فوافقت.
حين وصلنا لمكان الحفل، زفَّني الصبية وأنا أحمل عودي:
– الفنان جا.. الفنان جا..
كنت متماسكاً رابط الجأش، إلا أن ذلك تبدد، بمجرد دخولي لساحة الحفل. المكان على سعته مكتظ بالفتيات، والنساء، والرجال. لم أتبين الملامح، إلا أني أحسست أن كل المكان، تحول إلى عيون، عشرات العيون تتابعني، وأنا أتقدم لأجلس على المقعد المخصص لي في صدر المكان. عيون تحاصرني من كل اتجاه. وقلبي تكاد دقاته تفضحني، التفت خلفي، وتزودت بابتسامة تشجيع من أصدقائي، الذين اصطفوا خلفي لأداء مهمتهم.
وكأنني في حلم،احتضنت عودي، و بدأت أعزف و أغني، لا تسألوني ماذا غنيت، المهم، البنات يملأن الساحة رقة وجمالا وتثنياً وتمايلاً ودلالا، مع إيقاع صفقة أصدقائي المنغّم، وحماس عازف الإيقاع. الزغاريد تشق عنان السماء، والكورس من خلفي يساند بقوة. وكم من راقصة تقدمت ناحيتي، تميل برأسها، و بحركة سريعة نصف دائرية، يميناً ويساراً، تلوِّح بشعرها، فيغمرني عطرها الفواح. والجميع آخر انبساط.
فجأة انتهى الحفل نهاية مأساوية لم نحسب لها حسابا. اذ رفض أحدهم، ما شاء الله عليه،طول بعرض، الخروج من الساحة، إن لم يحظى بــ (الشبال)، من فتاة بعينها. علمنا أنه يعشقها وهي لا تطيقه. الفتاة رفضت الاستجابة لمطلبه، ثار وهاج وماج، حطَّم ( الرتاين)، عمّ الظلام، فارتفع الصراخ والعويل والسباب، واختلط الحابل بالنابل. ثم اتجه العاشق الثائر ناحيتنا، والشرر يتطاير من عينيه، يخور كالثور الهائج، فما كان مني، وهو يتقدم رافعاً عصاه مهدداً، إلا أن أترك عودي، وأركض خارج الدار يتبعني أصدقائي. ولم يجد صاحبنا أمامه غير أن ينفِّث عن غضبه بتحطيم العود.
تبيّن لنا لاحقاً حسب رواية الفتاة نفسها، أن الشيء الذي أغضبه أكثر، وأثار حفيظته، أن فتاته أهدتني عدة ( شبَّالات) على غير العادة، مما عدّها صاحبنا استفزازاً لمشاعره.
من حينها اكتفيت بالغناء في ليالي سمرنا البائسة، وبلاش منها الانطلاقة الفنية التي (تودي في داهية ).
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ثار وهاج وماج، حطَّم ( الرتاين)

    هذا الغبي قطع شك أنّه كوز بشيريّ الصفات ، هبالة وغباء

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..