الاجراءت الاقتصادية التي اتخذها مجلس الوزراء وبنك السودان تعد انقلاباً كاملاً

صدقي كبلو
إن الإجراءات الاقتصادية التي أتخذها مجلس الوزراء وبنك السودان بناء على توصية المكتب القيادي للمؤتمر الوطني تعد انقلابا كاملا على سياسات حكومة الفريق بكري حسن صالح والتي بدأ تأسيسها في نطاق بحث عن مدرسة اقتصادية جديدة غير تلك التي تسببت في الأزمة. وتعيدنا الإجراءات الاقتصادية الجديدة إلى تلك السياسات التي اختطها السيد عبد الرحيم حمدي سنة 1992 والتي أدت حينها الى تدهور الجنيه فيما أوردنا في مقالنا السابق من 12 جنيها في عام 1989 الى 2516 جنيه للدولار في عام 1999 عشية بداية تصدير البترول السوداني.
إن العودة لتلك السياسات توضح أن واضعي السياسات النقدية والمالية والاقتصادية لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا فهل يا ترى غادر الشعراء من متردم؟
تحرير أو لا تحرير
ولكن الناس انشغلوا عن جوهر القرارات الجديدة الى الاختلاف حول هل قرار خروج بنك السودان من تحديد سعر الصرف وتكوين آلية صناع السوق لتحديد سعر الصرف يوميا ?مسترشدين بالعرض والطلب? وهو جوهر التعويم والتحرير، مما يجعلنا نصيح ?أن جنيهنا قد عوم يا رجالة?. وهذا بالضبط ما يجعلنا نقول إن القرار خاطئ في المحتوى وخاطئ في التوقيت وخطير في النتائج على الاقتصاد الوطني ويهدد مستوى معيشة عامة الناس بمزيد من التدهور.
إن القرار يفترض وجود عرض للنقد الأجنبي من الممكن أن يساوي الطلب عليه في حالة السودان دون اتخاذ إجراءات إدارية للجم الطلب على العملات الأجنبية وهذا افتراض حسابي مجرد وجامد ولا ينظر للعوامل التي تؤثر على الطلب على النقد الأجنبي من خلال التغييرات في الطلب الكلي للمجتمع فلو لاحظنا فقط زيادة الطلب على سلع ضرورية مثل القمح والأدوية والوقود، فإننا نجد معدلات الطلب في تزايد مستمر لزيادة السكان (بين 2,8% و 3,6%) والمتغيرات في التركيبة السكانية نفسها من خلال الهجرة بين الريف والحضر، وتوزيع مستوى الدخول بين المواطنين، والأخير مسئول مسئولية مباشرة عن التزايد المستمر والمتنوع في الطلب على النقد الأجنبي لاستيراد السلع التفاخرية والعلاج بالخارج والسياحة الصيفية. إن تحرير سعر ألصرف دون الجام هذا الطلب من خلال تصنيفه سياسيا واداريا الى طلب ضروري وآخر غير ضروري، فالمعادلة تظل مختلة والطلب سيضغط دائما لرفع سعر الصرف. ان مثل وضع السودان يتطلب رقابة كاملة على النقد الأجنبي أكثر من تحرير سوقه والتصرف فيه.
ولقد بني القرار على توقعات الموسم الزراعي الصيفي كموسم وفير، ولا تبنى القرارات التي تخلق آليات مستقرة على معطيات موسم زراعي واحد، خاصة أن الموسم الزراعي يعتمد في نجاحه وفشله على متغيرات طبيعية، بعضها وأهمها الأمطار (كمية وتوزيع) لا يمكن السيطرة عليها، فماذا لو كان الموسم القادم أقل إنتاجية؟ إن مثل هذه التقديرات تحسب على أساس المتوسط للنتائج الفعلية لسنين ماضية وعلى أساس نظرية الاحتمالات ، لا على أساس موسم واحد.
كما بنيت التقديرات للعرض على أساس انتاج ذهب يعتمد على الإنتاج التقليدي لا على أساس انتاج ثابت حسب مخزونها الطبيعي وتوقع انتاجها السنوي، فالإنتاج الأهلي الذي يسيطر على انتاج الذهب في السودان هو انتاج عشوائي ولا يمكن التنبؤ بحجمه كما تأمل الحكومة بتصدير ما قيمته 4- مليار دولار بالذهب.
وكل هذا يجعل التوقيت الذي أتخذ فيه القرار بكل أخطائه المنهجية، خطأ، فالوقت الأفضل كان بعد الحصاد وبداية التصدير وبداية جني عائدات الصادرات، فالقرار ينشئ آلية لشراء نقد أجنبي من عائد صادرت لم تحصد بعد، وبالطبع هذا يؤدي لارتفاع سعر الصرف لأنه لا يوجد عرض، او لن يوجد العرض الأساسي للنقد الأجنبي الذي تتبناه السياسة وهو عائد الصادرات.
نتائج سياسة سعر الصرف
مهما يكن من طبيعة القرار وصحته وتوقيته، فهو قرار قد صدر وقد نفذ بدءً من صباح الأحد 7 أكتوبر وبدأت الآلية بتحديد سعر صرف بلغ 47.5 جنيه للدولار مما يعني ارتفاعا عن السعر التأشيري الملغي (31 جنيه للدولار) ب 16.5 جنيه وهو ما يساوي أكثر من 50% زيادة والتي ستنعكس على كل الواردات ويزيد العبء على الحكومة فيما تدعي من دعم لأسعر سلع كالقمح.
هذه الزيادة ستنعكس في أسعار السلع المستوردة جميعها، بما في ذلك السلع التي تستوردها الحكومة، وسيزيد تكلفة الإنتاج للمنتجين الذين يستعملون مدخلات انتاج مستوردة كصناعة الأدوية والإنتاج الزراعي الذي يستعمل السماد والمبيدات والخيش والآليات الزراعية وقطع غيارها.
وإذا وضعنا في الاعتبار أن الزيادة التي يخلقها سعر الصرف تتزامن مع زيادة سيخلقها زيادة كمية النقود من خلال طباعة نقود جديدة فإننا نتوقع أن ينتقل رقم معدل التضخم خلال الربع الأخير للعام إلى ثلاثة ارقام أي يتجاوز 100%
من المستفيد؟
إن الإجراءات الجديدة صممت كما يقول المسئولون لتشجيع الصادر وبالتالي سترتفع عائدات الصادرات بالعملة المحلية وقد يؤدي ذلك لارتفاع أسعار بعض سلع الصادر محليا مثل الحبوب الزيتية والتي ستؤثر سلبا على قطاع انتاج الزيوت برفع تكلفة أهم عنصر في موادها الخام ذلك في أسعار الزيوت المحلية وفي تنافسية المصنع محليا من الزيوت في السوق العالمي.
سياسة الذهب: البنك يعد بما لا يملك
لعل أضعف حلقة في الإجراءات المعلنة والتي أشك في أنه قد تم التفكير فيها والتخطيط لها بشكل اقتصادي سليم هي الإجراءات حول شراء الذهب، خاصة أنه أصبح من المتفق عليه أن يشتري بنك السودان الذهب باعتباره موردا قوميا ينتج بشكل أهلي ومن خلال شركات امتياز تحدد الشراكة أسس تقسيمه, والنقطة الأولى التي أختلف فيها مع الإجراء هو الإصرار على شراء الذهب من موارد حقيقة عبر اصدار صكوك متميزة جديدة للجمهور لجمع أموال لشراء الذهب. وهذه سياسة انكماشية خاطئة فالذهب يحوي قيمة مضافة ضخمة ينبغي أن يقابلها نقد جديد، فكل اقتصادي درس نظرية النقود يعلم أن من أسباب خلق النقود مقابلة القيم المضافة المنتجة في الاقتصاد الوطني، فما الذي يجعل بنك السودان يخلق نقودا جديدة لشراء سلع الصادر الزراعية ولا يخلق نقود جديدة لشراء الذهب؟ والاختلاف الثاني مع هذا الاجراء وعد بنك السودان بمعدل ربح يصل ل 25% وأنا لا أدري ولا أظن البنك يدري كيف يحقق معدل الربح هذا وهو سيشتري الذهب بالسعر العالمي وسيبيعه للحكومة بنفس السعر، بل هو مطالب لدفع هامش عمولة لوكلائه الذين سيشتري الذهب عن طريقهم، هذا وعد من لا يملك مصدرا للدفع، فهل ستلحق الصكوك الجديدة بشهامة التي كان من المتوقع أن تحقق أرباحا لو وجهت للاستثمار التنموي ولكن بلعتها منصرفات الحكومة.
إن شراء بنك السودان للذهب وفقا للسعر العالمي خطوة صحيحة ستحد من التهريب، ولكن علينا أن نفعل ذلك وفقا للأسس الاقتصادية والتجارية ولا نحمل عائدات الذهب مصاريف أعلى من الضرورية.
إن العائد من تجارة الذهب من العملة المحلية سيخلق طلب على البضائع ولكن إذا نظمنا الاستيراد ومنعنا السلع التفاخرية، فإن ذلك الطلب مهما تكن آثاره التضخمية سيدفع بالطلب المحلي للسلع المحلية وسيؤدي لتوسع الإنتاج وزيادة الاستثمار المحلي, المفتاح للفائدة من الذهب ألا نسمح بإضاعة عائده الأجنبي في تمويل الاستهلاك غير الضروري أو لتهريبه للخارج مثلما حدث لعائدات البترول وفقا لدعاوي كثيرة، وأن نقسمه بين استيراد السلع الضرورية لمدخلات الإنتاج والاستثمار الحكومي والاحتياطي من العملات الأجنبية أو من الذهب نفسه ببنك السودان حتى ندعم قيمة الجنيه وندخر للسنين العجاف كما نصح يوسف فرعون.
الدولار الجمركي والدولار الحساب:
يعرف الجميع أن الدولار الجمركي قيمة حسابية فقط، لا وجود لها في الواقع، وأنها كقيمة حسابية تستعمل لحساب الجمارك، وأنا لا أرى داعي لهذا التعقيد إذ يجب حساب الجمارك بسعر الدولار الجاري وتعدل الفئات الجمركية لتلائم، وهذا سيتيح للدولة إعادة النظر في كل الفئات الجمركية بحيث تعفي الضروريات ومدخلات الإنتاج وتفرض رسوم متفاوتة على بقية السلع وفقا لمقتضيات حماية الإنتاج المحلي وتقليل أو لجم الاستهلاك التفاخري.
الدولار الحسابي فهو مفهوم يستعمل في التجارة الخارجية بين الدول القائمة على المقايضة: سلع بسلع، وهو ما زال ضروريا ما دمنا نقايض بعض سلعنا بسلع دول أخرى، ولكن ينبغي إعادة النظر فيه بحيث يعكس القيمة العالمية لسلعنا وبالتالي يطابق سعر الدولار المعلن.
الخوف يا غالي تسرح طوالي
إن ما يخيفني في هذه الإجراءات انها حلقات ناقصة من حزمة لم تعلن كلها والقارئ بين السطور يدرك أن اجراء سعر الصرف هو جزء من سياسة الصدمة التي أعلنها رئيس الوزراء ثم تراجع عنها في أحاديثه ولكنه طبق جزءً منها فعليا بهذه الإجراءات وخوفي أن يطبق الجزء الثاني الخاص بما تسمية الحكومة رفع الدعم.
ولم تعلن الحكومة مع إجراءاتها أي سياسات فيما يتعلق بزيادة الأجور والمرتبات أو أي شبكة حماية اجتماعية للفئات الفقيرة وخاصة فيما يتعلق بالخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم.