مقالات وآراء سياسية

الأحزاب السودانية ..!

هيثم الفضل

سفينة بَوْح

الأحزاب السودانية وخصوصاً التقليدية منها شأنها وشأن سائر البنيات التحتية في السودان تعاني الكثير من المُشكلات ، المُتعلِّقة بأنظمتها الداخلية ومناهجها الفكرية ودوائر علاقاتها وتفاعُلاتها مع الواقع السياسي المحلي والإقليمي والدولي ، ومثلما يُوصف الإقتصاد والبنى التحتية في السودان بالتخلُّف ، جاز أيضاً أن نصف أحزابنا السودانية بذات الصفة ، فقد ظلت وعبر الحقب الديموقراطية القصيرة المدى التي توالت على الحكم في البلاد ، أقل بكثير من تطلُّعات المواطنين وكان ضعفها بائناً حد التخاذُل عن تحديات تلك المراحل التي حق لنا وبكل ثقة أن نصفها بالتاريخية ، فلا إستطاعات حينذاك عبر مُخطَّطاتها التي ترفع شعار الديموقراطية أن تحافظ على المسار الديموقراطي وتحميه من المُتربصين ، وفي ذات الوقت لم تستطيع أن تُقنع الشعب السوداني (خارج عضويتها وعُصبة المنتمين إليها) بأنها تُمثِّل بديلاً (مأموناً) لأنظمة الحُكم الشمولية التي تواترت على حُكم البلاد ، والتي أسهبت في إعمال كافة الأدوات المُتاحة لهدم الأحزاب السودانية وإفقارها وإفراغها من طاقاتها وقُدراتها ، تحجيماً لنشاطاتها المُعارضة والمُهدِّدة لإستمرار حكم الشموليات كُلٌ حسب تقديراتهُ وأحوالهُ الخاصة بالراهن السياسي المحلي والإقليمي والدولي.

والغريب في الأمر أن هناك أصوات كثيرة تنتمي إلى فئةٍ لا يمكن نُكران أنها مُصنَّفة تحت مصطلح (مُستنيرة) ، تُجاهر بمُعاداة الأحزاب السياسية على (العموم) ، وتتَّهمها بأنها السبب الرئيسي فيما آل إليه أمر البلاد والعباد من سوء لا يخفى على عين حصيف ، وفي ذات الوقت نفس هؤلاء الأشخاص يدعون وبتعصُّب إلى تأييد المسار الديموقراطي وإعتماده خياراً أوحداً لحُكم البلاد ، ليتبَّدى إلى الأذهان السؤال المُحيِّر (وكيف يُمكن أن يُحكم السودان ديموقراطياً دون أحزاب) ، ولمن تُقام الإنتخابات وعبر أيي هيئة يمكن للمؤهلَّين للحُكم أن يطرحوا رؤاهم ويرشِّحوا أنفسهم لتولي أمر القيادة السياسية ، كل ما سبق يؤكِّد أن السجال الدائر الآن يعمل على تكريس صورة (خيالية) للمسار الديموقراطي لا تظهر الأحزاب في أبعادها الأساسية ، ثم لا يطرح هذا السجال أية بدائل تُكمل هذا التصوُّر وتُفسِّر كيفية عمل آلية الحُكم الديموقراطي ، ووفقاً لما سبق لا يحتاج المُغالطون إلى إثبات عدم إمكانية قيام نظام ديموقراطي دون وجود أحزاب ، تعمل على إرساء رؤية (مٌتغيرة) في أزمان مختلفة لمناهج ومُخطَّطات إدارة البلاد ، على أن يكون ذلك في إطار رؤية إستراتيجية عامة يتم التوافق حولها عبر الدساتير والقوانين والمعاهدات وربما الأعراف المتواترة.

وإن كان هناك ما يجب الإلتفات إليه عاجلاً في إطار تمتين بنية المسار الديوقراطي ، فهو بكل تأكيد موضوع تأهيل الأحزاب ودفعها عبر آليات تدريبية ولائحية تُشرف عليها الدولة ومُنظَّمات مُتخصَّصة (لتعويض) ما فاتها من تقادُم زمني في إطار مشاركتها في آلية الحكم السياسي السوداني ، هذا فضلاً عن توسعة دائرة تلاقح نشاطاتها البينية في الإطار الإداري والفني والسياسي والمنهجي والإعلامي والتنظيمي ، وكذلك إخراجها من دائرة الإفقار المادي واللوجستي حتى تستطيع الإضطلاع بدورها الطليعي و الطبيعي في (إدارة) النظام الديموقراطي والتمكُّن من إستخدامهِ كأداة فعَّالة في إدارة البلاد وقيادتها نحو التنمية المُستدامة والسلام الدائم والمؤسسية الفاعلة.

تعليق واحد

  1. ((ليتبَّدى إلى الأذهان السؤال المُحيِّر (وكيف يُمكن أن يُحكم السودان ديموقراطياً دون أحزاب) ، ولمن تُقام الإنتخابات وعبر أيي هيئة يمكن للمؤهلَّين للحُكم أن يطرحوا رؤاهم ويرشِّحوا أنفسهم لتولي أمر القيادة السياسية ، كل ما سبق يؤكِّد أن السجال الدائر الآن يعمل على تكريس صورة (خيالية) للمسار الديموقراطي لا تظهر الأحزاب في أبعادها الأساسية ، ثم لا يطرح هذا السجال أية بدائل تُكمل هذا التصوُّر وتُفسِّر كيفية عمل آلية الحُكم الديموقراطي ، ووفقاً لما سبق لا يحتاج المُغالطون إلى إثبات عدم إمكانية قيام نظام ديموقراطي دون وجود أحزاب))؟؟!!
    تنبيه لملاحظة الفرق بين الخطاب القرآني الموجه للنبي الكريم وبين ذلك الموجه لعموم المسلمين أو المؤمنين من بعده. ففي موضوع الشورى مثلاً، وهي مصطلح قرآني متفق على اقتصاره على الأمور الدنيوية فقط وعدم شموله الأمور الدينية. ويفهم ذلك من الخطاب الوارد في الآية 159 من سورة آل عمران أدناه والخاص بالنبي الكريم ودولته في المدينة، وفيه أمرٌ له بممارسة الشورى، ولكنها شورى مقتصرة، بالضرورة، على الأمور الدنيوية فقط، لأن الأمور الدينية بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم محسومة بالوحي ولا مجال يها للتحاور. وحيث كان الوحي يشمل أيضاً بعض الأمور الدنيوية مثل الحوادث الغيبية، كالبشارة والوعد بالنصر في المعارك، لأن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحمايته بالوحي في كل الأمور، لذلك جاءت شورى النبي الكريم في أمور الدنيا منقوصة لا تبلغ درجة الديمقراطية اللبرالية: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) صدق الله العظيم. فهذه الشورى الخاصة هنا بالرسول الأمين فقط، لم تفرض عليه وعلى دولته عليه السلام الشورى الكاملة المساوية للديمقراطية اللبرالية كما تعرف اليوم ولم يلزمه تعالى بنتيجتها وسمح له بمخالفتها أو عدم إجرائها ابتداء إن عزم على ذلك. وعليه فالغرض من هذه الشورى المنقوصة هو لتطييب قلوب أصحابه وتأليفها عليه واستئناسهم حتى لا ينفضوا من حوله ويتركوه، وهذا أمر خاص بالنبي الكريم لمصلحة دعوته ورسالته المحمدية. أما فيما يتعلق بالأمور الدينية وأحكام الدين فالنبي عليه الصلاة والسلام مأمور بتبليغ وتطبيق رسالة الوحي حرفياً وليس هنا مجالٌ للشورى أصلاً. وهذه الشورى في هذه الآية كما تخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحده، قهي تقتصر على الأمور الدنيوية وحدها، فهي شورى فقط لاسئناس أتباعه ولا علاقة لها بالديمقراطية اللبرالية المعروفة اليوم والمطلوبة لأمته من بعده؛ إذ أن العزيمة بتجاهل إجراء الشورى أو مخالفة نتيجتها أمر مرتبط بالتبوة والوحي وهما لا ينبغيان لأحد من أمته. فالرسول الكريم ليس ملزوماً بنتيجة مشاورة أصحابه حتى في الأمور الدنيوية إذا عزم على خلاف رأي أصحابه وتوكل على الله وعلى وحيه. لذلك، فمن الخطأ الشنيع الاستشهاد بهذه الآية دليلاً على ديمقراطية الإسلام!
    أما في سورة الشورى الآية 38 فتقرأ: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) صدق الله العظيم، فالخطاب فيها لعامة المسلمين (من بعد النبي أو في حياته قبل الرجوع ورد الأمر إليه)، وهنا الشورى كاملة وليس لولي الأمر أن يخالف نتيجة الشورى سواء كانت إدارية بينه وبين معاونيه أو كانت تشريعية مطروحة في برلمان أو أي سلطة تشريعية منتخبة. فهنا ديمقراطية كاملة كما في النظام الرأسمالي الحزبي اللبرالي حيث تسود الأغلبية الميكانيكية وتدوس على حقوق الأفلية بلا رحمة وهذه ديمقراطية منقوصة أو غير رشيدة بمقياس الشورى الإسلامية والتي لا تتفق مع الديمقراطية اللبرالية الحزبية في التمثيل بواسطة الأحزاب أياً كانت ولو سُميت اسلامية. فلا معنى للأحزاب في الاسلام، إلا الأحزاب الدينية المذهبية والطائفية التي تقتصر على خدمة المنتمين لها، وهذه مقابل الأحزاب السياسية (العلمانية بالضرورة)، أي المعنية فقط بالأمور الحياتية المعيشية للسكان، مسلمين كانوا أم بوذيين إلخ، حيث يجوز أن يتكتل الناس إزاء مناصرة أي شأن معين أو ضده مما يستجد من شئون الحياة والأمور الاقتصادية والاجتماعية والدينية (الدينية هنا بمعنى كل الأديان فيما يتعلق بحماية القانون لحق أتباعها في الممارسة الخاصة بعيداً عن مؤسسات الدولة وعدم تعديها على بعضها البعض بما يخالف القانون). وإذا كانت سورة الشورى تسمح بالديمقراطية اللبرالية، إلا أن تلك الديمقراطية لابد وأنها خاضعة لقيم الاسلام. وأولها منع هضم حق الضعيف واستغلاله اعتداد اً بالكثرة (الباطل) على حساب الحق. إن الديمقراطية التي تتوافق مع قيم الاسلام التي تمنع دكتاتورية الأغلبية خاصة إذا كانت هذه الأغلبية حزبية سياسية أو طائفية دينية ذات مواقف مسبقة وعصبية غير موضوعية حيال أمور تتعلق بمصالح المجتمع الحياتية والمعيشية، وهذا هو مجال عمل الدولة والشورى في مؤسساتها الخدمية ولا تحتاج في هذا لأحزاب من أي نوع لأنها تعنى فقط بالمصالح الحياتية المعيشية المجتمعية العامة وليس بالمصالح الحزبية أو الطائفية الدينية المذهبية الخاصةإلا في إطار حقها في الاعتقاد والممارسة. وحيث أن الديمقراطية الحزبية، خاصة الطائفية والمذهبية، من شأنها استخدام آلية أغلبيتها الميكانيكية ولا تتورع من سحق حقوق الأقلية غير مبالية، فلابد أن مثل هذه الديمقراطية لا تصلح وقد ثبتت عدم صلاحيتها في السودان فيما مضى من الفرص التي حكمت فيها. وحيث أن جوهر الديمقراطية هو التمثيل والانابة عن الشعب في البرلمان ومجلس الوزراء، فلابد من تعديل وسيلة الانابة والتمثيل الحزبية لتكون الانابة والتمثيل مباشراً دون وساطة الأحزاب! لماذا لا يختار الناخبون نوابهم مباشرة ممن يقيمون معهم في مناطقهم الجغرافية ويعرفونهم أو من نقاباتهم المهنية أو فئاتهم الحرفية أو النوعية فهم أكثر تفهماً لقضاياهم وأقرب اتصالاً بهم؟ لماذا يجب أن يكون النواب حزبيين إذن؟ أقول لك لأن هناك مفهوم آخر يعتقد خطأ بأنه ضروري ومن لوازم الديمقراطية؛ ألا وهو مفهوم تداول السلطة بين الأحزاب لمنع ظاهرة الانقلابات العسكرية على الديمقراطية. ولكن نقول أيضاً إن الحزبية الطائفية والعقائدية المذهبية هي السبب في خلق هذه الدائرة الخبيثة، وعليه، فإذا ألغينا وسيلة التمثيل غير المباشر (الحزبي) واستبعدنا الأحزاب، فلا حاجة إذن لفكرة تداول السلطة بين الأحزاب وحدهم دون الانقلابيين العسكر، ولماذا، ذن، لا نستبقي السلطة عند الشعب صاحبها الأصلي فلا يفوضها لأحزاب ولا يسمح بها للعسكر بالانقلاب عليهم لأخذها منهم أوتسلمها منهم، فهم دوماً ينتزعونها من الأحزاب الطائفية وأحياناً تسلم لهم طوعاً منها! والحل أن تستمر الديمقراطية النيابية المباشرة وسيلة لبقاء السلطة لدى صاحبها الأصلي (الشعب) وبقاء مكونات المجتمع الممَثَلة ثابتة تزيد ولا تنقص وبذلك تنتهي لعبة الانقلابات ومبرراتها التي توفرها لهم أحزاب الطائفية الحاكمة. عليه ولاستمرار الديمقراطية والحكم المدني فلا سبيل لذلك غير الديمقراطية المباشرة من دون وساطة الأحزاب ومساويء الجزبية المتمثثلة في الآراء الحزبية المسبقة والمفروضة على التواب ومن ثم التكتل الميكانيكي غير الموضوعي، وخلافه، وقد سبق أن بينا مزاياها في تعليقات سابقة ولا مانع من تكرارها في تعليق لاحق.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..