«عبادة الفرد» في الغرب أيضا كما اتهام المرأة بالشر!

غادة السمان
يبدو أن المرأة هي المتهمة غالبا حتى حين يكون المذنب الحقيقي رجلا تصادف أنه زوجها، وبالذات حين تشمله (بركة عبادته) كفرد وكنت أظنها خصلة عربية سياسية!!
أتحدث عن مطرب فرنسي مشهور في بلده اسمه جوني هاليداي، توفي منذ أشهر وخرج في جنازته نصف مليون معجب، ومشت خلف نعشه الأبيض أرملته الشابة لوتيسيا التي تصغره بـ(32) عاما وابنتاه بالتبني الطفلتان: جاد، وجوي.
وتوجهت الجنازة إلى «كاتدرائية المادلين» في أكثر أحياء باريس فخامة، حيث تمت المراسيم الدينية المسيحية للدفن في حضور ابن جوني المغني (الخمسيني) دافيد من زوجته الأولى المغنية سيلفي فارتان، وابنته غير الشرعية لورا سميت من عشيقته قبل أعوام طويلة ناتالي باي الممثلة.
رؤساء جمهوريات في جنازة المغني!
ولفت الأنظار حضور عدة رؤساء لجمهورية فرنسا في طقوس الدفن، مثل السيد ساركوزي، والرئيس السابق أولاند، والرئيس الحالي ماكرون الذي تحدث قائلا: «إن جوني هاليداي كان ابن فرنسا كلها». ولا أتخيل رئيس جمهورية عربيا يذهب إلى جنازة مطرب.
حتى هنا والأمور أليفة. ولكن، ما كاد دافيد ولورا سميت (ابنا جوني الكبيران) يعلمان بوصيته التي دونها لدى كاتب العدل الأمريكي في مكان إقامته، أي في U.S.A. حتى (قامت قيامتهما).. فقد جاء في وصية جوني هاليداي أن يترك ماله إلى زوجته التي تزوج بها وعمرها (19) سنة في حين كان عمره هو (51) سنة، وظلت وفية لحبه طوال العمر ولم تستطع مجلات الفضائح تلطيخ ثوب عرسها الأبيض ببقعة سوداء فضائحية.
مصير مئة مليون يورو في المحكمة!
لا يدهشنا أن (يقيم القيامة) ميراث جوني هاليداي بملايينه كلها (100 مليون يورو)! ولكن وصيته واضحة، أن يترك كل شيء لزوجته وطفلتيه جاد وجوي قائلا
إنه أعطى (ميراث) لورا ودافيد خلال حياته.. ثم إن الضجة الإعلامية حول الأمر جعل القراء الكثر مثلي يسمعون للمرة الأولى بالممثلة المغمورة نصف الردينة لورا سميت، كما بالمغني دافيد المقيم في الولايات المتحدة، والذي لولا والده جوني لما سمعت به أصلا. ما لفتني كعربية هو الهجوم الجماعي على الأرملة الشابة لوتيسيا بسبب هذه الوصية، حيث رسمها البعض في مواقع التواصل الاجتماعي كرتيلاء سامة تدعى (الأرملة السوداء) وقرار البعض أن الوصية غير مقبولة لأنه فرنسي وقام بتدوينها في مكان إقامته في U.S.A. وفقا للقانون الأمريكي. وإنه كتبها بتأثير زوجته، وهو ما لا يُصدّق، لأنه كان قوي الشخصية و(ذكرا) مهيمنا على نسائه من زوجات وعشيقات..!
المرأة مذنبة «وصاحب الوصية» بريء!
بصفتي عربية لست معنية بجوني وأفعاله، ولا بلوتيسيا، ولكن لفتني أن لا أحد يوجه لومه إلى جوني (إذا وجده ظالما في وصيته) وكان قد كتبها ووقعها قبل مرضه بالسرطان بأعوام، إنما كانت المتهمة الوحيدة (المكروهة المذنبة) هي المرأة، أي زوجته لوتيسيا، على الرغم من أنها لم توقع الوصية لدى كاتب العدل، بل إن ما فعل ذلك هو زوجها الذي صار كما يبدو، يتمتع بحصانة (عبادة الفرد).. ولعله كتب تلك الوصية انتقاما من ابنه وابنته لإهمالهما إياه خلال حياته، باستثناء ابتزاز المال منه. والوصية رسالة عتاب من القبر تؤلم عشاق (اليورو) و(الدولار)!
عندنا نصرخ: «فلان أو لا أحد، فلان إلى الأبد» وذلك في حق السياسة. وها هم في فرنسا يفتقدون جوني بالعقل والمنطق، حيث لا لوم يطاله، ولأن (الفرد المعبود) لا يمكن لقراراته أن تخضع للانتقاد مباشرة، حينئذ يتم تحميل الذنب شخصا آخر، والمرأة هي المذنبة المثالية! أجل، لفتني كثيرا أن هذه الوصية التي وجدها كثير من أصدقاء جوني هاليداي مجحفة بحق ابنه وابنته دافيد ولورا وظالمة لم يوجهوا إليه كلمة انتقاد، بل تم تحميل المسؤولية إلى المسكينة أرملته، فهي أنثى.. والمرأة نبع الشرور والمتآمرة الأولى التي تحيك المكائد.
وقالت الصحف الفرنسية إنه سبق أن خصص جوني لابنته لورا راتبا شهريا بآلاف الدولارات، كما أهدى ابنه دافيد (فيلّا) بالغة الفخامة، أي أنه أعطاهما ميراثهما خلال حياته ويريد الآن تخصيص المال لطفلتيه وأرملته الزوجة الوفية الشابة.
نزاهة «المعبود» البشرى والمجرمة امرأة!
صار القارئ الفرنسي (أو القارئ بالفرنسية) يطالع في معظم المجلات هجوما ضاريا من ولدي جوني وبعض أصدقائه القدامى (المغني ايدي ميتشل مثلا) على أرملته، كما انضمت إلى الحرب بعض المنابر الصحافية، وعشيقته السابقة ناتالي باي، وزوجته قبل عقود الغنية المخضرمة سيلفي فارتان. المدافعون عن لوتيسيا ذكّروا بزيارات دافيد ولورا له في مرضه ولامبالاتهما حقا به، بل بماله.
إنها حكاية تبدو للوهلة الأولى فرنسية بامتياز، ولكنها تخصنا كثيرا نحن العرب؛ فثمة جرحان: أولها أن تنزيه بعض الناس عما أقدموا عليه واتهام مسؤول آخر، وذلك من بعض عبادة الفرد، يعد أحد طبائعنا. أما الآخر هفو الميل الجارف إلى اتهام المرأة بأنها شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها، وبالتالي فإن لوتيسيا التي لم توقع على الوصية هي المسؤولة عن جرم الوصية. كم يشبه ذلك ما يدور عندنا نحن العرب في حقل «عبادة الفرد» واختراع «كبش فداء» لأفعاله، ومن المستحسن أن يكون ذلك امرأة!
القدس العربي