رحل الدوش .. والساقية لسه مدورة

صلاح الباشا
في ذكري عمر الدوش .. الساقية لسه مدورة ..
الشاعر والمسرحي والمعلم عمر الطيب الدوش .
يظل تاريخ 10/10/1998م يحمل في طياته حزناً دفيناً يحمل في جوفه رحيل أجمل مبدعي بلادنا المعطاءة في كافة المجالات وأجناس الإبداع ، ففي هذا التاريخ غادر الدنيا إلي دارالخلود الشاعر الفلسفي والمؤلف المسرحي ومربي الأجيال الأستاذ عمر الطيب الدوش ، غادر وقد كان يتوكأ علي عكازة بسبب الكسر الذي اصيب به في مفصل الفخذ ، غادر بعد أن أعطي الوطن الكثير ، حيث تم إعفائه للصالح العام من عمله إبان هوجة الفصل الكئيبة الظالمة من الخدمة لكل صاحب رأي متقدم وبلا وازع من دين أو أخلاق ، فكان قطع الأرزاق قد طال رقاب كثيرة بلا سبب جنوه ، وبلغ عددهم (٥٠٠ الف موظف).
مما أعطي ومنذ البداية نهجاً سيئا لحركة الإسلام السياسي الباطشة .. نعم ، فصلوه من وظيفته الأكاديمية كأستاذ بكلية الموسيقي والدراما (قسم المسرح) والذي أبلي فيه بلاءً حسناً يشهد له فيه طلابه وزملاؤه حتي اللحظة ..
ونحن إذ نتذكره الآن في ذكري رحيله بتاريخ١٠/١٠ من كل عام فإننا نظل نعيش أجمل مفردات قصائده الفلسفية التي ضمها ديوان شعره الوحيد (ليل المغنين) والذي صدر عقب وفاته بقليل. وقد سبق له حين كان معلماً بالمرحلة المتوسطة في حقبة ستينيات القرن الماضي أنه قد أشتهر بتلك الأغنية التي أداها الموسيقار الراحل وإمبراطور الغناء السوداني والأفريقي (محمد وردي) بذلك اللحن المتعدد النغمات (الود) حيث سبق أن طبعت بالقاهرة في أسطوانة وقد أشرف علي توزيع موسيقاها خبير الموسيقي الإيطالي بالقاهرة والذي كان يعمل بالمعهد العالي للموسيقي العربية (كونسيرت فتوار) وإسمه (اندريه رايدر) طلياني. وبعدها لم يغن له وردي قصيدة إلا بعد مرور عدة سنوات فجاءت (بناديها) تتبختر في خيلاء وترسل رسائل فلسفية عديدة في تلك الحقبة التي كان الضغط فيها عاليا من نظام مايو الحاكم علي رقاب مجمل القوي السياسية الوطنية .
ولما تغيب عن الميعاد
بفتش ليها في التاريخ
وأسأل عنها الأجداد
وأسأل عنها المستقبل
اللسه سنينو بعاد
بفتش ليها في اللوحات
محل الخاطر الماعاد
وفي الأعياد
وفي أحزان عيون الناس
وفي الضل الوقف
مازاد …. بناديها
وجدت تلك القصيدة رواجا كبيرا حين تغني بها الراحل وردي ، ثم لم تمض سنوات طويلة إلا وتأتي القصيدة الأخري لعمر الدوش ، ليغرد بها وردي ، حيث ظل وردي يعتبر أن هذا النوع من الغناء يعتبر ولوجاً إلي ما كان يسميه وردي شخصيا (بالقصائد الفلسفية) والتي لايعرف مضامينها إلا الشاعر نفسه أو إجتهاد المستمعين لفن وردي ، والقصيدة هي (الحزن القديم) والتي سبق أن حكي موقف معين حولها الأخ الأستاذ الشاعر والمسرحي الكبير والصحفي ايضا (يحيي فضل الله) المقيم بكندا حيث ذكر في مقال قديم له أن عمر الدوش لايطيق سماع تلك الأغنية ، وقد حكي فيها يحيي أنه حين كان يعتلي مع الدوش تاكسي اجرة ذات مساء من ندوة بجامعة الخرطوم إلي أم درمان حيث يقيمان ، كيف أن الدوش قد أغلق مؤشر راديو العربة التاكسي حين كان يبث أغنية (الحزن القديم) فإحتك الدوش مع سائق التاكسي وأوقفه ونزل منه ، إلي أن قام يحيي بشرح الأمر لسائق التاكسي وأن هذا هو عمر الدوش شاعر الأغنية ، وتم التصافي وركب الدوش السيارة وأغلق سائقها الراديو.
ولكن ، للدوش قصيدة قوية جدا ومعبرة وذات مضامين فيها العديد من الحكاوي ، وقام بإعطائها للأستاذ حمد الريح حيث قام موسيقار ملحن بتأليف لحنها المتعدد الألوان الموسيقية وذلك الملحن الأسطورة السوداني واليمني الأصل الراحل (ناجي القدس) وهي التي إخترناها لتكون عنوانا لهذا المقال (الساقية لسه مدورة) … هذه القصيدة فسرها الجمهور بأنها ذات مضامين سياسية بحتة إبان سنوات الضغط المايوي في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي ، حتي أن وزير الإعلام والثقافة وقتها الأديب الأريب الراحل العميد عمر الحاج موسي قد أوقف بثها عبر الأجهزة بعد أن تغني بها حمد الريح في سهرة مشهورة علي الهواء من التلفزيون. ولكن كان للدوش رأيا آخر حيث ذكر للصحف وقتها أن القصيدة تحكي قصة حياته منذ كان طفلا في شندي يكابد مع أسرته مشاق الحياة وليس لها علاقة بالسياسة او بالنظام القائم وقتها ، غير أن الجماهير كانت تعتبرها متنفساً ضد النظام وأنها من أشعار المقاومة.
وهنا نود القول أن أستاذنا الكابلي ومن فرط إعجابه بقصائد عمر الدوش قد تغني له بأغنية (سعاد) والتي كانت تأخذ إيقاع السيرة (العرضة) فتمددت ايضا وسط الناس.
وفي مجال الأعمال المسرحية ، فإن الراحل عمر الدوش قد قام بكتابة مسرحية مشهورة تم تقديمها علي خشبة المسرح القومي بام درمان وأخذت حظها من القبول في عدة عروض وقد كانت بعنوان (ياعبدو.. روق) .
ومن بعدها غادر الدوش الدنيا الفانية في بيته بامبدة بتاريخ العاشر من اكتوبر 1998م .
مقال رائع! جعلنا نسافر عبر راحلة الذاكرة للماضي الجميل الذي كان ، ونتنسم عبق أزهار النيم في ليالي صيف أمدر المُّقدسة….. كانت الخرطوم الجميلة الهادئة أندلس زمن الصفوة والصفاء وكانت لياليها تتهامس بمحبة كل الأكوان …. كنت إذا أمسيت ماشيآ على شارع النيل في الأماسي الهادئة تسمع همس أمواج الأزرق الخالد وهي تعكس إنكسارات طيف أضواء فندق السودان والفندق الكبير ، وكنت تشهد على المسطبة الشمالية لفندق السودان بضعة من جنود سلاح الموسيقى يتزيّون البناطيل السوداء الفاحمة تعلوها بذلات حمراء داكنة تتخللها خيوط وأزرار ذهبية وعلى رؤوسهم قبعات سوداء ، تشهدهم وهم يعزفون القرب الإسكتلندية والآلات النحاسية تنساب منها بهدوء بعض ألحان وردي الخالدة الوُد وبيني وبينك والأيام وعزة في هواك …. كانت الخرطوم جميلة المدائن وكانت الخرطوم أم المواهب والموهوبين الأفذاذ ، وكان رحم أمدرمان يجود بميلاد عباقرة أفذاذ ، كل في فلكه يسبح نجمآ ساطعآ: عمر الدوش ، محمد يوسف موسى ، صديق مدثر ، مستر د. ريتشارد ، مستر د. عبدالحميد بيومي ، د. إبراهيم الحضري ، د. فؤاد عبده ، مستر د. موسى ، د. إمام دوليب ، د. فتح الرحمن عبدالقادر ، د. بدوي عبدالقادر ، د. أحمد صابر … زيدان إبراهيم ، ابراهيم عوض ، الكاشف ، الفلاتيه ، عبد العزيز داؤود ، عثمان حسين ، عبد الكريم الكابلي ، إسماعيل عبد المجيد ، إسماعيل خورشيد ، الفاضل سعيد ، حمدنالله عبدالقادر ، سهام وليلى المغربي ، إدموند منير ، ابراهيم الصلحي ، الطيب محمد الطيب ، سودان بوكشوب ، مكتبة الحرية ، مكتبة أمدرمان الوطنية ، مكتبة عكاشه ، دار الأرقم ، نادي الخريجين ، البريتيش كاونسيل ، النادي الثقافي الفرنسي ، المكتبة القبطية ، مكتبة أمدرمان المركزية ، قهوة النشاط ، سينما النيل الأزرق ، سينما كولوزيوم ، المسرح القومي ….. كان عهدآ جميلآ في سفر الزمن عبر الكون ، وكان السودان ضياء الشمس التي تشرق عليه ثلاثة عشر شهرآ من إثنتي عشر العام ، كان زمن العقول الوضاءة ، كان زمن الضياء ، وكان زمن العباقرة …. وليته يعود.
دايما متميز يا ودالباشا.
شكرا لانك أوصلتني بمقالك المذهل الدافي المحزن مرحلة (الفل استوب) من القراءة و الساعة في فضاء فنلندا البارد تجاوزت الثانية صباحا .يقينا الكاتب عن هذا الرهط من المبدعين البارعين لابد ان يكون هو ايضا في قمة الابداع . و يا ربي هل سياتي يوم علي السودان يتدفق فيه يراع ليكتب عن حزمة مماثلة من المبدعين الخارقين ؟ يولدوا في اصقاع السودان و يدرسوا في كل المعاهد و يتجولون سويا ليلا في شارع النيل و مقاهي الموردة ……؟ لك التحية والاحترام
الدوش شاعر عملاق ومن المؤسف انني اعتقد بأن السودان لن ينجب مثله ابدا, كما ان السودان لن ينجب امثال وردي وكابلي وحمد الريح عليهم رحمة الله جميعا.