
تعددت الثورات على (أبو جعفر) و لكنه قضى على معارضيه من الثوار في فارس (سنباد) و العراق و الشام …. مما سبق يتضح أن المنصور ظل مشغولا بالحروب خلال التسع سنوات الأولى من خلافته (استمرت حروبه بعد ذلك لكن تلك هي أصعبها) ، فهل طلب من ابن إسحاق كتابة السيرة أثناء حروبه أم بعد ذلك ؟ الأرجح أنه فعل ذلك بعد تلك السنوات التسع المضطربة أي في عام 145 هجرية و هو العام الذي بدأ فيه بناء بغداد و الذي استغرق أربع سنوات و ربما بعد اكتمال بناء بغداد (مما يعضد ذلك رواية أن ابو جعفر أمر ابن إسحاق بكتابة السيرة في بغداد ، هناك رواية أنه التقاه في الحيرة) . فلو افترضنا أن ابن إسحاق بدأ كتابته قبل ذلك ، مثلا عام 140 هجرية فإنه يكون قد بدأ يدون بعد 130 سنة من موت النبي (ص) . يذهب البعض لافتراض أنه دون السيرة قبل ذلك و أعاد كتابتها عند المنصور ، لكن عادة ذلك الزمان كانت الحفظ ثم التدوين فيما بعد ، و في كل الأحوال تقول المراجع أنه بدأ جمع مادة السيرة بعد مرور أكثر من 120 عاما من موت النبي (ص) … إلا أن ضياع تلك السيرة يُعتبر فقد كبير للتاريخ الإسلامي ، لكن حفظ لنا التاريخ أغلبها في تلخيص و تنقيح ابن هشام لها . كان ابن إسحاق قد قسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام ، المبتدأ ، والمبعث، والمغازي ((و هو تقسيم متأثر بالخلفية الثقافية لابن إسحاق المسيحية و تدل عليه كتاباته و منها ما ترجمه عن أقوال المسيح [بتصرف بسيط] التي تتكلم عن (منحمنا) و قال أنها بالسريانية تعني (محمد) ، و هو ما سار عليه من جاءوا بعده من المسلمين . (من الواضح أن ابن إسحاق كان يعرف السريانية) ـ لا ننسى ان جده يسار كان من سبي عين التمر و قد وجده خالد بن الوليد في كنيسة عين التمر سنة 12هـ بين الغلمان الذين كانوا يدرسون المسيحية في الكنيسة فأخذه خالد إلى المدينة. و أصبح من موالي (عبيد) قيس بن مخرمة بن عبد المطلب)) فانجيل متى ينقسم إلى (البداية ثم تاتي الخدمة ، ثم الإرساليات و تشمل الموت و القيامة). تقسيم ابن اسحاق كما مر بنا : المبتدأ ما كان من أحداث و رسل ووقائع قبل الإسلام ، واعتمد على وهب بن منبه ، وكعب الأحبار، و بصورة عامة على أهل الكتاب (اليهود الذين أسلموا) . يبدأ ابن اسحاق السيرة بنسب الرسول (ص) حتى آدم مثلما يبدأ انجيل (لوقا) بنسب المسيح حتى آدم . أما الجزء الثاني فسماه(المبعث) (يشبه الخدمة في تقسيم الإنجيل) و يشمل حياة النبي (ص) قبل البعثة إلى الوحي ، ثم الهجرة، و الجزء الثالث عرض فيه الغزوات النبوية وحياة النبي (ص) في المدينة إلى مرضه ووفاته (يشبه الإرساليات في تقسيم الإنجيل) . عندما نظر البكائي تلميذ ابن اسحاق و شيخ ابن هشام في سيرة ابن اسحاق منع ابن هشام من كتابة بعضها لأسباب لم يوضحها ابن هشام و ذلك حسب رواية ابن هشام ، و ابن هشام بدوره أسقط جزءا كبيرا منها ، و لنقرأ ما كتبه عن ذلك :
“…… [تارك] أشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به ، وبعض يسوء بعض الناس ذكره ، وبعض لم يقرّ لنا البكائي بروايته، ومستقص ـ إن شاء الله تعالى ـ ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به . ” [السيرة النبوية لابن هشام/دار الفكر العربي/ بيروت/ج1/ص6] . فابن هشام اسقط كثيرا من الشعر الذي رواه ابن اسحاق (في السيرة الحلبية نجد أشعارا شنيعة منسوبة لشاعر النبي ص) في هجاء قريشيين أسلموا فيما بعد و لعل من أشنعها هجاءه لهند بنت عتبة زوجة أبو سفيان ردا على اشعارها قبل إسلامها ــ لا أجد من المناسب روايتها هنا ، و من أراد الاطلاع عليها يمكنه الرجوع للمرجع المذكور ــ و غير ذلك من الشعر الذي غالبا حفظه الرواة من سيرة ابن اسحاق المفقودة أو دونوه منها قبل فقدانها) ، اما الأشياء التي يشنع الحديث بها فذلك لتَغيُّر الأحوال و بالتالي تغيُّر الذائقة الثقافية التي كانت تقبل الكلام عن أشخاص و حوادث ايام ابن اسحاق ، ثم تدريجيا لم تعد تقبل ذلك (اليوم مثلا لا يقبل الكثيرون رواية بعض أقوال الصحابة عن بعضهم البعض ، و لا يستسيغون رواية بعض الأحاديث رغم صحتها …الخ) . أما (البعض الذي يسوء بعض الناس ذكره) فغالبا هي الروايات التي لا يستسيغها بنو العباس حينها و لا يحبون أو لا يقبلون روايتها و ترديدها و التي ربما تعرض راويها لما لا يريد ـ المجال لا يتسع للتوسع في ذلك .
إذن مرت سيرة ابن اسحاق بثلاث مراحل من الحذف و التنقيح : الأولى حذف تلميذه البكائي لأجزاء منها و الثاني حذف ابن هشام لأجزاء أخرى ، أما الثالثة فضياع اصل ما كتبه ابن هشام و وصلنا ما قال عنه الرواة إنه منقول عن الأصل الضائع … و من روى عن ابن اسحاق كما مر بنا : الطبري و الواقدي و ابن سعد و غيرهم . لن نتعرض للخلاف حول مدى موثوقية روايات ابن اسحاق التي حدث خلاف حولها فذلك أمر يطول الحديث عنه و لكن أشير لرد كثير من أحاديثه “فقبول الرواية التاريخية شيء عند المحدثين و قبول رواية الأحاديث شيء آخر .
زين العابدين حسن