فازت بالجائزة التقديرية لجائزة الطيب صالح.. قراءة أولية في رواية “فليّن .. جذور الصفصاف”

رواية “فليّن.. جذور الصفصاف” للكاتب جمال الدين علي الحاج هي رواية تغوص عميقاً في نهر الواقع الذي يجري متدفقاً تحت الأرض ومحازياً للنيل. لا يحمل مياهاً جوفية صافية إنما كدراً وعرقاً وقيحاً ودماء تنبع من بحيرة الظلم والفساد التي كانت تفور أسفل خرطوم الترك. إنها رواية صراع الطبقات المسحوقة تحت ضرس الأسياد. والمدهوسة تحت الأقدام وحوافر الخيل. منها تشكّل هذا الخليط من السائل اللزج الآسن. إنها صراع الأنسان الأزلي من أجل البقاء ليس حياً وحسب. ولكن حراً في مجتمع طبقي تباع فيه كرامة الإنسان وتشترى. وتستخرج له شهادة ملكية بأمر السلطات هي بمثابة شهادة للتملك حد الفناء. شهادة ميلاد للعبودية ووفاة للآدمية في الآن نفسه.
تصور الرواية هذه التجارة المربحة الخاسرة. تتبع مراحل إنتاجها منذ أن كانت بذرة في أرحام الأمهات. فرزها وترقيمها وتعبئتها وتسعيرها وحتى لحظة عرضها للزبون بلا تاريخ صلاحية.
كما تصور الرواية بعين الحقيقة المجردة كفاح الطبقة المستعبدة البائسة من أجل البقاء. تعيش معها حياتها في الحواري والأزقة الضيقة المكتظة بالأنفاس والأجناس والأنجاس. تعيش أحزانها وأفراحها، آلامها وأحلامها. نزقها وفسادها.
إنها رواية الخيال الذي يتلبس الواقع ويلتحم معه حد التماهي حين يكتشف العبد الخصي فلّين أن له قلباً بداخل صدره ينبض بالحب. وحين تكتشف سيسبانة الجارية الهجين الحسناء كمية الحب الروحي الذي انسكب خلسة حين انسربت روحها وانسكبت بروح فلّين لتحلق روحاهما عالياً في سموات الحب ليكتشفا لاحقاً أن للجسد لغة أخرى ليس من بينها لغة العيون.
فهل يتقاضى الحب الروحي عن مطلوبات الجسد ويحيا؟
إنها رواية الواقع الذي يفوق الخيال حين تتعثر الباخرة التي كانت في طريقها لإنقاذ الجنرال غردون بمركب صغير قبالة مدينة بربر. ومن بين النار والدخان والحطام يخرج طفل صغير لم يتعد عمره العامين. يهب الطفل واقفاً كشبح يلبس جبة مرقعة. وجهه ملطخ بالدماء والسخام. يرفع سبابتيه بوجه الجنود الإنجليز المشدوهين لحظتها ويطلقها حمما ًمتفجرة من سلاحه الطفولي الصغير ( بوم. بوم… موتوا موتوا). يعجب الجنود بجرأة الفتى فيقرروا أخذه معهم كأصغر أسير حرب في الكون. وبرغم أنهم عرفوا أن اسمه مصطفى ود بربر وأنه ابن لزعيم قبلي معروف. ولكنهم فضلوا أخذه معهم شمالاً. حملوه مثل أيقونة بدلاً من إنقاذ الجنرال غردون. في القاهرة بدلوا جبته المرقعة بلبسة أفرنجية أنيقة. وبدلوا اسمه ولسانه ودينه. ولكن ترى هل نجحوا في تغيير لونه ودمائه؟
ينشأ الطفل مصطفى الدرويش الصغير أو جيمي الصغير في مصر ويترعرع في مندلاي في بورما والهند ليعود أخيراً إلى بريطانيا باسم جيمس فرانسيس درام كأول جندي أسود بالجيش البريطاني وبمخصصات كاملة. هناك يجد الفتى الأسمر نفسه مثل شامة سوداء بوجه حسناء شديدة البياض. يهفو قلبه لشقيقة صديقه النقيب الفتاة الشابة البيضاء جين والتي بادلته الغرام بأحسن منه. فهل ينجح من قام بتغيير هويته الدينية والثقافية في تغيير نظرة المجتمع الأبيض المتحضر. أم لم يعمل لذلك حساباً؟
هذه الأسئلة الشائكة المعقدة والكبيرة تجدون إجاباتها بين السطور. لا لفضح زيف الحضارة الغربية المتقدمة وحسب بل لمقاربة ذلك الزيف مع الواقع المعاش في مجتمعاتنا المسلمة.
فلّين جذور الصفصاف صراع الطبقات والأمم والحضارات حين تستفيق أوربا على صراخ بريطانيا العظمى الهستيري صبيحة السادس والعشرين من يناير وتكتشف أن الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس قد فقدت عذريتها على يد جنود سود لم يأبه لهم أحد يوماً. يومها لم تجد بريطانيا حرجاً في أن تقف وهي عارية والدماء تسيل من بين فخذيها وتغني مع أشعار كبيلينج في الحانات الليلية. (هناك في السودان غاب عنا. غاب عنا). أولئك الحفاة العراة الذين كانوا يلبسون الجبب المرقعة حطموا كبرياء بريطانيا ومرغوا أنفها بالتراب وهم يكسرون أسطورة المربع الإنجليزي. إنهم فيزي ويزي. هذا حين كانت صرختهم (الله أكبر ولله الحمد). ولكن حينما خلطوا الدين بالعجين ونفض الإمام المهدي طرف ثوبه ثلاث مرات، وهو يقول من منبر صلاة الجمعة (ود سليمان خرب الأشراف. أنا بريء منهم دنيا وآخرة). لحظتها كان الجنود الحفاة العراة يلبسون القفاطين المنقوشة بالحرير والجبب السابلة بالأرض. ويتزوجون الأبكار مثنى وثلاث ورباع غير السراري وملك اليمين. لذا حين صرخ الأمير إبراهيم الخليل يوم الكسرة (المهدية مهديتكم إلا نحن قدنا بنسدو. المهدية مهديتكم إلا نصرة ما في. ن..صرة. ما اا ف ي). لم يسمع صدى صوته سوى جبل سركاب الصامت والقبة الفاغرة يافوخها للسماء. حينها انفتق الرتق وتكشّفت عورة الثورة والوطن الذي كانت تسترههما جبة مرقعة في يوم من الأيام.
فلّين جذور الصفصاف دموع تغسل الحزن ودموع تنبّت الفرح على الخدين. دماء تغسل عدار العار. ودماء تسقي بذور الحقيقة. حقيقة الشرف الباذخ المتوهم.
إنها ملحمة وليست رواية يذرف فيها الأبطال الدموع حزناً وفرحاً وتسيل دماؤهم وتختلط بعرقهم وأنفاسهم الحارة. يقفون أمام كاميرا التوثيق التاريخي بلا أقنعة. يحكون قصصهم بلا خوف ولا مجاملة ولا حياء.
فلّين جذور الصفصاف ليست رواية لتزجية الوقت. ولا المتعة. ولا للتثقيف حتى. إنها عمل ملحمي نهدف من ورائه إلى رتق ثوب التاريخ كثير الثقوب. إنها رواية تصور دوي تصادم الحضارات إن كان للصوت صورة واضحة غير الذبذبات التي تظهر على أجهزة الرادار. إنها رواية القصص الصادمة والأحداث الجسام والبطولة المطلقة والخيانة المتجذرة في النفوس. والحب الروحي الكبير.
إنها رواية للبحث عن حقيقة. حقيقة الأبطال المغمورين الذين صنعوا ثورة والذين لم يذكرهم التأريخ إما لوضاعة نسبهم أو لنذالة الأعمال التي قاموا بها أو لبؤس المهن التي امتهنوها.
إنها رواية الحقيقة الصادمة حقيقة مصطفى ود بربر. من هم أهله؟. كيف نستطيع الوصول إليهم؟ لا لفتق جروح قديمة. ولا لمحاكمة أحد فقد تقابلنا في ميدان المعركة قاتلنا بشرف انتصرنا في معارك وخسرنا في أخرى. ولكننا لن نفَى. نقوم بذلك لظننا الحسن أننا أحفاد أولئك الأبطال و ندين لبريطانيا العظمى باعتذار. وحتى يقف أحفاد ذلك الطفل الأسير على قبره في مدينة درام ويقرأون الفاتحة على روحه عسى الله أن يقضي أمراً كان مفعولاً.
إنها رواية الفيلم الحقيقي بلا مناظر قبل العرض ولا بعده. ليس من إنتاج هوليود ولا بليود. إنه انتاج سوداني خالص وبامتياز لأناس عاشوا على هامش هذه الحياه وقد سطروا لنا بدمائهم قصصاً لواقع كان سائداً ومعاشاً فيما مضى. وقد شكّلت حيواتهم وقصصهم وجدان هذا الشعب. فكانت ذكراهم في حياتنا كما الأثر تحدثه القدم بالطين فلا يزول.
الصيحة
يا سلام ياسلام متعك الله كما متعتنا