غرق القرى… متى نستوعب الدرس؟

الليلة الصعيد أمسن بروقو يرفن
طلق نسامو قلّع مزنا بعيد ومدفن
نووا النجعة ناسا تلوب مو درفن
وستات دورنا فوق الضعاين قفن
(محمد قش)
لا يفرح ويتباشر أهل السودان عموماً، وكردفان على وجه الخصوص، بموسم كفرحتهم واستبشارهم بفصل الخريف الذي يعني الحياة والخير والنماء؛ لأنه يحمل إليهم الماء والخضرة وينبت الزرع ويملأ الضرع وبذلك يجلب العافية والصحة والبهجة والحركة الاجتماعية والاقتصادية ويحرك الوجدان! ونجد كل ذلك واضحاً في قول الشاعرة الكباشية وهي تستشرف الخريف مع ظهور أول علاماته المتمثلة في ظهور السحب الأولى التي تسمى “أم بشّار” أو “صفيحات الغزل”:
من طيرة أم بشّار
جانا السلف قطّار
إتلموا يا عمّار
فُرقْ الموالف حار
ومع أن الأمطار هي دائماَ “بشارة خير” إلا أنها قد تحمل معها بعض المخاطر المتمثلة في غرق بعض القرى التي تقع على مقربة من مجاري الأودية أو تلك التي تقام على مصبات الأودية. وقد تكررت هذه الحوادث أكثر من مرة وفي عديد من القرى إذ غرقت حمرة الوز في شمال كردفان قبل سنوات وحدث نفس الشيء في قرية شرشار وذلك لأن القاسم المشترك هنا هو وقوع هذه القرى على مقربة من أماكن تجمع مياه الأمطار مثلما هو الحال في شرشار إذ توجد بها أضاة “أم تابة” وبالتالي تجتاحها الأودية المنحدرة من بعض الجبال والمناطق المرتفعة إلى الشمال والغرب منها. هذا العام تضررت قرى أم ضبان والكوكيتي بمحلية غرب بارا في شمال كردفان والسبب كما هو معروف ووقوع القريتين على مجاري المياه ومصباتها. وكما هو معروف فإن المنطقتين هما مركزا إنتاج زراعي وحيواني لهما أهميتهما في الاقتصاد والسوق المحلي للولاية. ولهذا السبب فإن أي ضرر يصيبهما قد لا يقتصر على ساكنيها فقط بل قد يمتد إلى ما جاورها من قرى وبلدات؛ لأن أم ضبان على سبيل المثال هي واحدة من مناطق إنتاج الدخن في شمال كردفان والكوكيتي تمثل مركزاً تجارياً كبيراً في مجال تجارة المواشي وإنتاجها. ونحن إذ نثمن الجهود التي بذلتها حكومة الولاية وبعض المنظمات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى لإغاثة المتضررين جراء الأمطار الأخيرة نهيب بالجهات المعنية أن تضع حلاً جذرياً لهذه المشكلة حتى لا تتكرر في مقبل الأعوام. وأول خطوة ينبغي اتخاذها في هذا الصدد هو ترحيل المساكن إلى المناطق العالية والرملية بجوار القرى بعيداً عن مجاري الأودية. وبما أن الأمر ينطوي على بعض المتطلبات المالية ينبغي على حكومة الولاية والمواطنين أن يتوافقوا على آلية قابلة للتنفيذ يتم بموجبها تخفيف العبء على المواطن وتشجيعه على تحسين نوعية المباني وتخطيط القرى تحت إشراف وزارة الشؤون الهندسية ووزارة الرعاية الاجتماعية والجهات الأخرى المعنية وإنشاء صندوق خاص لهذا الغرض، على أن يكون هنالك أمر ملزم في هذا الصدد صادر من الجهات الحكومية ومجلس الولاية التشريعي والإدارة الأهلية مع ترتيب ملكية الأرض حتى لا تحدث خلافات أو مشاجرات بين الأهالي خاصة إذا علمنا ما يكتنف هذا الجانب من حساسية في المناطق الريفية. وبشكل عام يتطلب الموقف تحركاً سريعاً تلافياً لما قد يطرأ على النفوس من تكاسل إذا تقاعس الناس وظلوا مكتوفي الأيدي حتى موسم الخريف القادم. وحسب علمي فإن هنالك جهات كثيرة تنشط من أجل درء هذه الكارثة وإغاثة أهالي المنطقتين ونسأل الله أن يجعل هذا الجهد في ميزان حسناتهم ولكننا في ذات الوقت نطالبهم بتكملة جميلهم حتى إذا تطلب ذلك استقطاب الدعم والمساندة من الحكومة المركزية والمنظمات الخيرية الوطنية منها والعالمية لأن الوضع يحتاج معالجة شافية تضع حداً لحدوث الغرق مستقبلاً وتغير حياة الناس إلى ما هو أفضل حتى يتفرغوا لمعايشهم. بالطبع هنالك إجراءات معقدة فيما يتعلق بهذا المقترح ولكنها في ذات الوقت لا يمكن أن تكون عائقاً في سبيل تنفيذه خاصة إذا استطعنا إقناع المواطن بجدوى هذا التوجه على أن يتولى ذلك ذوو الخبرة والشفافية والأمانة حتى لا تضيع الجهود والأموال عبثاً. ولا يفوتنا أن نقول لأهلنا في أم ضبان والكوكيتي أن قلوبنا معكم ومتى طلبتم منا العون والمساعدة فنحن والله على أهبة الاستعداد وكان الله في عونكم وكل ما هو مطلوب منكم في هذه المرحلة هو السعي الدءوب لوضع هذا المقترح موضع التنفيذ لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين والحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى الناس بها، والحكمة في هذه الحالة تقتضي نقل المنازل والمنشآت الأخرى إلى مناطق آمنة وليست بعيدة من القرى القائمة حفاظاً على الأرواح والممتلكات. ويا ليت أن شبابنا في إتحاد أبناء دار حامد يتولون زمام المبادرة بالتنسيق مع الجهات الرسمية والشعبية خدمة لذويهم وأهلهم في أم ضبان والكوكيتي وغيرهما من قرى ومدن ديارنا الحبيبة. وعلينا بذل جهد مضاعف لكي نقيل عثرة أهلنا حتى تعود الديار التي ذكرتها إلى سابق عهدها فقد كانت سابقاً قبلة الناس في الخريف.