مقالات وآراء سياسية

الفكر السوداني هل يستطيع أن يلحق بمجد العقلانية؟..

طاهر عمر

بعد خمسة سنوات سيتذكر العالم مرور قرن من الزمان على الكساد الإقتصادي العظيم عام 1929م وكانت فرصة عظيمة أن يظهر روزفلت كشخصية تاريخية ويحيط نفسه بمشرعيين يواجه بهم لحظة إنقلاب زمان تحتاج للحكماء والفلاسفة والأنبياء. عندما قابل جون ماينرد كينز روزفلت وصفه بأنه سياسي ملم بما ينبغي فعله لمواجهة الكساد الإقتصادي ووجده مدرك بأن فلسفة التاريخ التقليدية قد وصلت لمنتهاها وأن ليبرالية حديثة تشق طريقها بصعوبة ولا يمكن تحقيق ذلك بغير فلسفة تاريخ حديثة تتيح فرصة التدخل الحكومي وتعلن نهاية فلسفة اليد الخفية لادم اسمث وفي نفس الوقت ترفض فلسفة اليد الحديدية التي إتصفت بها الشيوعية كشمولية بغيضة.
نجح روزفلت وعبر من حقبة الكساد الإقتصادي العظيم وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا مرغمة اقتصاديا بأن يكون اقتصادها متغير تابع للإقتصاد الأمريكي بعد تدخل أمريكا في الحرب العالمية الثانية 1941م وبعد نهاية الحرب كان تمويل مشروع مارشال مشروع إعمار أوروبا من دمار الحرب العالمية الثانية. قبل الكساد الإقتصادي بقليل نشرت أفكار ماكس فيبر وحديثه عن عقلانية الرأسمالية ونقده للشيوعية وبعده واصل ريموند أرون في نقده للشيوعية والنازية والفاشية بأنها نظم شمولية بغيضة تجسد لحظة الفكر العابر والمؤقت وهي لحظة نهاية الليبرالية التقليدية وبداية الليبرالية الحديثة وأن الشيوعية لا تجذب غير المثقف المنخدع بماركسية ماركس.
أحتاجت أفكار ريموند أرون وأفكار مدرسة الحوليات الفرنسية لثلاثة عقود حتى تصل وتصبح روح مراكز البحوث وتصبح مقبولة في الجامعات الفرنسية وأصبح فكر توكفيل ومسألة التحول في المفاهيم فيما يتعلق بممارسة السلطة ومفهوم الدولة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية أكبر حائط صد لأفكار ماركسية ماركس.
الحقبة التي تزامنت مع لحظة الكساد الإقتصادي العظيم ولحظة ظهور النظرية الكيزنية ومسألة التدخل الحكومي في النظرية العامة وفيها يدمج كينز كتابي ادم اسمث ثروة الأمم ونظرية المشاعر الأخلاقية ليخرج بفكرة التدخل الحكومي ومسألة الإستهلاك المستقل عن الدخل كانت فيها النخب السودانية قد بدأت إهتمامها بأدب الحضارة الإسلامية التقليدية بتعليم ضعيف فكان البون شاسع بينها والنخب في المجتمعات المتقدمة مقارنة بجهود ماكس فيبر في عقلانية الرأسمالية وريموند أرون وفلسفة التاريخ الحديثة وكينز ومسألة التدخل الحكومي الذي يبعد كل من اليد الخفية لادم اسمث واليد الحديدية للفكر الشيوعي الشمولي.
حينها كانت النخب السودانية في بداية ثلاثينيات القرن المنصرم حبيسة لغة عربية متحجرة كما وصفها هشام شرابي لا تصلح غير أن تكون مرتع للفكر اللاهوتي الديني وبالتالي لم تنتج في السودان غير أدب الهويات في تجاهل مخزئ لأدب الحريات. عندما إنتهت الحرب العالمة الثانية عام 1945م ظهرت الأحزاب السودانية بفكر بائس نتاج مثقف سوداني حبيس لغة عربية متحجرة ولم تظهر غير أحزاب هي نفسها قد أصبحت مرتع فكر لاهوتي ديني سواء كان في حزب الأمة أو في حزب شيوعي سوداني يتبنى ماركسية تقليدية كدين بشري أي ماركسية غائية لاهوتية دينية لا تجذب غير مثقف منخدع بماركسية ماركس وقد رأينا كيف كان عبدالخالق محجوب يبحث لدور للدين في السياسة السودانية وتبعه محمد ابراهيم نقد لينتهي بعلمانية محابية للأديان.
منذ منتصف الأربيعينات وظهور الأحزاب السودانية يغوص السودان في وحل أحزاب اللجؤ الى الغيب أو أحزاب أيديولوجيات متحجرة كحال النسخة الشيوعية السودانية المتكلسة. بعد الإستقلال 1956م لم تنتبه النخب السودانية للتحول في المفاهيم ولم تلاحظ النخب السودانية بأن فكر توكفيل قد إنتصر على ماركسية ماركس وريموند أرون قد إنتصر على سارتر وقد أصبحت علاقة الرأسمالية علاقة طردية مع التحول الديمقراطي وعلاقة عكسية مع الشيوعية وبالتالي لم تهتم النخب السودانية بما لحق حقول الفلسفة السياسية والفلسفة الإقتصادية من تحول في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة ومفهوم ممارسة السلطة والنتيجة نخب سودانية لا تعرف غير محاصصة السلطة وليست ممارستها لأن ممارسة السلطة في المجتمع الحديث تعني علاقة الفرد بالدولة مباشرة بعيدا عن مركز وهامش لتحقيق فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد كما نجدها في فكرة الإستهلاك المستقل عن الدخل في الكينزية وهنا تتضح فكرة عقلانية الرأسمالية في فكرة الإقتصاد والمجتمع في فكر ماكس فيبر.
في نهاية الستينيات في السودان صادفت ثورة الشباب في فرنسا عام 1968م وإنقلاب النميري في السودان عام 1969م وهنا يمكننا الحديث وبشكل واضح كيف كان تأثر النخب السودانية بفلاسفة ما بعد الحداثة في هجومهم على العقل والفكر العقلاني وهجومهم على أفكار الحداثة وهنا يتضح جليا بأن النخب السودانية كانت في إنقلاب مايو ضحايا إلتباس فكري عند أتباع اليسار السوداني المتكلس فيما يتعلق بمفهوم الدولة وممارسة السلطة وحينها كان فلاسفة ما بعد الحداثة يساوون ما بين النظم الشمولية والديمقراطية الليبرالية ولذلك كانت ثورة الشباب في فرنسا ثورة وعي زائف كما وصفها ريموند أرون متحدي فكر فلاسفة ما بعد الحداثة.
إستمر اليسار السوداني في إلتباس فكره عن مفهوم الدولة كمفهوم حديث وكذلك مفهوم ممارسة السلطة محاولا في إنقلاب هاشم العطا عام 1971م مما يدلل على غياب أفق مفهوم الدولة كمفهوم حديث ومفهوم ممارسة السلطة وفقا لقيم الجمهورية والديمقراطية الليبرالية في وقت بداءت في أوروبا موجة التنبؤ بسقوط الشيوعية وبعد إنقلاب هاشم العطا بأقل من عقدين إنهار جدار برلين وإختفت الشيوعية بشكل تراجيدي.
تأثر النخب السودانية بفلاسفة ما بعد الحداثة ومساوات فكرهم بين الشيوعية كنظام شمولي بغيض والليبرالية جعل النخب السودانية غير مبالية ولم تلتقط إشارة معنى إنهيار جدار برلين عام 1989م المتزامن مع مرور قرنيين على ذكرى الثورة الفرنسية وإنتصارها لقيم الجمهورية ومواثيق حقوق الإنسان التي تعني نهاية الفكر الديني وللمفارقة العجيبة فاذا بإنقلاب الحركة الإسلامية يحدث في السودان 1989م في نفس عام سقوط جدار برلين.
وهذا مؤشر يؤشر بأن النخب السودانية خارج النموذج لأن إنهيار جدار برلين للشعوب المتقدمة يعني نهاية الشيوعية ونهاية الفكر الديني وعندنا في السودان كان بداية للحركة الإسلامية لكي تمارس جهلها لثلاثة عقود والنتيجة معروفة للكل تدني حاد في مستوى وعي النخب السودانية إسلاميين ومعارضة فاشلة أضاعت فرصة إنجاح ثورة ديسمبر ثورة شعب متقدم على نخبه.
ما أود أن أنبه له في هذا المقال يجب على النخب السودانية أن تعرف بأن هناك فرق شاسع بين الشيوعية كنظام شمولي لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس ويعتبر الدولة أداة في يد الطبقة المهيمنة لكي تزداد هيمنة على بقية الطبقات وهذا فهم غير صحيح مع المقارنة بالتحول في المفاهيم مع تطور فكر فلسفة التاريخ الحديثة والليبرالية الحديثة حيث أصبحت الليبرالية أقرب الطرق لتحقيق معادلة الحرية والعدالة وهدفها تحقيق المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد. ونجده الآن في فكرة الضمان الإجتماعي في الدول الاوروبية ونجد أن الأحزاب الشيوعية في الغرب وكذلك الأحزاب الإشتراكية قد أيقنت من صحة نظم الإنتاج الرأسمالي وفي مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم نجد فرانسوا ميتران أدخل فكرة الحد الأدنى للدخل مستفيد من المعادلات السلوكية في النظرية الكينزية وهي تتحدث عن الإستهلاك المستقل عن الدخل. هذا ما فات على أتباع النسخة الشيوعية السودانية المتكلسة في تأثّرها بأزمة النخب العربية كما تحدث عنه هشام شرابي عن عداءهم الدائم للفكر  الغربي.
عليه تصبح الديمقراطية الليبرالية ليست نظام حكم فحسب بل فلسفة لتحقيق فكرة المساواة بين أفراد المجتمع وقد أصبحت بديلا للفكر الديني وفقا لفكر توكفيل في ديمقراطيته حيث يصبح الدين شأن فردي ويجرد الدين من أي قوة سياسية ومن أي قوة اقتصادية ويصبح أفق الرجاء للفرد في مواجهة مصيره فيما يتعلق بايمانه وشأنه كفرد وليس كما هو سائد الآن في خطاب أتباع المرشد والامام والختم في السودان حيث نجد قوة الدين السياسية في طرح وحل فكر الخطاب الديني وكذلك في نشاط اقتصادي تمارسه البنوك الإسلامية في ظل عجز النخب السودانية عن تحدي تراث إسلامي عن الربا في مقابله نجد أن جون كالفن تحدى تراث يهودي مسيحي متراكم لمدى ثلاثة ألاف من السنيين عندما أصبح الأب الشرعي لفكرة سعر الفائدة متخطيا فكر رجال الدين عن الربا. وهنا تظهر فكرة عقلانية الرأسمالية.
في ختام هذا المقال نقول للقارئ أن فشل النخب السودانية في ثورة اكتوبر 1964م وفشلهم في تحقيق أهداف ثورة أبريل عام 1985م وفشلهم في تحقيق شعار ثورة ديسمبر حرية سلام وعدالة يؤكد فشلهم السياسي ويطل سؤال مهم لماذا هذا الفشل السياسي الدائم للنخب السودانية؟ وللأسف لا تجد الإجابة في جهود النخب السودانية الفكرية من أقصى اليسار السوداني الرث الى أقصى يمينه الغائص في وحل الفكر الديني ولكن يمكن أن تجد الإجابة في كتاب هشام شرابي النقد الحضاري للمجتمع العربي وفيه يتحدث عن أن الفشل السياسي للنخب في العالم العربي التقليدي كامن في أزمة الحضارة الإسلامية العربية التقليدية وكذلك في أزمة الثقافة العربية التقليدية وكامن في عداءها الدائم للحداثة إلا أنه يظل يؤكد على أن الإنسان محكوم بالحرية ومسألة الحرية في المجتمعات التقليدية آتية كما تؤكد نظريات النمو الإقتصادي أن مسألة إنعتاق العالم العربي مسألة وقت لا غير وحينها لا يمكن أن تفشل الثورات كما فشلت ثورة اكتوبر في السودان وثورة ابريل عام 1985م ونقول للنخب السودانية ينتظركم الكثير لإنجاح ثورة ديسمبر وإنزال شعارها حرية سلام وعدالة وأوله الإنتباه لأزمة الحضارة العربية الإسلامية التقليدية وأزمة الثقافة التي يتبعها أتباع الختم والمرشد والامام ويفرضونها كخطاب يجسد وحل الفكر الديني في السودان ولا يجيد إلا إفشال الثورات ولأبد الفشل السياسي.

[email protected]

‫3 تعليقات

  1. الشيوعية متكلسة ولا غير متكلسة هذا شئ لا قيمة له في ظل واقعنا المعاش و كذلك نقد الأحزاب. انا الان عندما انظر للدمار الذي تسبب فيه الإسلام السياسي منذ العام 1989 و إلى اليوم ، اتساءل من يتحدث عن سلبيات او اخفاقات جهة سياسية اخرى!!

  2. ما دام انت بتكتب و تنشر يا طاهر عمر ما اظن
    الفكر السوداني هل يستطيع أن يلحق بمجد العقلانية؟
    هون علي نفسك شوية و امشي أقرأ كويس
    لن تكتب كتابة جيد ما لم تتخلص من تحيزاتك الفكرية التي تشبه المعتقدات الدينية
    انت محتاج تتحرر من تحيزاتك

  3. فلنقاي الله ضنعا !! اعمي ومسكوه عصاية ريموند أرون … ويلا هاك يا تشنجات لا ارادية يردد شيوعي .. شيوعية .. شيوعيين .. الشيوعية !!
    وأنا العميان ما بشوف بعمط الصوف !!
    اللهم ان كان سحراً فابطله ؟؟!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..