مقالات وآراء

هل ترك فينا الترابي مفتاحاً لثنائية العلمانية والدينية

عبد الله علي إبراهيم

سئل رمز من رموز قحت في أول الثورة عن “هوية الدولة” التي يزعمون بنائها من جهة علاقتها بالإسلام. فقال إن ذلك مما سنؤجله إلى ما بعد انتخابات نهاية المرحلة الانتقالية وقيام الجمعية التأسيسية. وكان ذلك حسن تخلص لا إجابة. فلا يصح لمن أنفق ثلاثين عاماً معارضاً ألا يكون قد رسم صورة ولو عامة لهذه الهوية. ومع ذلك لا يستغرب المرء هذا التسويف منه ومن جماعته. فحتى صورتهم لما يكون عليه اقتصاد الانتقالية انتظرت سقوط الإنقاذ لينعقد مؤتمر لها لم يشف غليلاً. وتركهم متنازعين قبله مثل بعهده. وكنت بسبيل تدارك هذا النقص في صورة هوية دولة الثورة في لقاء لي بالسودانيين في مدينة دنفر كولورادو الذين دعوني مشكورين للحديث لهم عن شأن في الثورة. واخترت أن يكون عن خطة تجاوز ثنائية العلماني والديني بطريق طرقه الدكتور حسن الترابي واستحسنته. ولو قلت لك أن كلمتي لم تقع لهم أكون قد قلت النذر عن استجابتهم. وأنشر هنا ما اتفق من الترابي لي عن تجاوز هذه الثنائية.

مرت بيوم الخامس من مارس الجاري (٢٠١٨) الذكرى الثانية لرحيل الدكتور حسن الترابي عن دنيانا. وتصادف أن سألني في هذه الأيام سائل عن فقه الحكم متى حلّت الإنقاذ عن سمائنا. وواضح أن وجهة الثورة هي استبدال الإنقاذ بدولة مدنية حتى لا نقول علمانية. وبدا لي أن السائل مشفق من جهة هذا الكائن المسمى “دولة مدنية”. وأراد أن يطمئن أن هذه الدولة ليست خصماً للإسلام ولا خصماً منه. وتصادف أن كان هذا السؤال شاغلي لعقود سعيت فيها للخروج بنا من ثنائية علماني-ديني التي وقعنا مغمضي الفكر في براثنها بينما هي صناعة كشفتُ النقاب عن تاريخها في كتابي “الشريعة والحداثة”. وقد أعود إليها. ووجدت في اجتهادات أخيرة للترابي مادة حسنة لصقل أدوات هدمي للثنائية وتجسير ما بين أطرافها.
لو قرأت فصل الحركة الإسلامية من كتابي “بئر معطلة وقصر مشيد” سترى كيف اضطربت الحركة بمشروعها المركزي في التمكين لشرع الله الذي تؤوب به الدولة الي الدين عن طريق التراضي على دستور إسلامي، أو فرضه. وقد استبدت بها هذه الفكرة استبداداً لم تحسن به تنزيلها بلطف وسداد في الوطن. ومن أراد التوسعة عن حصاد الحركة الإسلامية المؤسف من مشروعها في تديين الدولة فليقرأ كتب الدكتور البوني في هذا الباب.

بعد هذا التيه الدستوري والعقدي المشاهد جاء الترابي بفقه في علاقة الشريعة والحكم يستحق الوقوف عنده متى أردنا تجاوز الثنائية العقيمة: دولة للشريعة أو دولة علمانية. وبدأ فقهه بإضافة “الدولة” كركن من أركان الاجتهاد في الشريعة إلى جانب مصادره الأخرى المعروفة. وكان هذا بعض أسباب تكفير الدكتور جعفر شيخ إدريس، رفيقه اللدود منذ ستينات القرن الماضي، له في التسعينات. فمؤدى اجتهاد الدولة، في رأي الترابي، في تَنَزُل الشريعة، كمصدر للتشريع، من خلال سلطة الدولة التشريعية المنتخبة مثل الجمعيات التأسيسية والبرلمانات.
أراد الترابي بجعل الدولة منصة اجتهاد لجم طبقتين من المثقفين عن التشريع كفاحاً هما صفوة الثقافة الحداثية وطبقة الفقهاء رجال الدين. وسنؤجل النظر في مآخذه على الطبقة الحداثية كمشرع. ولكن ستجده صب جام نقده على رجال الدين الذين هم في نظره فئة طرأت عليه وليست منه. فهي عنده من “أمراض التدين” الذي هو، خلافاً للدين الأصل، حصيلة كسب المسلمين التاريخي. ومن رأيه أن هذه المشيخية استلبت التشريع من الدولة ومن الأمة جمعاء وجعلته حكراً لها تقرر وحدها فيما يوافق الدين من الحادثات وما لا يوافقه.
وسعى الترابي من الجهة النظرية إلى شكم هذه الطبقة في حركته الإسلامية وفي الدولة. فجردها من سلطات ثلاث كانت سبب وجودها وشوكتها. أولهما احتكار الفٌتيا في مسائل ابتلاء المسلمين بالحداثة دون سائر المثقفين والمهنيين. وثانيهما رفعه للمذاهب (شافعية ومالكية إلخ) والنحل الإسلامية (شيعة وسنة) التي وصفها بأنها من التدين لا من الدين. وثالث السلطات المنزوعة من المشيخية هي الزعم بعصر ذهبي إسلامي مضى ولم يبق لنا سوى أن نكون سدنة نحفظ بقية الدين. فمن عقيدة الترابي أن هذا العصر الذهبي في رحم المستقبل لا في الماضي.
أما من جهة الممارسة فقد سعى الترابي لكيلا تستقل المشيخة بمنظمة سلطانية قابضة. فقد وقف بقوة ضد قيام المجمع الفقهي بالخرطوم بعد قيام دولة الإنقاذ حتى لا يطرأ لأهله، من فوق هذا المنبر السلطاني، أنهم سدنة التشريعً يجترحونه غير مبالين بضروب علوم الدنيا الأخرى. ولم يقم المجمع الفقهي الكائن إلا بعد خسران الترابي في مفاصلة الحركة الإسلامية المعروفة في 1999.
وسنحاج أنه لن يجد معارضو جعل الشريعة مصدراً (أساسياً أو سواه) للتشريع حجة عليها طالما اقترن تنزيلها من خلال مؤسسة التشريع في الدولة-الأمة. فمتى اتفق لهؤلاء المعارضين هذا التنزيل المؤسسي للشريعة أمنوا من خوف المباغتة. فقد جاءتنا شريعة نميري في 1983 بليل تهامس بها “رجلان وامرأة”، في قول الدكتور منصور خالد، من ناشئة القانونيين حذرهم نميري من الخوض في أمرها مع الترابي كما هو معروف. وجاءتنا في 1989 كأمر واقع لاغتصاب الحركة الإسلامية الحكم بليل أليل.

‫3 تعليقات

  1. من الضروري استخدام تعابير وجمل اكثر وضوحا وايسر للفهم عن تناول مثل هذا الموصوع الشائكة خاصة وللناس حساسية مع كل ما يتعلق بالترابي بسبب ما جره مشروعه الوييل علي البلاد والعباد.
    زادك الله بسطة في الغة واستخدام الاسلوب المناسب في المكان المناسب.

  2. القرآن الكريم قالها صريحة: {وأمرهم شورى بينهم} وتعني إمارتهم شورى بينهم في ديمقراطية بالباب … وجعل جهنم مرصاداً ومآباً للطاغين (طاغية وجنوداً وسدنة) وبدون أي استثناء لجهل أو حسن نية …

    وهذا هو إسلام القرآن …. ديمقراطية في السلطة والحكم … ووصايا صراط مستقيم تقول إذا قلتم فأعدلوا، وبعهد الله أوفوا، وزنوا بالقسطاس المستقيم … وصلاة وسطى يقول حاج حمد بأنها تطبيق ما نقرأه من قرآن في صلاتنا اليومية.

  3. نرجوا الاستمرار فى هذا النهج الفكرى عبر قنوات التواصل الاجتماعى لان الناس انشغلوا بها وابتعدوا عن قراءت الكتب لعل الله يجمع الناس على كلمة سواء ويذهب عنهم هذا الاختلاف الذى مرده الاول هو عدم الفهم الصحيح للامور.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..